ينهمك المؤرّخ البريطاني بيتر فرانكوبان في استطلاع «طرق الحرير»، أي المفاصل والمعابر والشرايين التي تربط أرجاء العالم منذ القدم، ويحاول كتابة «تاريخٍ جديدٍ للعالم» يتمركز حولها. من هنا، إنّ كتابه «طرق الحرير: تاريخٌ جديد للعالم» (بلومزبيري، 2015) يحاول، في أقلّ من 600 صفحة، أن «يعيد تدوين التاريخ» - من أيام الأخمينيين والإسكندر المقدوني، وصولاً إلى 11 أيلول وحرب العراق - وفق هذه النظرة. للحقّ، إنّ قراءة كتاب فرانكوبان، رغم أنه نال شعبية كبيرة ونجاحاً في الانتشار (أو ربما بسبب ذلك)، لا يشبه أن تقرأ الأعمال البارزة في الـ«ماكرو-تاريخ»، التي يحاول الباحث البريطاني أن يسير على طريقها. أنت لن تخرج منه، مثلاً، بمنهجيّةٍ تحلّل من خلالها عمليّة تاريخيّة عظيمة ومعقّدة، كما في كتب إيمانويل والرستين عن تشكّل النظام العالمي الحديث أو أعمال فرنان بروديل أو إريك هوبسباوم. «التاريخ البديل» عند فرانكوبان هو مجرّد «إعادة ترتيب» للسرد وللأحداث، بالاعتماد على فكرتين ناظمتين بسيطتين سنعود إليهما بالتفصيل. وفي ثنايا هذا السّرد كمية هائلة من المعلومات والقصص و«الطرائف» قد تكون، في الحقيقة، أفضل ما في الكتاب.على الهامش: في موضوع القراءة والمعرفة، قد يرى البعض أن أعمالاً لكبارٍ مثل والرستين أو بروديل يجب أن تكون بمثابة «قراءة الزامية» لكلّ من يريد أن يتعلّم عن عالمه وتاريخه، وأنها يجب أن تخرج من نطاق المختصين والباحثين إلى الجمهور الواسع (كتاب بروديل الأوّل، مثلاً، عن «المتوسّط في عصر فيليب الثاني»، هو مدهشٌ لمن يعيش في بلادنا. بعد أن تقرأه، انت ستنظر إلى محيطك وإلى الساحل الذي أمامك بعيونٍ جديدة، وستفهم أموراً عن المسافات بين المدن، وسبب عمار منطقة وفراغ أخرى، وحتى عن الطوبوغرافيا وعلاقة الساحل بالجبال، لم تكن تفكّر فيها من قبل). من جهةٍ أخرى، إنّ العمر قصير والقراءة الجدّية تستهلك وقتاً طويلاً، وممارستها امتيازٌ وترف. بحسبةٍ بسيطةٍ وجدت أنك، حتّى تقرأ عمل والرستين عن النظام العالمي بأجزائه الأربعة (وحده، بين أعمال والرستين الغزيرة) وبروديل عن المتوسّط (وهو في جزأين، يقارب واحدهما الألف صفحة)، فإنّ الوقت الذي تحتاجه - لهذين العنوانين فقط - يحتاج مثلاً لأن تفرّغ شهراً أو شهرين من حياتك ولا تفعل شيئاً آخر غير القراءة - ومن في مجتمعنا المعاصر لديه هذا المقدار من الوقت والفراغ الذهني؟

حين كانت الثروة في الشّرق
من الممكن تتبّع سرد فرانكوبان عبر فكرتين أساسيّتين: أولاً، إن تاريخ البشرية هو تاريخ سبل التواصل بينها، «طرق الحرير» التي أخذت معابر مختلفة ونقلت بضائع متنوعة عبر الأزمنة. و تبعاً لذلك، إنّ المنطقة الأهمّ وذات المركزية التاريخية بالنسبة إليه هي تلك التي يسمّيها «عمود آسيا الفقري»، أو الجسر الجغرافي بين أوروبا وشرق آسيا. يمكن تخيّل هذه المنطقة كمستطيلٍ هائل، تمتدّ أضلعه بين البحر الأسود وساحل سوريا ومصر من جهة، وجبال الهندكوش وحدود الصين من الجهة الأخرى. وبينها العراق وإيران، وسهوب وسط آسيا وسهول أوكرانيا وروسيا، إلخ. هذه البقعة من الأرض هي المسرح الأبرز للتاريخ عند فرانكوبان وميدان المطامع الكبرى ومهد الإمبراطوريات. هي التي وحّدها الإسكندر بالغزو وبنى منها إمبراطورية، ثمّ سيطر عليها العرب وأسسوا فيها حضارة، ثمّ وحّدها المغول من جديد.
