لا يتّجه لبنان نحو حل أو حلحلة أزمته المتمادية الراهنة. إنه سينتقل، مع تشكيل حكومة جديدة غير متفاهم على توزيع حقائبها (هذا قبل الكلام عن الكثير من سياساتها الداخلية والخارجية)، من أزمة عدم تشكيل الحكومة إلى أزمة تشكيلها. وإذا ما تذكرنا بأنه قد تعذر إجراء انتخابات نيابية في موعدها الدستوري بسبب عدم الاتفاق على قانون انتخاب يحكمها، فجدّد المجلس النيابي لنفسه بشكل غير دستوري. وإذا ما تذكّرنا، أيضاً، بأن أزمةً قد رافقت تشكيل حكومة تصريف الأعمال، وأن أزمة قد رافقت تشكيل الحكومة العتيدة أو الجديدة بعد أكثر من عشرة أشهر على التكليف. وإذا لاحظنا، أيضاً وأيضاً، بأن ثُغَراً خطرة شابت الأداء في كل الحالات والتبدلات. وإذا توقعنا أنّ عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية في الموعد الدستوري الطبيعي في 25 أيار المقبل، ستكون، هي أيضاً، حلقة جديدة في مسلسل الأزمات. إذا لاحظنا كل ذلك وسواه، فإنه يسهل القول، إننا أمام «أزمة مصيرية» كما جاء في البيان الأخير لاجتماع مجلس المطارنة الموارنة يوم الأربعاء الماضي.
لا داعي لتكرار الإشارة إلى تفاقم أزمتنا وإلى مخاطرها المتزايدة كمّاً ونوعاً، لكن يجب التوقف، بإحساس عميق بالأسى والفجيعة، أمام ما يتردد، يومياً، من توصيف خاطئ لهذه الأزمة ومن توجهات، خاطئة هي الأخرى، لمعالجتها.
في التوصيف، يجري من قبل طرفي الأزمة (أي من قبل المسؤولين عن تفاقمها واستعصائها) تحييد نظام المحاصصة الطائفية ـــ المذهبية السياسية الراهن عن تولي هذه الأزمة وعن استمرارها وعن بلوغها مستوى «الأزمة المصيرية». ولا يندر أن نقع على كلام ديماغوجي لرفع العتب أو للتضليل، يؤكد على مضارّ الطائفية، وعلى ضرورة احترام الدستور واستكمال تطبيق دستور ما بعد «الطائف» المعدّل بموجب القانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990. كذلك، في التوصيف، يجري «تحييد» العامل الخارجي عن تغذية الأزمة وعن دفعها، أحياناً ومراراً، إلى التفجر السياسي أو الأمني أو الاثنين معاً. وإذا جرى تناول هذا الأمر ارتباطاً بالصراعات الإقليمية، المحتدمة غالباً، فإنه يتخذ صيغة تقاذف الاتهام بالتبعية للخارج والافتقار إلى امتلاك القرار الذاتي. يلاحظ المتابع، في هذا الصدد، أنّ ما يعيبه طرف على سواه، يرتضيه لنفسه، في ازدواجية لا يخفف من غلوائها إلا اعتبار أنّ مبدأ الارتهان ليس هو المشكلة، بل المشكلة في الجهة التي يحصل الارتهان لها. أو كأنّ ثمة ارتهاناً «طبيعياً» وآخر غير ذلك، بسبب هدف سياسي أو غير سياسي.
كل ذلك في وقت بلغ فيه ارتباط القوى السياسية بالخارج حدوداً غير مسبوقة. وهو ارتباط يتعمق ويتوسع باستمرار، فضلاً عن أنه بات شبه معلن في الوثائق والمناسبات والعلاقات.
