بفرح كبير قرأتُ كتاب مذكّرات الراحل جورج البطل للصديق فواز طرابلسي الصادر عن «دار المدى» بعنوان: «أنا الشيوعي الوحيد». بداية، سبب سروري، هو أن هذه المذكّرات هي الوحيدة التي غطّت بتفاصيلها مرحلة مديدة من تاريخ الصراعات والمواقف التي كانت شبه مجهولة عن غالبية الشيوعيين القدامى والجدد والرأي العام، كما أنها أضاءت على مسبّبات مآل التراجع والهزائم التي أصابت واقع الشيوعيين اللبنانيين والعرب وحركة التحرر العربية. وكما جاء في مقدمة طرابلسي فهو «قد تحمّس للحوار مع جورج البطل وتعاطى معه بناء على اقتناع عميق بأهمية توثيق التجارب واستخراج دلالاتها والدروس، خصوصاً من جيل الستينيات والسبعينيات في اليسار اللبناني والعربي».لن أتناول في قراءتي للكتاب ونقدي، إلا ما يهمّ الإضاءة على المواقف والاتجاهات السياسية التي أحاطت بمجمل التجربة التي عاشها الراحل جورج البطل، ومعه جيل من الشيوعيين، وما كان لها من نتائج وآثار سلبية على مسار الحزب الشيوعي وتحالفاته ومآله اللاحق.

نكبة فلسطين
وصف لنا جورج بدقّة موقف الحزب، آنذاك، الذي قاده خالد بكداش من قرار تقسيم فلسطين، وارتداده عن معاداة الصهيونية ورفضه للتقسيم الذي عاد فتبنّاه بعيد صدور موقف السوفيات في مجلس الأمن وتأييدهم له، ومعاقبة فرج الله الحلو المسؤول اللبناني في هذا الحزب الذي قال: «هل من الضروري، يا رفاق، هل ترونه مناسباً، لأن الاتحاد السوفياتي غيّر موقفه، أن نغيّر نحن أيضاً موقفنا دفعة واحدة، مع العلم أن الحزب منذ تأسيسه أخذ هذا الموقف المؤيّد لفلسطين الموحدة، وخصوصاً أننا أصدرنا أكثر من بيان ضد التقسيم» (ص 55). علّق جورج على ذلك قائلاً: «لم يجبه أي من الأزلام وردّادي الشعارات من جماعة خالد، كان نقولا الشاوي حاضراً، ومجموعات من لبنانيين وسوريين بينهم ماير مسعد، وهو محام اتهموه بعد قصة فلسطين. أسقط في أيديهم، صاروا محتارين ماذا يفعلون، نقولا، سأحكي لك عن شخصيته فيما بعد». (المرجع نفسه). أصاب جورج في تعليقه هذا كبد حقيقة واقع الحزب: «لم يجب أي من الأزلام». كانت بنية الحزب تتشكل وفقاً لذلك النموذج. لقد افتقد إلى النقاء الثوري والثورية، وهو حزب الثورة والتغيير. لاحقاً، عرفنا موقف فرج الله الحلو القائد الشيوعي اللبناني من هذه القضية برمتها، وموقف خالد بكداش زعيم الحزب التاريخي والستاليني المخضرم وسلوكه تجاه فرج الله، حيث تم رجمه بالمحرّمات وتهديده بسيف التطهير والإقصاء من الحزب اللبناني، الذي كان يومها خاضعاً تماماً لسيطرته. إن الشيوعيين الذين كانوا ينفذون ويقلدون مسارات القيادات السوفياتية الستالينية، يومذاك، أصابهم قبوله للتقسيم بالصميم وأثر على شعبيتهم وخسّرهم الكثير من الأعضاء والمناصرين والتأييد الجماهيري اللاحق وعزلهم. إن سبب الهزيمة كان موجوداً في ذاتهم. والنتيجة كانت هزائم تلو هزائم.. والعمى الفكري الذي أنتج عمى سياسياً بعد كل هزيمة لم يجعلهم يرون أو يفهمون أن سبب هذه الهزائم هو من صنع أيديهم. ولكي نكون دقيقين أقول من صنع قياداتهم التي سارت بهم إلى التجريب والمغامرة والعدمية.