من جهةٍ أخرى، يقول فرانكوبان، وفي أغلب مراحل التاريخ، كان الشّرق أكثر ثراءً بكثيرٍ من الغرب. حين قام الإسكندر ووالده بتوحيد مقدونيا واليونان، والسيطرة على محيطهم، لم يفكّرا حتّى في التوجّه غرباً، فلا شيء يستحقّ الفتح هناك، بل خطّط فيليب لحملةٍ - نفّذها ابنه ببراعة - ضدّ الفرس الأخمينيين في الشرق، تستولي على مدنهم الباذخة وثرواتهم الهائلة. وأوّل ما فعله الإسكندر كان التوجّه جنوباً صوب مصر، التي قدّمت إليه - مع العراق وسوريا - قاعدةً حقيقية لإمبراطورية عالمية. في موضوع الإسكندر، أذكر أنّه أيام الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في الثمانينيات، استُعيدَت قصّة صور ومقاومتها الشّرسة لغزو الإسكندر، وأصبحت رمزاً حاضراً في الذاكرة الشعبية والشعارات والخطب والأغاني. ملحمةٌ عن نبل المقاومة في وجه القوة العاتية (سكّان المدينة أخذوا قراراً بالصمود على عكس جيرانهم، فأرسلوا الأطفال والنساء إلى قرطاج، ثمّ تحصّنوا في جزيرتهم وتمكّنوا من إفشال هجمات الإسكندر مراراً وتأخير زحفه لأكثر من ثمانية أشهر). اليوم، بعد عقدين على تحرير الجنوب، غابت هذه القصة إلى حدّ ما ولم تعد تُستحضر كالسابق في السياسة والثقافة - وقد يكون مردّ ذلك، جزئياً، إلى أنها تنتهي باقتحام الإسكندر لصور، وإعدام ستة آلاف من محاربيها، ثمّ استعباد من بقي من أهلها، نحو ثلاثين ألفاً، وقد كان لـ«أخوات» صور الفينيقية دورٌ رئيسي في إسقاط المدينة.
روما لم تصبح ثريّةً حقّاً، وينفجر فيها البذخ والترف - واستيراد الحرير والبورسلين وغيرها من البضائع الثمينة، وبكميات ضخمة، من الشرق الأقصى - إلا بعد استيلائها على مصر ومدخولها الهائل، يكتب فرانكوبان. روما «المبنية من رخام»، ذات المعابد المنيفة والمباني العامة التي نرى آثارها اليوم، هي روما الإمبراطور أغسطس ومن خلفه، وليست روما الجمهورية أو روما يوليوس قيصر، فتلك كانت لا تزال «مبنية من الطوب». حين حظي مارك أنطوني بمصر في التقسيمة الشهيرة للعالم الروماني، ثمّ استولى على سوريا، لم يعد يهمّه أن يرجع إلى روما بعد أن أصبحت بين يديه ثروات لم يحلم بها أيٌّ من أسلافه أو معاصريه. بل إنّ فرانكوبان يخبرنا بأنّه، في تلك الحقبة، كان المثال الروماني عن المكان المترف والحياة الرغيدة - والانحلال الأخلاقي - هو منطقة سوريا تحديداً: مدنها ثريّة، طقسها جميل، وأهلها يتفنّنون في أصناف اللباس والطعام والمخدّرات، والنخبة الرومانية تنقل عنهم بهوس وتستورد أسلوب حياتهم. حتّى المغول، في القرن الثالث عشر، اقتحموا شرق أوروبا بسهولة وأحرقوا نصف هنغاريا وبولندا، وقتلوا الملك الهنغاري وأبادوا نخبة جيشه وفرسانه، ولكنّهم لم يهتمّوا بتوسيع الحملات صوب الغرب (مع أنّ الأمير المغولي سوبوتاي أرسل يومها رسالةً إلى ملك فرنسا ينصحه فيها بالخضوع قبل أن يصل إليه بجيشه). انهمكت سلالة جنكيز خان، بعد ذلك، بترسيخ وجودها في الصّين وإيران، وخططوا لحملةٍ على مصر وشمال إفريقيا، وسبب ذلك، يحكم فرانكوبان، أنه لم يكن في غرب أوروبا يومها ما يُغري بالفتح.

