أهمية التحوُّل الاجتماعي الكبير في عام 1963 لم تكن فقط في تصحيحه التمثيل السياسي لأكثرية القوى المنتجة، بل أيضاً في منظوره للمسألة الزراعية. قبل ذلك العام المفصلي في تاريخ سوريا، كان ثمّة خلل في العلاقة بين نمط الإنتاج الذي يتركّز في الأرياف وبين التمثيل السياسي الذي صُمِّم وفقاً لنظام يجعل الأقلّية بالمعنيين السياسي والاقتصادي هي التي تضع خريطة الإنتاج، وبالتالي تحدِّد مسبقاً سقوفاً لمدى استفادة الأكثرية من قوّة عملها. هذا الأمر خلق تفاوتاً كبيراً، ليس في نمط التمثيل فحسب، بل أيضاً في طبيعة النظام الاقتصادي الذي كان يسير في المنحى المعاكس لعملية الإنتاج، فيضع قرار القوى المنتجة بعد حرمانها التمثيل الفعلي في يد ممثّلين سياسيين لا يتحكّمون عملياً بدورة الإنتاج، ولا يمثّلون على الصعيد الاقتصادي سوى مصالح طبقة محدودة من التجّار والصناعيين المحليين في دمشق وحلب. التحكُّم بالعملية الإنتاجية كان يجري عبر جملة من العلاقات الموروثة من حقبة الانتداب، سواء من خلال طبقة الإقطاع في المدن والأرياف، أو عبر البورجوازية الممثّلة سياسياً على نحو واسع، وهو ما كان سيقود بالضرورة إلى إضعاف هذا النمط من الاستغلال، لكونه لم يعد محكوماً بالمنظومة الكولونيالية التي كانت تحميه وتوفِّر له أسباب البقاء.
جذور التهميش الاجتماعي
استمرار التراكم أو النهب بالوتيرة السابقة كان يتطلّب الإبقاء على نظام الإنتاج كما كان أيام الانتداب، وهو ما بدا متعذراً في الحالة السورية، ليس فقط بسبب حصول الاستقلال وفقاً لمعاهدة (معاهدة عام 1936) تتضمّن الإنهاء الفعلي لمصالحه المباشرة، بل أيضاً لأنّ ثمة تراكماً في التعرُّض لمصالحه وللمنظومة السياسية والاقتصادية التي يرعاها، بدأ منذ ثورة عام 1925. معظم القوى الفاعلة في الثورة حينها كانت من خارج المنظومة التي يديرها الاحتلال، وإذا نظرنا إلى خريطة المناطق التي اندلعت فيها ابتداءً من أوائل العشرينيات من القرن الماضي، فسنكتشف أنها تتقاطع مع خريطة الإنتاج الممثلة لأكثرية القوى المنتجة في البلاد. صحيح أنّ الثورة كانت ضدّ الاحتلال ووجوده المادي المباشر فقط، لكنها أيضاً كانت تعبيراً عن رفض كبير للتهميش القائم بحقّ هذه الفئات التي لم تكن حتى ذلك الوقت ممثلة فعلياً في العملية السياسية التي يديرها الانتداب. اندلاع الثورة بهذا القدر من العنف ضدّ الاحتلال ومنظومته، هو الذي أحدث التحوُّل الأول في العملية السياسية الانتدابية، وقاد انطلاقاً من الفرز الذي أحدثته الثورة إلى تصحيح التمثيل السياسي للأكثرية، بحيث لا يصبح مطابقاً فقط لخريطة التهميش الاقتصادي والاجتماعي، بل أيضاً لخريطة الإنتاج كما كانت قائمة حينها. التصحيح ترافَقَ مع إضعاف جزئي للقوى السياسية التي عارضت قيام الثورة، فظلّت تحكم بعد القضاء عليها إلى حين خروج الانتداب، ولكن حكمها كان قد بدأ يضعف انطلاقاً من الفرز الحاصل حينها بين الثورة ومعارضيها. وكان المؤشِّر الأبرز على تخبُّطها ليس فقط الانقسام المتزايد بينها وبين القوى الصاعدة المؤيّدة للثورة، بل أيضاً حصول أول عملية اغتيال سياسي في سوريا بحقّ أحد رموز الثورة السورية الكبرى وحزب الشعب (عبد الرحمن الشهبندر)، واتهامها بالضلوع فيه. التراكم الذي بدأ انطلاقاً من الثورة أضعف قدرة الاحتلال، ليس فقط على التحكُّم سياسياً بالوضع، بل أيضاً على الاستمرار بعملية النهب. وهو ما تُرجِم فعلياً في بنود المعاهدة التي أخرجته، والتي كانت تضمن عملياً استمرار العملية السياسية «نفسها»، ولكن بقدرة أقلّ بكثير على التحكُّم بالعملية الإنتاجية، لمصلحة القوى التي ستقود انطلاقاً من الخمسينيات التحوُّل الاجتماعي الأبرز في سوريا.