في أحداث عام 1958
عن تلك الأحداث ومشاركة الشيوعيين فيها ضد حكم كميل شمعون يقول جورج: «في ذلك الحين كان للشيوعيين تنظيم عسكري مهم ضد تهديدات تركيا هو الحرس الشعبي في سورية» (ص 77). الواقع أن هذا التنظيم كان شعبياً على مستوى سوريا ككل. ولا فضل فيه بواقعة للحزب الشيوعي. كان الخطر محدق بسوريا. ووزعت حكومتها وقيادتها العسكرية التي كان لتحالف الأحزاب في حركة الدفاع عنها من حزب البعث إلى الحزب الوطني الشيوعي في الشارع والجيش، وعلى صعيد القوى الوطنية والديمقراطية السلاح على الجماهير، كي تدافع عن نفسها ضدّ أي عدوان تركي (جماعة حلف بغداد) محتمل: أما في لبنان فقد شارك الحزب الشيوعي في هذه الانتفاضة، لكن من غير خطة سياسية وفكرية شاملة وهادفة، ومن ضمن أرضية غير ثورية. كان للحزب قوى من صف ثانٍ في الجيش سرعان ما خرجت منه وانضمت إلى القوى المعارضة لشمعون، بذل الرفيق جورج، كما يذكر في كتابه (ص 81 - 82) جهوداً لتأمين السلاح، وخاطر بحياته، لكنّ الأمر لم يتعدّ إنشاء مركز عسكري للحزب في منطقة قصقص (المقاصد).

الوحدة والخلاف مع عبد الناصر
حول هذه المسألة الهامة جداً يبدو موقف صاحب المذكرات مرتبكاً وملتبساً، أو ربما غير محدد المعالم، علماً أن هذه المسألة كانت بالنسبة إلى الشيوعيين، يومذاك ولاحقاً، مدمّرة، يقول: «في البداية برز موقع الحزب من الوحدة بشكل واضح لكنه سرعان ما ارتبك عند إعلانها بالشكل الذي أُعلنت به، كان من المفترض أن الحزب متّفق مع ضباطه على التوجه نحو إقامة وحدة اتحادية وليس اندماجية، وقد نشطوا في ذلك الاتجاه. واعتقد أن خالد بكداش لم يعارض الوحدة لأنه كان صاحب القرار عند اتخاذه» (ص 92). بداية أقول إن دخول الحزب الشيوعي وبسرعة في معركة مع الناصريين والقوميين العرب والبعثيين وكل القوى الوحدوية (وحدة 1958) فوتت عليه فرصة تاريخية لاستثمار المكاسب التي حصل عليها من نضالاته ومواقفه في مرحلة نهوض قوى التحرر العربية في سورية والمنطقة ككل (1954 - 1957). أما عن موقف الحزب وبقيادة خالد بكداش من الوحدة فقد أحدث ضرراً بالغاً. كيف ذلك؟
لقد تركز برنامجه على استبدال الوحدة الاندماجية القائمة بالفعل والتي ساهم في قيامها بل فرضها عدد من الضباط السوريين في مقدهم عفيف البزري وكتلته العسكرية الصغيرة، وهي المؤيدة للشيوعيين مع أخيه صلاح الذي ترأس المقاومة الشعبية بين عامي 1956 - 1957، بـ «اتحاد فدرالي فضفاضي». وكان هذا البرنامج باعتقاد الكثيرين من الوحدويين وثيقة انفصالية تامة (تقدم الثقافة الشفوية داخل الحزب الشيوعي على تحديد صدور هذا البيان قبل إعلان الجمهورية العربية المتحدة، في حين إنه قد تم الإعلان عنه بعد إعلان الجمهورية العربية المتحدة بحوالى تسعة أشهر). لم يجرؤ على مثلها أي سياسي سوري حتى ذلك الوقت.
