كتاب مارون مشعلاني، «صليب الحرب: من غياهب الظلمات إلى النور السماوي» صدر قبل أشهرٍ فقط، وهو كتاب غير عادي. هو صدرَ في طبعةٍ فاخرة وباللغات الثلاث. وشاركَ، حسب مقدّمة المؤلّف، أساتذة جامعات ورجال أعمال في دعم المشروع وتنفيذ الطباعة والنشر والترجمة والتوزيع. وسيكونُ لهذا الكتاب عمرٌ مديد، لأنّه يسدّ ثغرة في مخيّلة البعض الذين نشأوا على الحنين إلى عصر بشير الجميّل وإلى بطولات تنتمي إلى فئة الخيال (غير) العلمي. الذين يعانون من الذلّ والهوان اليوم لأن الراعي الإسرائيلي بات أسيراً لتوازن رعب، يعانون من انعدام الوزن السياسي ومن دُوار مُزمن. إن إعادة تصوير مرحلة صعود ميليشيات اليمين المتحالف مع إسرائيل في المنطقة الشرقيّة لم يعد يمتّ بصلة إلى الواقع الحقيقي. وأصبح - في الروايات الجديدة المُستجدّة - الأداة الصغيرة في يد أرييل شارون في لبنان، أي بشير الجميّل، مناضلاً عنيداً ضد الحكومة الإسرائيليّة، كما أن حلفاء النظام السوري في لبنان باتوا اليوم أبطال مقاومة الجيش السوري في لبنان. لبنان عاصمة من عواصم اختلاق البطولات (عاشت فرنسا لسنوات بعد الحرب العالميّة الثانية تشهد اختلاق بطولات عن مقاومة الاحتلال النازي من قِبل متعاونين ومتعاملين معه). تحتاج المخيّلة الانعزاليّة المهزومة إلى هذا الكتاب، كما تحتاج إلى كتب صدرت من قبل أسعد الشفتري وبول عنداري وجوزيف سعادة وكتّاب جديد عن إيلي حبيقة. الكتاب هذا يشدُّ العصب ويرسم صورة انتصاريّة عن مرحلة بادت ولن تعود. تقرأ هذا الكتاب وتحزن لما ألحقته القوى الانعزاليّة بوضع المسيحيّين في لبنان. كان ريمون إدّة يحمّل المسؤوليّة عن الحرب الأهليّة لزعماء الموارنة، وكان يقصد فيهم شمعون والجميّل وفرنجيّة (وهو خَبِرَ الأوليْن من خلال رابطته معهما في «الحلف الثلاثي» الشهير). مارون مشعلاني كان قائداً من قوى المغاوير الكتائبيّة وشهدَ الكثير من معارك الحرب الأهليّة وهو يروي - انتقائيّاً - بعضاً من فصولها. ليس الكتاب سيرة ذاتيّة بقدر ما هو لمحات من فصول الحرب بخيالِ مُشاركٍ فيها. والمؤلّف ذو خيالٍ خصب وهو ينساب في الرواية بين سرد بطولاته الخارقة والعجائبيّة إلى المقارنة مع أفلام شاهدها («ابوكاليبس ناو» تارةً، ص. ٢٣٥، أو على «مستوى إقدام كلينت إيستوود»، ص. ٢٣٢، تارةً أخرى). هل مَن يُعلم البطل مشعلاني أن بطولات إيستوود على الشاشة هي من نسج الخيال، كما معظم بطولاته هو في هذا الكتاب؟ إن الاهتمام بالكتاب من قِبل رجال أعمال وأساتذة جامعات في بيروت (التي كانت) شرقيّة يعود إلى الرغبة الدفينة عند الانعزاليّين الطائفيّين للعودة إلى أمجاد غابرة لعلّها تُنعشُ الذات الطائفيّة للمجموعة.