بسبب خطأ التوصيف والخلل الفادح الذي ينطوي عليه، تأتي مشاريع الحلول لتزيد الطين بلّة. تتصدر الآن واجهة بازار السجال حول الحكومة الجديدة، مفردات «التوازن» والخلل «الميثاقي» و«العبث بالشراكة الوطنية». يذهب البعض إلى حدود التهديد الصريح بخيارات جديدة على حساب «الشراكة» من مثل الانفصال والتقسيم، وبالشارع وبالمقاومة.
لم يصدف، للأسف، مرة واحدة، أن حصلت لحظة «تجلّ» واحدة في مقابل لحظات «التخلي» الكثيرة: كأن يستنتج طرف ما بأن الخلل كامن في نظامنا السياسي وفي تمسكنا بهذا النظام، لقد وضعت حرب العقد ونصف العقد الأخيرة أوزارها على بعض الخلاصات التي تضمنها «اتفاق الاتفاق». بالتأكيد، هذه الخلاصات، هي أبرز ما تضمنه الاتفاق المذكور. نعني إصلاحات «الطائف»، إذ يكاد هذا الاتفاق ينعقد في الأساسي من بنوده، ومن ثم في التعديلات الدستورية التي أقرت بموجبه، على مسألة إصلاح النظام السياسي. وهذا الإصلاح يتجسد، خصوصاً، من خلال إلغاء القيد الطائفي في مؤسسات الحكم والإدارة. وهو، بالمقابل، يحيل ما هو مشروع من الهواجس لدى المجموعات الروحية اللبنانية إلى «مجلس الشيوخ» الذي ينبغي أن يستحدث بالتوازي مع إقرار الإصلاحات وانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي (المواد 22 و24 و95 من الدستور اللبناني). لم يُترك هذا الأمر غامضاً وفضفاضاً في الدستور، جرى تحديد مهل وآليات لم تتجاوز دورة واحدة بعد المجلس النيابي المنتخب على أساس المناصفة عام 1992.
لقد أطاح الجميع هذه الإصلاحات. فريق فهم «الطائف» على أنه ألغى الامتيازات واستبدلها ضمناً. وفريق لا يوجّهه سوى الحنين الى التوازنات السابقة أي إلى مرحلة الأرجحية والهيمنة.
يؤكد الجميع الآن على شعار «المناصفة». إنه تعبير عن تحويل المؤقت إلى دائم، وعن نسف إصلاحات «الطائف»، وعن بازار سياسي يستخدمه هذا الطرف أو ذاك عندما تستدعي الحاجة.
والغريب أن يجادل كتّاب ومتابعون في «الميثاقية» ارتباطاً بتأبيد المؤقت. يتجاهلون، لأسباب سياسية وتنافسية، النصوص الدستورية الواضحة والحاسمة. يتجاهلون، وهذا هو الأخطر، أنّ المذهبية وقبلها الطائفية، هما مرحلة أولى في التعصب الذي قد ينتهي بالتكفير الذي يشكو منه الجميع، من دون أن يكلفوا أنفسهم مجرد عناء البحث عن أسبابه، وعن مسوؤلية ما، قد يتحملونها، في التمهيد له أو في توفير المناخات المسهِّلة لنشوئه ولتوسعه وارتكاباته وجرائمه.
مصدر «اللعنة» التي تضرب لبنان، هي نظامه السياسي القائم على المحاصصة والتنازع، والاستقواء بالخارج والارتهان له. أدى ذلك ويؤدي إلى العجز عن بناء وطن ودولة، وعن إبقاء السيادة والاستقلال والوحدة الوطنية... مجرد شعارات جوفاء.
الإمعان في التمسك بنظام المحاصصة الطائفية، هو إمعان في تدمير ذاتي سيدفع ثمنه اللبنانيون أضعاف أضعاف ما دفعوه سابقاً، بما في ذلك ما صنعوه من إنجازات؛ أبرزها ملحمة المقاومة والتحرير.
لا يمكن أن يستمرّ بلد يعجز أبناؤه عن إقامة اجتماعهم الوطني على قاعدة الحد الأدنى من ثوابت المساواة والتوحد والاستقلالية.
* كاتب وسياسي لبناني