جملة حوادث فجّة إن دلّت على شيء فإنها تدل على مدى تردّي العلاقات الحزبية بين المسؤولين في أطرهم القيادية


يُذكر أن الحزب الشيوعي العراقي مع أطراف «جبهة التحرر الوطني»، بعيد ثورة 14 تموز 1958 عمدوا إلى إصدار بيان في 29 كانون الأول (ديسمبر) 1958، أي بعد أسبوعين ونيف على برنامج خالد بكداش وبعد حوالى أسبوع من إدانة عبد الناصر له، يدعو للتصدي للمؤامرات الاستعمارية التي تتعرض لها الأمة العربية، والتي تهدف للإيقاع ما بين الجمهوريتين العراقية والعربية المتحدة، وتفاعلت هذه الإدانة في العراق وغيره في عنف سياسي تجلى في الأولى بمعارك بين «القوميين» و«العراقيين» الذين يقف في مقدمهم الشيوعيون استُخدمت فيها الخناجر والمسدسات والقبضات - لقد فُتحت المعركة الضارة والمدمّرة بين القوى القومية والشيوعية على مصراعيها، وكانت لها تجليّاتها وتأثيراتها البعيدة على المسار اللاحق لكلّ ما كان يسمى، يومذاك، بمعركة التحرير العربية أو حركة التحرر القومية إلخ... القوميون يحمّلون المسؤولية لخالد بكداش والشيوعيين وهؤلاء يحمّلونها لجمال عبد الناصر (أنظر: «قيادات وهزائم»، تأليف نهاد حشيشو، دار عشتروت - بيروت 2007).
كان موقف فرج الله الحلو تجاه مسألة الوحدة مغايراً لموقف خالد بكداش، فهو كان يرى أن الموقف المبدئي من هذه الوحدة الذي كان الشيوعيون اللبنانيون والسوريون من أوائل دعاتها، منذ نشأة حزبهم، يقتضي مواجهة العاصفة القادمة بمرونة من أجل التمكّن من تصحيح الأخطاء وتسديد الخطى، في وقت لاحق. (أنظر «كريم مروّة يتذكر» ص 137).
يُرجع البعض موقف بكداش هذا من الوحدة ومعاداته لها إلى كرديته وإلى أسباب أخرى. أنا أقول إن تسلطه على الحزب وعدم وجود ديمقراطية ثورية في داخله وبنيته التقليدية هي سبب فرديته وسلطته فالقرار له وحده.. وهذا تكرّر غالباً، في بنية الحزب الشيوعي اللبناني لاحقاً.
يقول جورج البطل: «من خلال نشاطنا اليومي واطلاعنا على وضع الحزب وآفاق تطوره اكتشفنا الهشاشة السائدة. ففي غياب خالد بكداش يُشلّ العلم القيادي في الحزب. يوجد فرد، والجميع يدورون في فلكه حتى الكفوئين منهم كنقولا الشاوي. كان صوايا الذي يكبرنا كثيراً مناوراً وانتهازياً، وعديم الاستقامة إلخ...» (ص 135) صفحات محددة يطلقها جورج على القيادة، يومذاك، ولكنها تندرج أيضاً على نماذج عديدة، من الانقياد والتبعية والشخصانية لدى القيادة اللاحقة، ولربما هذه القساوة على صوايا هي من باب تصفية الحسابات بالنظر إلى تسلّطه على القرار وسلاطة لسانه في علاقاته مع الخاضعين له في التراتبية الحزبية. هذا الكلام جاء قبل تسلّم الشباب الجدد مسؤولية الحزب كاملة بعد المؤتمر الثاني. ماذا عن هذا المؤتمر، مسألة المؤتمر الثاني؟ يقول جورج: «تغيّر الوضع منذ استقلال الحزب، (عن بكداش)، وقد شكل مؤتمر الحزب المطلب الأول». (ص 143) وفي مكان آخر يقول: «كانت المطالبة بالمؤتمر وضرورة الإعداد له وإعادة الاعتبار للشرعية الحزبية التي ترهّلت مع مرور السنين، أولى المهمّات التي دافع عنها الرفاق الجدد في اللجنة المركزية» (ص 146).
واقع الأمر أن الدعوة إلى مؤتمر ينقذ الحزب من جموده الفكري والسياسي والتنظيمي جاءت من قِبل مجموعة طالبية داخل الحزب كنت في عدادها والمحرّك لها، وذلك بدءاً من أواسط عام 1963، بعد الانقلاب في العراق ضد عبد الكريم قاسم والمجزرة ضد الشيوعيين.
وأيضاً الانقلاب ضد حكم الانفصال في سورية (آذار 1963) وخساراتنا البالغة أثناء مرحلة الوحدة وأيضاً خلال هذا الحكم! لقد بدأت السعي بوعيي المتدني وإمكاناتي المتواضعة لانعقاد مثل هذا المؤتمر العتيد.