مشعلاني انتمى مبكّراً إلى فرقة مغاوير حزب الكتائب. لقد أسّس هذا الحزب الذي يتحمّلُ، أكثر من أي طرف آخر في لبنان، المسؤوليّة عن إشعال الحرب الأهليّة، فرقة مغاوير في عام ١٩٦٦ (لم يكن أي من أحزاب اليسار أو حتى المقاومة على هذه الدرجة من التدريب والإعداد - ولم يكونوا حتى عام ١٩٧٥، حين أخذوا على حين غرّة من قبل حزب تلقّى دعماً هائلاً من أطراف غربيّة وعربيّة وإسرائيليّة، على استعداد للحرب أو للدفاع الذاتي. لم يكن الثلاثي جنبلاط - حاوي - إبراهيم في وارد خوض حرب ولو كانت ضروريّة). انتمى مارون مشعلاني إلى ما سُمَّيَ في أوائل السبعينات بـ«سريّة الطلّاب». وهذه السريّة لم تكن لها علاقة بالعمل الطلّابي بل كانت مجموعة عسكريّة تلقّت باعتراف الكاتب (ص. ٢٣) تدريبات عسكريّة، وكانت مهمتها تخريج زعران كي يتنقّلوا بين المدارس والجامعات لضرب الطلّاب اليساريّين والفلسطينيّين. وبعضُنا لا يزال يذكر أعمال هؤلاء الزعران الذين أرادوا تسعير الصراعات الطائفيّة والسياسيّة في لبنان دفعاً، دفعاً، نحو الحرب الأهليّة. كان بشير الجميّل واحداً من هؤلاء: يجولون على المدارس والجامعات لـ«تأديب» خصومهم السياسيّين، الذين كان يتحلّون بالصبر وبإصرار جبهة جنبلاط - حاوي - ابراهيم الوطنيّة على النضال السلمي والديموقراطي - لعلّ نقولا الشاوي يصل إلى المجلس النيابي عن طرابلس ولعلّ جنبلاط يوسّع كتلته.
هذه الكتب هي لفرض سرديّة واحدة وصارخة في كذبها على الشعب اللبناني وليس هناك مَن يُقابلها في سرديّة حقيقيّة عن الحرب


هذه الكتب هي لفرض سرديّة واحدة وصارخة في كذبها على الشعب اللبناني وليس هناك مَن يُقابلها في سرديّة حقيقيّة عن الحرب (سأترك تلك السرديّة الأخرى مشروعاً لسنوات تقاعدي). إن البورجوازيّة المارونيّة لا تزال تتمسّك بالمشروع الانعزالي القوّاتي لبشير الجميّل وهي تموّل الدعاية الانعزاليّة بكافة أشكالها. ليس هناك من بورجوازيّة مقابلة: البورجوازيّة الإسلاميّة (السنيّة والشيعيّة) لم تكن تؤيّد مشروع الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة لا بل هي استثمرت في مشاريع طائفيّة وانعزاليّة معاديَة للخطّ الوطني مذّاك. أما البورجوازيّة الدرزيّة فهي مع الزعيم، كيفما استدارَ وقفز وتلوّن. البورجوازيّة السنيّة كانت تدور في فلك «التجمّع الإسلامي» الرجعي (الذي أنتج، شفيق الوزّان، الأداة الطيّعة بيد الياس سركيس وأمين الجميّل بعده) فيما التفّت البورجوازيّة الشيعيّة حول مشروع موسى الصدر الذي عادى مشروع الحركة الوطنيّة منذ أوّل الحرب وتطابق مع خط النظام السوري.
وروايات البطولة عن سيَر مقاتلي ومقاتلات القوى الانعزاليّة باتت موضة مزدهرة، ولا تقابلها سيَرٌ مقابلة. على العكس، لا يظهر من مقاتلي الفريق الآخر إلّا النادمون من الذين اعتنقوا سردية الانعزاليّين عن الحرب وانضووا في صفوف ١٤ آذار.
السرديّة الانعزاليّة باتت معروفة جداً: إن قوى الميليشيات المرعيّة إسرائيليّاً لم تخُض الحرب إلّا دفاعاً عن النفس بوجه مؤامرة من «منظّمة التحرير» (أو من «الفلسطيني» على قولهم) من أجل التوطين، وهي - أي ميليشيات إسرائيل - لجأت إلى حضن إسرائيل اضطراراً فقط. المشكلة في هذه السرديّة أنها تغفل: ١) أن علاقات أحزاب وميليشيات زعماء الموارنة افتتحت علاقة مع الصهاينة ودولة العدوّ منذ الثلاثينيّات، وهي بدأت بتلقّي المساعدات الماليّة والعسكريّة منذ الخمسينيّات. ٢) لم تكن منظمة التحرير في وارد التوطين، ولو كانت ترغب