بروز المسألة الاقتصادية
ضُعْف النظام السياسي، وعدم قدرته على كبح تطوُّر أكثرية قوى الإنتاج، عُبِّر عنهما في أكثر من محطة. وفي كلٍّ من هذه المحطات كان يتزامن حصول التغيير في النظام أو تعثُّره مع حراك من تحت تقوده الأكثرية، ولكن من دون أن تكون قادرة على ترجمته فعلياً. هي ظلّت تراهن في ظلّ الافتقار إلى التنظيم السياسي أو الاجتماعي الذي سيقود التغيير لمصلحتها على صراعات السلطة الداخلية، وعدم قدرتها بعد خروج الانتداب على إبقاء عملية التمثيل السياسي بمنأىً عن الاضطرابات السياسية والاجتماعية. الانقلابات بهذا المعنى كانت المؤشّر الأول بعد الاستقلال على ضعف إمساك السلطة بالقرار، واستمرار الصراع داخلها بين البورجوازيتين التجارية والصناعية. وهو صراع لا يقع ضمن نطاق اهتمام الأكثرية (المنتجة للثروة)، ولكنه مهمّ لفهم آليات تصدُّع السلطة، وكيفية عملها ـــ في ظلّ الانقسامات المتزايدة ـــ لمواجهة التحديات التي أفرزها لجوء قسمٍ منها للجيش للحفاظ على مصالحه. حكم أديب الشيشكلي كان بمثابة الذروة في تبلوُر هذا الشكل من الصراع، حيث انحازت إليه البورجوازية التجارية المدعومة من فرنسا ومصر في مواجهة البورجوازية الصناعية التي كانت تدفع باتجاه الوحدة مع العراق.
أتت النتيجة بمفعول عكسي يكرّس علاقات الإنتاج القائمة، رغم اهترائها، ولا يسمح بحصول تطوُّر يتناسب مع حجم الزيادة الهائلة في عدد القوى العاملة في القطّاع الزراعي

والحال أنّ الخلاف بينهما حول التصوُّر الجيوسياسي لدور سوريا كان مجرّد واجهة، لأنّ الصراع كان يدور فعلياً على طبيعة النظام الاقتصادي للبلاد، وما إذا كان سيحافظ على بنيته التجارية كما كان دائماً تحت سلطة نخبة الاستقلال، أو سيذهب باتجاه التصنيع أكثر مع بروز دور حزب الشعب وتركُّزه في المناطق الشمالية الأقرب جغرافياً إلى العراق. في ذلك الوقت، لم تكن الصناعة في سوريا مزدهرة، وكانت حصّتها من الدخل القومي ضئيلة نسبياً قياساً إلى المساهمة الكبيرة للقطاع الزراعي فيه، هذا بالإضافة إلى عدم وجود بنية تحتية لها بالمعنى الفعلي، واقتصار عدد العاملين فيها على بضعة آلاف يتوزّعون على ورش صغيرة ومتوسطة في حلب وحمص ودمشق. التصوُّر هنا كان مرتبطاً بالحفاظ على الدور السياسي لحزب الشعب، في ضوء صراعه مع الكتلة الوطنية وحكم الجيش أكثر منه بالبحث عن بديل لدور سوريا الاقتصادي، حيث لم يكن ثمّة حضور في الطرح لمشكلة علاقات الإنتاج، وما إذا كانت ستبقى على حالها، في ظلّ التحديات التي يطرحها صعود الاشتراكية في الإقليم والعالم عموماً. لكن ذلك لم يمنع هذا الخيار من التحوُّل إلى مسألة