أدّى هذا الوضع الذي تسلّمته بشكل ضبابي بي، خلال عام 1963، إلى بدء الكلام مع رفاقي الطلاب في الجامعة اللبنانية وبعض الأساتذة حول ضرورة انعقاد مؤتمر عام للحزب يعيد الأمور إلى نصابها. وقد وجدتُ في البداية تجاوباً لديهم، غير أن هذا التجاوب سرعان ما خفتَ وتلاشى، بعد تدخّل الرفاق حاوي، بطل، دبس، لإقناعنا بعدم إمكانية حصول مؤتمر كهذا في هذه الظروف وتحجبهم بالسريّة. وكنت قد حصلتُ من رفاقي في الخلايا الجامعية على تعهّد مكتوب ممهور بإمضاءاتهم رفعته إلى المسؤولين في الحزب بضرورة انعقاد هذا المؤتمر بأسرع وقت ممكن. لكن الرفاق عادوا فسحبوا إمضاءاتهم وتراجعوا عن الدعوة، بعد بروز ممانعة الثلاثي القيادي الوسيط. ولم يتبنَّ الدعوة بإصرار سوى مجموعة صغيرة أصبحت، لاحقاً، (1964) مفصولة من الحزب. هذه حقيقة كنتُ قد ذكرتها تفصيلياً في كتابي (قيادات وهزائم، دار عشتروت، بيروت 2007) الذي صدر قبل أكثر من عقد من الزمن.


الرفاق الذين سحبوا تواقيعهم وتراجعوا عن موقفهم تجاه ضرورة انعقاد المؤتمر، آنذاك، هم على ما أذكرُ منهم وقد تجاوزوا الثلاثين: أنطوان عبدو، جورج جبران، الشهيد سهيل طويلة، علي سرحان، الياس رحيم، الياس شاكر، الياس حنا، أنطوان زكنون، الياس حرب، خليل دياب، مصطفى فخر الدين...
إن الدعوة إلى انعقاد هذا المؤتمر الذي تبنّته مجموعتنا، عاد التكتل الذي قاده الثلاثي الراحل البطل، حاوي، الدبس، إلى طرحه، لاحقاً، أمام القيادة في ظلّ الخلاف الذي نشب مع جماعة نخلة مطران - إدمون عون التي كانت عزلت نفسها في هذا الصراع عن القواعد، عبر طروحاتها السرية داخل اللجنة المركزية وعدم نزولها إلى هذه القواعد للتبشير بها والتصاقها بطروحات بكداش المتهافتة، وقد أدى هذا الأمر إلى بقاء تلك الطروحات بعيداً عن التفاعل القيادي، ما جعل أصحابها يتصارعون مع القيادة دون أن يعرف من الأعضاء العاديين والقيادات الدنيا حقيقة ما يجري.
هذا الصمت غير المبرر، الذي صارحني به قبل غيابهما عن الحياة ومن باب النقد الذاتي أحمد الحسيني (أبو هشام) وإدمون عون، وهما من قادة هذا التكتل في الحزب، يومذاك، وجورج حدّاد، منح القيادة إمكانية تفسير كل طروحاتهما الخاصة بعقد المؤتمر، إذا صحّت وغيرها، بأنها خدمة للتيار الصيني (يومها اتّهمني جورج البطل أثناء نقاش جرى مع أحمد الحسيني بأنه هو الذي يحرّكني في توجهاتي، رغم أنني لم أكن أعرفه وتعرّفت إليه، لاحقاً، في عقد سبعينيات القرن الماضي).
علماً، أن أصحاب الموضوعة الصينية كانوا في واقع الأمر معزولين وغير توّاقين لملاقاة تلك المجموعة. إن المجموعة الماويّة تلقت بعض الوجود المتواضع والمحدود من تأييد عناصر طلابية، كنت أنا في عدادها، وكانت قد طالبت بعقد مؤتمر، ثم دفعت دفعاً بعد ذلك، كنتيجة لانسداد آفاق العمل المجدي والسريع، إلى ملاقاة أصحاب التيار الصيني الصغير. وقد غادر أبرز هذه العناصر موقعه في هذا التنظيم الماوي بسرعة (تجربتي الخاصة وقد ذكرتُها في كتابي «قيادات وهزائم»، دار عشتروت، بيروت 2007) بسبب عدم جدّية وانتهازية مؤسسه جميل شاتيلا وألاعيبه المقاولاتية) وحتى اختراقه بتواطؤ طوعي منه لشلّه عن العمل كما ذكر الشهيد جورج حاوي في أكثر من مناسبة وفي مقابلاته الصحافية، وأصبحتْ مجموعتنا منه براء. وأيضاً ما جاء على لسان الراحل جورج البطل حول تواصله الدائم معه (ص 165).