بالتوطين، لما قامت إسرائيل بغارة واحدة على لبنان. إن عدوان إسرائيل ضد المخيّمات الفلسطينيّة ومراكز المقاومة وأماكن سكن الشعبين اللبناني والفلسطيني كان بسبب رفض منظمة التحرير القاطع لمشروع التوطين (وقد روّجت لكذبة التوطين الرجعيّة الشيعيّة منذ أواخر السبعينيّات وكذلك الرجعيّة المارونيّة). ٣) إذا كان مشروع الانعزاليّين محصوراً بـ«مقاومة» (كم لا تليق هذه الكلمة بإجرام ميليشيات إسرائيل) التوطين، فلماذا الحروب ضد المسلمين في لبنان، ولماذا تهجير مسلمين من كلّ المناطق الشرقيّة في بيروت، ولماذا قتلهم على الهويّة وقصفهم عشوائيّاً في منازلهم؟ ٤) كانت تصريحات بيار الجميّل قبل وخلال الحرب تحتوي الكثير الكثير في ذمّ اليسار اللبناني والعالمي. أي كان هناك مشروع يميني رجعي حقيقي خارج موضوع الصراع ضدّ المقاومة (بالنيابة عن إسرائيل راعية قوى الانعزال). ٥) هل كانت حرب ١٩٥٨ بين اللبنانيّين والتي لم تشارك فيها قوى الثورة الفلسطينيّة هي أيضاً ضد التوطين؟
يحتوي الكتاب على محطات في مسيرة بطولات مشعلاني، وبطولاته تتبع نفس السيناريو تقريباً: يستدعيه «الباش» ويكلّفه بمهمّة خطيرة لا طاقة للبشر على القيام بها (يقول عن نفسه أنه كان يخطو «بخطى الفهود»، ص.٦٠). يطلب مشعلاني مهلة من الوقت، ثم يُخطّط. يستدعي مغاوير فرقته في «البي.جيم» ثم يقودهم في مهمّة عجائبيّة، مثل اختراق خطوط العدوّ، أو مباغتتهم من الخلف، ثم يجد نفسه كل مرّة أمام أعدائه (المسلمين أم الفلسطينيّين أم اليساريّين، لا فرق) ويرميهم بالقنابل اليدويّة ونيران الرشّاشات ويقتلهم جميعاً وغالباً لا يُصاب أي من مقاتليه حتى بجروح (في معركة هايغازيان يقول: «اقتصرت الإصابات على بعض الجروح الطفيفة في صفوفنا» (ص. ٥٧)، وفي حرب الجبل يقتل عشرات من المقاتلين الدروز لكن «لم يقع في مجموعتي أيّ قتيل أو جريح» (ص. ٢٣١)، وفي موقع آخر يقول: «أحصينا ثلاثين جثّة للأعداء، وعجائبيّاً، كل رجال فرقتي كانوا سالمين» (ص.٢٣٤)). والطرف الآخر دائماً يُخدع ولا يحسن الردّ والتصويب والقتال. والمرّة الوحيدة التي أمرَ فيها قوّاته بعدم استعمال القوّة «إلا عند الضرورة» كانت في الحروب بين ميليشيات وانشقاقات القوّات (ص.٢٤٧)، والتي يذكر أنه في موقع فيها سقط في يوم واحد من صراعاتها ٨٠٠ قتيل (ص. ٢٤٨) - هؤلاء أيضاً ماتوا دفاعاً عن لبنان بوجه التوطين، أم دفاعاً عن المواخير والخوّات والتهريب والمرافئ غير الشرعيّة؟
قدرات مشعلاني عظيمة إلى درجة تدعك تتساءل ببراءة: إذا كانت القوّات اللبنانيّة ومغاويرها على هذه الدرجة من البطولة والأعمال الخارقة، فلماذا هُزمت شرّ هزيمة في كل المعارك، بالرغم من دعم عربي وغربي وإسرائيلي لم ينقطع عبر السنوات؟ تستطيع أن تقول إن القوّات لم «تنتصر» إلّا في المعارك الداخليّة بين الحلفاء فقط في داخل بيروت الشرقيّة وضواحيها. أما في المواجهات مع الخصم في معركة الفنادق أو حرب الجبل أو في شرق صيداً أو في الأسواق أو في الأشرفيّة أو في زحلة أو الدامور (وهي معركة، لا مجزرة، ومعظم ما ورد عنها من أكاذيب صدر من فم مُغتصب الأطفال، الأب منصور لبكي)، فإنّ القوى الانعزاليّة انهزمت وأُذِلَّت. في بعض المعارك، مثل معركة شكّا، نجحت القوى الانعزاليّة فيها بسبب تدخّل الجيش اللبناني، أو الجيشين اللبناني والسوري معاً في بعض الأحيان، كما يعترف مشعلاني. إن الانتصارات الوحيدة للقوى الانعزاليّة كانت في خوض المجازر ضد مخيّمات محاصرة وأحياء سكنيّة. هنا برز الظفر العسكري لمجرمي الحرب. ألا يعلم مشعلاني، كما يعلم كل من عاصرَ تلك الحرب، أن القوى الوطنيّة اللبنانيّة - الفلسطينيّة كانت على وشك السيطرة على كلّ لبنان في ١٩٧٦ لكسر شوكة الانعزاليّين مرّة وإلى الأبد لولا تدخّل الجيش السوري والإسرائيلي اللذيْن أنقذاهم من هزيمة حتميّة؟