سياسية كبرى، وخصوصاً في فترة الدفع باتجاه الوحدة مع العراق أيام أديب الشيشكلي. رَفْضُ الرجل لتوجُّه حزب الشعب الداعي إلى الاتحاد مع بغداد أدّى إلى حصول مواجهات واسعة في حلب، على أثر اعتقال الجيش قيادات الحزب. التعبئة الكبيرة التي حصلت هناك (انتقلت لاحقاً إلى المنطقتين الوسطى والجنوبية على شكل تظاهرات طلابية حاشدة) أضعفت حكم الشيشكلي، وساعدت في إبراز الدور الذي يؤديه الاقتصاد في هذه المرحلة من تاريخ سوريا، حيث بدأت تظهر غداة انتهاء الانقلابات معالم المسألة الطبقية مع بروز دور الأحزاب التي تعارض حكم الأقلية وتدعو علناً إلى تبنّي الاشتراكية باعتبارها خياراً وحيداً لحلّ المسألة الزراعية في سوريا.

تجاوُز علاقات الإنتاج القديمة
لم يعد ممكناً بعد ذلك الوقت تأجيل حلّ هذه المسألة، فالسلطة التي استعادها المدنيون من الجيش كانت تتآكل، والحزبان الرئيسيان اللذان يقودان البلاد لا يملكان حلاً لأزمة التعارض بين نموّ قوى الإنتاج في القطاع الزراعي وتآكل العلاقات التي تحدّد شكل هذا الإنتاج. والحال أن هذا التآكل كان قد وصل إلى مرحلة متقدمة إثر الانتهاء من منظومة النهب التي كان يديرها الاحتلال، وخروج المسألة الزراعية من سلّم أولويات حكم الاستقلال لمصلحة الصراع حول وجهات اقتصادية لا تمثّل الكثير على صعيد إنتاج الثروة، والمساهمة في الدخل القومي للبلاد. المحاولة الوحيدة لتلافي الانفجار الكبير حصلت أثناء حكم الشيشكلي، حين أقدم الرجل على سنّ سلسلة من الإصلاحات الخاصّة بتوزيع الثروة، وقد كانت تتضمّن بالإضافة إلى فرض ضرائب على الدخول المرتفعة للبورجوازية إصلاحات زراعية محدودة، بغرض احتواء نقمة القطاع العريض المنتج للثروة في البلاد. ولكنها أتت متأخّرة بسبب طبيعة حكمه التي ألّبت عليه كلّ الفئات السورية تقريباً، بمن في ذلك المزارعون الذين مُنعوا في عهده من التنظيم وتشكيل نقابات لحمايتهم والدفاع عن مصالحهم. هذا فضلاً عن الاعتقالات الواسعة التي قادها، والتي لم تستثنِ قادةً بارزين مؤيدين للفلاحين والعمّال، مثل أكرم الحوراني وميشيل عفلق. قبل ذلك كانت ثمّة محاولات جادّة قادتها حكومات خالد العظم ابتداءً من عام 1949 وحتى عام 1951 لدمقرطة علاقات الإنتاج نسبياً، بحيث تصبح حصّة الأكثرية من الثروة متناسبة مع حجم الإنتاج الذي تقوم به، ولكنها هي الأخرى لم تذهب بعيداً، ليس فقط لمحدودية ما يمكن فعله في ظلّ حكم عسكري، بل أيضاً لأنها لم تربط الإصلاح بتغيير قوانين الملكية، التي هي أساس المشكلة في نظام الإنتاج. فأتت النتيجة بمفعول عكسي يكرّس علاقات الإنتاج القائمة، رغم اهترائها، ولا يسمح بحصول