يتبيّن من هذا العرض أن سعي تكتل الشباب (حاوي، دبس، البطل، عبد الصمد وغيرهم) لانعقاد هذا المؤتمر جاء متأخّراً، وكنت أنا وبعض الرفاق ضحايا ضغوطات مورست علينا من قبلهم لعدم انعقاده، بسبب موقف القيادة التاريخي في تلك الحقبة الرافض لانعقاده.
أما عن أسباب الصراع ضدِّ قيادة صوايا - شاوي - بكداش فيُرجعها جورج البطل إلى عوامل داخلية وخارجية. الأولى كانت حقيقية فعلاً من خلال الاستراتيجية والتكتيك. فهذه القيادة كانت، بموقف ونصيحة من السوفيات، مع العلاقة برشيد كرامي، في حين أن ميل الشباب كان مع كمال جنبلاط. لكن ما أغفلَه جورج البطل أنهم، أي القيادة الوسيطة كانت تنفّذ ما يقرر واتبعوا في هذا المجال «أسلوب التقيّة»، ذلك لأن مسار الحزب غير ديمقراطي وأوامري. أذكر في هذا المجال أن طلاب دار المعلمين الابتدائية نفّذوا شتاء 1963 إضراباً مفتوحاً من أجل الحصول على مطالبهم وأبرزها زيادة منحتهم الدراسية من قِبل الدولة مئة ليرة. التقيتُ الشهيد جورج حاوي صدفة وذهبت وإياه إلى دار المعلمين في بئر حسن لملاقاة رفاقنا المضربين.
وقد أخبرني أنّ موقف الحزب معارض للاستمرار في الإضراب، لأن استمراريته تؤذي وضع الحكومة التي كنّا نؤيدها (حكومة رشيد كرامي). لدى لقائنا المسؤول الحزبي في الدار جنان شعبان وإعطائه التعليمات بضرورة فكّ الإضراب، اعترض بشدة على ذلك وأخبرنا بأن ذلك مستحيل لأن الطلاب مصمّمون عليه، وأنه في حال الإصرار على الأمر فلن يدخل الصفوف إلا الشيوعيين وبناء على أوامر القيادة، ونحن قلّة، فكّر جورج قليلاً ليصرف النظر عن فكّ الإضراب وطلب من جنان متابعته. انتقلنا بعدها إلى جريدة الحزب «النداء»، حيث دخل جورج إلى غرفة صوايا ليخبره بما استجد، وإذ بي أسمع صراخاً من داخل الغرفة مدوياً، وكان صوت صوايا يلعلع «قلنا ما في إضراب يعني ما في إضراب، ولو... منقول ثور بتقولوا إحلبوه... ما بتفهم»؟ وغيرها من الاعتراضات الفجة على عدم تنفيذ التعليمات... أحرجتُ كثيراً مما سمعت فجورج مسؤولي وإعجابي به كان شديداً وتعجّبت من حدة الملاحظات التي وُجهت إليه وهو صامت. ذكرت هذه الحادثة، وهي واحدة من جملة حوادث فجة كانت تحصل في مجرى النضال الحزبي. وإن دلّت على شيء فإنها تدل على مدى تردّي العلاقات الحزبية بين المسؤولين في أطرهم القيادية. وقد أثّرت بي هذه الواقعة إلى حدّ بعيد لكن ببساطة وعيي وحماستي لم يسمحا لي يومذاك بالاندفاع إلى الاستنتاجات التآمرية التي عنت، لاحقاً، طرد صوايا ومجموعته من الحزب وحرمانه من حقوقه الحزبية التاريخية في كنف الصراع الذي استمر داخل اللجنة المركزية.