الحضارة والتجارة
يقسم فرانكوبان كتابه إلى فصول، كلٌّ باسم «طريقٍ للحرير»: طريق الذّهب، طريق الفراء، طريق النفط، طريق الإمبراطورية، إلخ. لكنّ هناك عاملاً رئيسياً يركّز عليه، غالباً ما يغيب عن سردياتنا المعاصرة، وهو عن الدور المركزي للعبيد والعبودية في التاريخ. من السّهل أن ننسى اليوم أنّ التقسيمة الأساسية في الكثير من المجتمعات (من الفايكينغ إلى اليونان ومصر القديمة) كانت بين الأحرار والعبيد، وأن قسماً معتبراً من الناس كان يعيش في حالة عبودية أو شبه عبودية. ونمط العبودية لم يختفِ إلّا مع نضج الرأسمالية الحديثة (فهي مع «تسليع» العمل وتحويله إلى وحدة نظرية، يمكن شراؤها واستئجارها، إلخ، نفت الحاجة إلى فئة اجتماعية وقانونية مسخّرة جبراً للعمل اليدوي. بمعنى آخر، اندثرت العبودية حين أصبحنا كلّنا عبيداً بدرجاتٍ مختلفة، ولكن من غير أن ننام في الإسطبل). بالمعنى نفسه، كان العبيد من أهم السّلع التي يجري تبادلها على طرق التجارة، وبخاصّة مع نشوء إمبراطوريات ثرية كانت، في جانبٍ أساسي منها، إمبراطوريات عبيد. يكتب فرانكوبان أن التقديرات تقول إنّ الإمبراطورية الرومانية في قمة ثرائها كانت تحتاج إلى ما بين 300 ألف ونص مليون عبد سنوياً، فقط لتلبية «الطلب» وتعويض «الفاقد»، ثمّ يزعم أن الإمبراطورية العباسية، في أوجها، كانت تستورد عدداً أكبر من روما.
حين تتركّز الثروة في مكانٍ تاريخياً، يقول فرانكوبان، كان يتبع ذلك طلبٌ شديدٌ على العبيد: عمّال، خدم، جنود، جوارٍ. وأكثر العبيد الذين كانوا يباعون في المدن الثرية في العراق وسوريا وإيران كانوا من الرقيق الأبيض، يؤتى بهم عبر «طريق عبيدٍ» من شماليّ البحر الأسود وقزوين، أي روسيا وأوكرانيا اليوم (وكلمة «عبد» بالإنكليزية ولغات أوروبية أخرى قد اشتقّت من كلمة «سلافي»). تخصّصت فئة من الفايكينغ (هم أسلاف الروس الحاليين) في هذه التجارة منذ القرن التاسع: العبيد يُنقلون من أوروبا جنوباً صوب مدن الشرق الغنية، والفضة والذهب ينتقلان في الاتجاه الآخر. يقول فرانكوبان إنّ البعثات الأثرية لا تزال تستخرج الفضّة التي وقعت قديماً قرب مجاري الأنهار على هذا الطريق، ولهذا السبب أيضاً، فإننا نكتشف اليوم، في أماكن مثل دول البلطيق واسكندينافيا، دنانير عباسيّة وحريراً صينياً وسلعاً شرقية، جرى شراؤها مقابل «تصدير» العبيد. البندقيّة قامت، في بداياتها، على تصدير العبيد، وهنا الأصل الخفي لثرائها، الذي قلّما يُذكَر، يقول فرانكوبان. وهذا كلّه لا يقارن، بالطبع، بموجة الاستعباد التي قادها الأوروبيون منذ القرن السادس عشر، سواء في أفريقيا أو في المستعمرات.
لكن ثراء بغداد العباسيّة، في أواخر القرن التاسع، كان أسطوريّاً. يروي فرانكوبان أن الخلفاء بدأوا يتبارون في استيراد النفائس واستهلاكها من أقصى أطراف العالم. أحد الخلفاء مثلاً قام بـ«تجربة علمية» لاختبار أيّ نوعٍ من الفراء هو الأفضل والأكثر كفاءة، فأمر بوضع قِرَبٍ من الماء في ليلٍ مثلج، وتغطية كلّ منها بصنفٍ من الفراء ليكتشف، بحسب رواية فرانكوبان، أن فراء الثعلب الأحمر هو الوحيد الذي حمى الماء من التجمّد. مع أنّ المغول هم الملامون في بلادنا على انحدار بغداد ودمارها، إلّا أن المدينة (كغالبية المنطقة) استعادت مكانها في المرحلة المغولية وعرفت استقراراً وازدهاراً. من «جنى» حقيقةً على بغداد، ودمّرها نهائياً وأفرغها من صنّاعها وحرفييها ونخبتها كان تيمورلنك، بعد أكثر من قرنٍ على هولاكو. وعلى ذمّة حسن الخلف، فإنّك أن أردت أن تعرف شكل بغداد العباسيّة ومعمارها، فأنت لن تجدها في بغداد حيث ظلّ، للأسف، شواهد قليلة مكتملة عن تلك المرحلة. بل عليك أن تذهب إلى وسط آسيا، إلى مرو وبخارى وسمرقند، عاصمة تيمور التي نقل إليها الحرفيين من بغداد والشام، وبنى فيها المساجد والقصور والمدارس على طراز الأباطرة العباسيين - في وصفه لحدائق سمرقند، يروي أحد زوارها في القرن الخامس عشر: «أرضها من الحجارة الملوَّنة، مطلية بخشب الأبنوس والعاج، وجدرانها مزينة بخزف من قاشان، بناها مهندس من دمشق، وزيَّنها خزاف من العراق».