تطوُّر يتناسب مع حجم الزيادة الهائلة في عدد القوى العاملة في القطّاع الزراعي. التعبير عن هذه الزيادة، سواء في العدد أو في الحجم وقوّة الحضور على امتداد البلاد، كان يتطلّب وجود تصوُّر سياسي واقتصادي يتجاوز العمل، ليس فقط بنظام الإنتاج القائم، بل أيضاً بمجمل النظام السياسي الذي ينتج هذه العلاقات، وهو ما بدا مستحيلاً بالنسبة إلى معظم القوى التي تنتمي إلى النظام، حتى تلك الإصلاحية منها. القوّة الوحيدة التي كانت تملك بالإضافة إلى التصوُّر الاقتصادي ــ الاجتماعي البديل التنظيم والقدرة على الوصول إلى الأكثرية المستفيدة من تغيير علاقات الإنتاج وقوانين الملكية الزراعية هي البعث، بالإضافة طبعاً إلى الناصريين والحزب الشيوعي. لكن هذا الأخير، بحكم مرجعيته السوفياتية، لم يكن يملك تصوّراً مطابقاً لتطوُّر المسألة الزراعية في سوريا، وكان ينتظر كالعادة حصول التحوُّل بقيادة البورجوازية، قبل التحرّك لتسلّم السلطة عبر الطبقة العمالية. ولذلك، هُمِّشت ليس فقط طروحاته ورؤيته للتحوُّل الاجتماعي، بل أيضاً موقعه من المعادلة السياسية، حيث بدا دائماً، منذ تأسيسه في عام 1924، في موقع هامشي، رغم كلّ النضالات التي خاضها والتضحيات التي قدّمها في سبيل الطبقتين العاملة والفقيرة. البعث لم يكن يحمل تصوُّراً راديكالياً مماثلاً لرؤية الشيوعيين، ولكنه بخلافهم استخدم في بناء مرجعياته ومنطلقاته، وخصوصاً بعد تبنّيه للاشتراكية أدواتٍ مستقاةً من الواقع الاجتماعي العربي، وهو ما جعل رؤيته أقرب إلى رؤية عبد الناصر للاشتراكية منها إلى تلك الخاصّة بالشيوعيين. طبعاً، حصلت أخطاء جسيمة في تطبيق الرؤيتين، وخصوصاً لجهة الموقف من الأحزاب الأخرى التي تتبنّى الاشتراكية، ولكنهما كانتا بحكم خصوصيتهما السوسيولوجية الأقرب إلى حلّ المسألة الزراعية التي تُعَدّ في دولنا العربية والعالم الثالث عموماً المعضلة الأساسية بالنسبة إلى الأحزاب الاشتراكية.

خاتمة
هذه المعضلة بقيت بعد انتهاء التجربتين دون حلّ، لأنّ الأحزاب والنظم التي ورثتهما، سواء في سوريا أو في مصر، انقلبت على التصوُّر الخاصّ بالاشتراكية العربية، وفضّلت بدلاً من ذلك معاودة التحالف مع البورجوازية بعد انتقالها من البنية الكومبرادورية إلى البنية النيوليبرالية. وهي تقريباً المرحلة التي ستفضي لاحقاً ابتداءً من أواسط السبعينيات من القرن الماضي إلى مجمل الانهيارات التي شهدتها المنطقة، وصولاً إلى الأزمة الكبرى في عام 2011, التي كانت الإصلاحات النيوليبرالية المقرّة في مصر وتونس وسوريا و... الخ بمثابة المدخل إليها وإلى انهيار الإقليم عموماً.
* كاتب سوري