مسألة الديمقراطية في النظم الاشتراكية «وربيع براغ»
يقول البطل في مذكّراته «بداية انتقاداتي الكثيرة باكراً لما يجري في البلدان الاشتراكية، قبل الجميع، وقد وضعت قدمي على أرض تلك البلدان، إلى درجة قال لي نقولا مرة مازحاً: أنت فضيحة، يا أخي كل الحيطان معبأة سماعات تنصّت، وما بشوفك إلا نازل فيهم انتقادات قالها مازحاً ومنبّهاً. كان ذلك في العام 1968». (ص 230).
مهلاً رفيق جورج، كنت يومها في قيادة الحزب العليا وانتقدتَ من بحضور نقولا؟ كان الخوف من السمّاعات؟! لا... لا الأجدر كان توجيه الانتقادات لمن ستقابلهم من المسؤولين في هذه النظم البيروقراطية المعادية للديمقراطية الاشتراكية. تخلصتم من خالد بكداش وسلطته وجبروت صوايا وصلفه، ولماذا لم تناقش مسألة الديمقراطية ككل داخل الحزب بعد تسلّمكم مقاليد الأمور؟
بما يخصّني دفعتُ الثمن غالياً أثناء وجودي في ألمانيا الشرقية بسبب انتقاداتي الدائمة ومواقفي الاعتراضية على كل أشكال التسلّط والبيروقراطية وكنتُ وقتها خارج الحزب.. اعترضتُ ونبهت إلى ضرورة الاعتراض على تلك النظم. إن لقائي في برلين الشرقية مع الراحل خليل دبس كان مشهوداً بصراحتي معه (بعيد هزيمة 1967، في صيف ذلك العام) طلبني للقاء به وكنت في لايبزيغ. حضرت إلى فندق اللجنة المركزية وتعانقنا وسهرنا ليلاً في مطعم، أظهرت له بطريقة حجزي لطاولة وكان المطعم ممتلئاً، من خلال رشوة منّي للنادل الحزبي، مشكلة الفساد المستعصية. شرّحت له حالة الحزب الاشتراكي الألماني الحاكم ومدى تأييد العمّال له. فقلت عنه إنه مصاب بمرض خطير اسمه البيروقراطية والفساد ولا شفاء منه إلا بإشاعة الديمقراطية في الداخل ووقف الهيمنة السوفياتية عليه. كما انتقدتُ كذلك الحزب الشيوعي السوفياتي نفسه الذي عمّم بسلوكيته المتسلطة وتركيبته الستالينية هذا المرض. وقلت كلاماً محدداً جاء في حينه، كنبوءة، إن مسار الحزب الألماني الراهن لن يستمر إلى ما لا نهاية، ولا بدّ من حصول شيء مفاجئ قد يطيح بكلّ ما هو ماثل حالياً ويقضي على النظام السياسي والاقتصادي القائم. وتابعت قولي بأن الأحزاب الشيوعية في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية واقعة تحت هيمنة القوى الانتهازية والجامدة والتي لن تكون أمينة على قضية العمال الأساسية الاشتراكية لدى بروز بوادر أي تغيير عاصف قد يحدث... وقد حدث!
كان الرفيق خليل يستمع إليّ وهو مستغرب كلامي ومندهش، لكنّه لم يقاطعني بل تركني أسترسل في الكلام. فأدركت عندئذ أن لكلامي صدى في نفسه ولمّا انتهيتُ قال بهدوء: «لقد ذهبت بعيداً جدّاً يا نهاد!» أجبته: «لا يا رفيق تلك هي الحقيقة!».
انتهازية استشرت وسيطرت على بنى الحزب اللاحقة واستراتيجيته، لم يكن حزباً من طراز ثوري جديد


يقول جورج البطل (ص 167 - 168) عن اجتياح تشيكوسلوفاكيا من قِبل السوفيات: «في تلك الفترة كنت قد عدتُ إلى لبنان، وقلت لهم في الحزب إن في تشيكيا حالة ممتازة ونحن لدينا الحالة نفسها، وأننا لسنا لوحدنا في هذا العالم وأن التشيك يقولون الكلام نفسه الذي نقوله... وقبيل انعقاد المؤتمر، جئتُ إلى بيروت وكنت أعرف أن هناك توتّراً مع موسكو، وفد يذهب وآخر يعود إلى موسكو، ودوبتشيك يقدم بعض التراجعات لكن لم أكن أتصوّر أن تدخل الدبابات... في صباح اليوم التالي على وصولي إلى بيروت؟ دخلت الدبابات. لم يزعجني إلا تدخل الدبابات لتحتلّ براغ وغير براغ وهي تطلق الرصاص إرهاباً. دخلوا دخولاً عسكرياً مخيفاً».