خاتمة
عند فرانكوبان، إذاً، كل التاريخ ينطلق من خطوط التجارة. ظهور الإسلام والفتح العربي عنده هو نتاج الحرب الساسانية ــ البيزنطية، وغلق طرق التجارة التي كان يستفيد منها عرب الجزيرة، وعدم قدرة الحكومتين المرهقتين على شراء السّلم من العرب على حدودها. الحروب الصليبية كانت فعلياً حرباً على شرايين التجارة. كريستوف كولومبوس، بالمناسبة، كان يكتب أنه يريد أن يصل إلى الشرق مباشرةً من أوروبا بغية تحقيق أرباحٍ كبيرة، بهدف تمويل حملةٍ ضخمة لإخراج المسلمين من القدس (وكان يحمل معه رسائل إلى الخان العظيم يعرض عليه فيها التحالف ضد المسلمين). الحرب العالمية الأولى، في عرف فرانكوبان، كانت بسبب التنافس الروسي ــ البريطاني على وسط آسيا، وبريطانيا دخلت في الحرب إلى جانب روسيا حتى لا تخسر ودّها وتهدّد طريق الهند. والحرب العالمية الثانية، واجتياح ألمانيا لروسيا، كان فعلياً حرباً على «طريق القمح» الذي توفّره سهول أوكرانيا وجنوب روسيا. والحرب الباردة تركّزت فعلياً على هذا الإقليم الوسيط ذاته، مع إمساك الاتحاد السوفياتي بنصفه الشمالي وإصرار أميركا على بناء سلسلة من الدول الحليفة تمتدّ من ساحل المتوسط إلى باكستان وأفغانستان، لتكون حائط صدٍّ أمام السوفيات. من هنا، نفهم التنافس العنيف على بلدٍ مثل إيران (يخصص له الكاتب أكثر من فصلٍ في الكتاب)، وإصرار أميركا على دعم الشاه وتسليحه منذ عام 1946. بالمقابل، هذا يفسّر أيضاً ردّ الفعل الشرس الذي سُلّط على كلّ نظامٍ وطنيّ جرّب أن يتحدّى الغرب في هذه المنطقة الحساسة خلال الحرب الباردة، من مصدّق إلى ناصر.
لدى فرانكوبان كتابٌ آخر يتكلّم فيه حصراً على «طريق الحرير في المستقبل»، وعلى التنافس القائم بين الصين وأميركا على «العمود الفقري لآسيا». في رأي المؤرّخ، إنّ الخطأ الاستراتيجي للولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، أنها لم تنظر إلى صراعاتها في العراق وإيران وأفغانستان كما يراها هو، أي كجزء من الصراع على قلب العالم، بل نظرت إلى كلّ حالةٍ وكأنها حربٌ منفصلة وصراع قائم بذاته. بهذا المعنى، إن فشل أميركا في تثبيت سيطرتها على هذا الإقليم وخلق استراتيجية شاملة فيه، حين امتلكت الريادة المطلقة في العقدين الماضيين، قد يكون نقطة الضعف التي تتسرّب عبرها قوة الصين الصاعدة. هذا موضوعٌ مختلف، ولكن عودةً إلى التاريخ وتقلّباته، فإنّ من الطريف أن تقرأ عن عهدٍ لم يكن إقليمك فيه «هامشاً» و«تابعاً»، بل ملتقىً لنفائس العالم وثقافاته. يقتبس فرانكوبان شهادة رحّالة أوروبي، جال في مكتبات دمشق وأنطاكية وأحضر معه جداول خوارزميات أصبحت، بحسب المؤلف، «أساس العلوم الحسابية في العالم المسيحي» (هو العالم أديلارد من باث). حين عاد إلى أوروبا القروسطية بعد سنواتٍ في بلادنا، أصابت أديلارد صدمة تشبه إلى حدّ بعيد ردّ فعل المهاجر العربي، حين يخرج إلى بلدٍ «ثري ومتقدّم»، فيقارنها ببلده الأصلي ويشعر بالدونية والخزي. وجد أديلارد ممتعضاً أن، في أوروبا، «الأمراء برابرة، الكهنة سكارى، القضاة مرتشون، التجار لا يمكن الوثوق بهم، والزبائن متملّقون، من يعد يكذب، الأصدقاء حاسدون، والجميع تقريباً يركبه الطموح».