طالما أن هذا الموقف تجاه دوبتشيك كان من قبل الحزب الذي يجري التضامن معه رسمياً؟ ولو! كان هذا أبسط ما وجب اتخاذه من موقف!
في مكان آخر يستطرد فيقول (ص 171) عندما عدت إلى لبنان قدّمت تقريراً للحزب، وكنت أذهب وأعود، وكان انحيازي واضحاً للانتفاضة، وكنت أقول لهم: إنهم يعملون ما نعمله نحن... ولكن في العام 1968 كانوا وصلوا إلى جورج (حاوي) ومشكلته ويريدون حلها، لذلك اتخذوا قراراً بعقد اجتماعات للجنة المركزية. في اجتماع حضرته، اعترض على اقتراح إصدار بيان تأييد لدخول الجيش السوفياتي - جيوش حلف وارسو - إلى تشكيا لضرب «الثورة المضادة». هو بيان سخيف معادٍ لكل نمطنا في التفكير في ذلك الوقت. وهنا تولدت ازدواجية في الموقف للأسف وليس فقط التباسات. نسير في هذا الخط، خط المستقبل ونتفاخر على الآخرين، ولكن تجاه السوفيات ظهرت نزعة انتهازية من جديد. وهي انتهازية الناس الذين كان السوفيات قد وضعوا أعينهم عليهم لضربهم على اعتبارهم «معادين للسوفيات»، أي رفاقنا نحن، فتعزّز الموقف الانتهازي، وعبّر عنه بكثير من الوضوح المؤتمر الثالث. عذراً رفيق جورج... انتهازية نعم ولكنها استشرت وسيطرت على بنى الحزب اللاحقة واستراتيجيته. لم يكن حزباً من طراز ثوري جديد، وتمّ دفع الأثمان الخاسرة بالدخول في الحرب الأهلية والعسكرة وفساد الحركة الوطنية وتقلّب التحالفات والولاء للأنظمة السائدة وقوى المنظمات الفلسطينية «فتح» تحديداً... وانهيار ما كان من الممكن تفاديه من نجاحات واستقطابات جماهيرية بدت واعدة للتغيير وتأمين الأرضية من تجربة لبنان اليسارية الهادرة في سبعينيات القرن الماضي لنجاح القوى اليسارية العربية في إرساء أسس للتحول الثوري العربي الشامل!
كان الدمار شاملاً للحزب وإمكاناته، وممتلكاته، وآفاق تطوره... فتبعثر اليسار وتشرذم وتقوقع إلى حدٍّ بدا لا شفاء منه.

ملاحظة أخيرة
لا بدّ من الإشارة إليها في معرض الكلام عن وجود مناخ طائفي داخل الحزب في ستينيات القرن الماضي وما قبله (ما قاله جورج حداد عن ردّ فعل مسؤوليه تجاه إدخال شيعة للعمل في صحافة الحزب وأن «الشيعة أكلونا»)... صدقاً هذا المناخ لم يكن موجوداً ولم ألمسه أبداً. كنا رفاقاً وكفى... يبقى القول، إن هذا الحزب الشيوعي الذي انتميت إليه وغادرته قبيل عام 1975 والذي عرف الهزائم بأبطالها وأشخاصها، لم يتمكّن من تجاوز تقليديته والقطع مع التجريب والمغامرة والاستتباع، وأن يتحول إلى حزب ثوري جماهيري وديمقراطي يتجاوز بقدراته الواقع الطائفي الذي سيدمّر الأخضر واليابس ويقضي على آمال شبابه وينشر التعاسة والحزن والمآسي للأجيال الصاعدة! رغم كل هذا الواقع المرير شكراً رفيق جورج على مذكّراتك!
*كاتب لبناني. من مؤلّفاته، عن التجربة نفسها، كتاب «قيادات وهزائم» (دار عشتروت، 2007).