ورواية مشعلاني تزخر بالأكاذيب. هو مثلاً يشكو من قلّة الموارد والذخائر في الحرب، فيما كان أكبر أثرياء لبنان في حينه، أي بطرس الخوري وجورج أبو عضل، يموّلان الميليشيات الانعزاليّة، بالإضافة إلى تمويل وتسليح مبكر من إسرائيل والأردن والسعوديّة والعديد من دول أوروبا بالإضافة إلى الحكومة الأميركيّة. لقد تم نشر الكثير عن الموضوع ولعلّ مشعلاني كان قد قلَّلَ من أكاذيبه لو أنه قرأ بعض ما نُشر في دولة الاحتلال وفي دول الغرب من كتب ووثائق عن الحرب اللبنانيّة. لا، المؤلّف لا يذكر بتاتاً أنه هو وغيره من أبطال الميليشيات الانعزاليّة تلقّوا تدريباتهم في إسرائيل. إسرائيل لا ترد في الكتاب إذ إن الكاتب لم يكن يدري بوجودها (هي ترِد فقط في الحديث عن الحرب في زحلة، ص. ٢١٦). لكن الكتاب يكشف، مرّة أخرى، الدور الخبيث والشرّير الذي لعبته الرهبانيّات المارونيّة في تخزين السلاح ودعم المقاتلين والتأجيج للحرب (ص. ٢٨) (كان رئيس الرهبانيّات المارونيّة، شربل قسّيس، في زيارة «رعويّة» في إسرائيل عند اندلاع الحرب الأهليّة). هل ستقدّم الرهبانيّات المارونيّة اعتذاراً رسميّاً عن المشاركة في جرائم الحرب؟


والمؤلّف مُصاب بحقد طائفي وعنصري دفين (وعنصريّته تتجلّى أيضاً ضد الأكراد وضد الأرمن، ص.٨١)، ولا يخفي أن دوافع قتاله وجرائمه كانت دينيّة - طائفيّة. وحقده ضد الشعب الفلسطيني بلغ حد أن يتهمه بحادث سيّارة تعرّض له قبل الحرب في عام ١٩٦٩، عندما كان في الخامسة عشرة من عمره (ص.٢٦١). لا، ولا يجد غضاضة من الإشارة إلى استلهامه للحروب الصليبيّة: إذ يقول عن مقاتليه أنهم «على غرار الصليبيّين الذين كانوا يدافعون (يدافعون؟) عن أورشليم»، ص. ٨٣) ثم يقولون لكَ إن هذه كانت حرباً ضد التوطين. ومشعلاني يختم كتابه بالحديث عن اكتشافه للتديّن المسيحي في سنوات تقاعده وكيف أنه أصبح ورعاً وكيف أن الاعتراف أكسبه غفراناً عن كل جرائمه. لكن ذلك لم يكن ضروريّاً لأن الله كان مرافقها له ومؤازراً من أولى معاركه (في معركة «الصيفي»، مثلاً، حيث يجزم «لا يمكن إلا أن تكون فعلاً يد الرعاية الإلهية» (ص. ٦٦) هي التي أنقذت حياته وحياة رفاقه. لقد كان الله - حسب رواية مشعلاني - طرفاً في الحرب الأهليّة، وهو أيضاً حارب ضد خطة التوطين المزعومة.
ويمرّ مشعلاني على مجزرة السبت الأسود، وهي أفظع المجازر الطائفيّة في الحرب الأهليّة، والتي كان مُراداً لها أن تشعل حقداً طائفيّاً على الطرف الآخر. ويمكن القول إن نفوذ منظمة التحرير العلمانيّة ودور الأحزاب اليساريّة هو الذي منع اشتعال مجازر طائفيّة على المقلب الآخر مع أن أعمالاً فرديّة كانت تحدث (من قِبل منظمّات طائفيّة أو أفراد، مثل مجزرة بيت ملات في عكّار أو الخطف الطائفي من قبل «قوّات حسين الانتحاريّة» أو «فتيان علي» أو «المرابطون» بعد حرب السنتيْن). لكن العمل الإجرامي المُنظَّم أو الطائفي المُنظّم كان من اختصاص الفريق الذي أشعل الحرب وأراد لها الديمومة (ليس من المستبعد أن يكون جهاز «المكتب الثاني» في عهد جول بستاني خصوصاً وبعده قد شاركَ في تلك الجرائم). ويعترف مشعلاني أن الخمسة كتائبيّين الذين قتلوا قرب «الفنار» لم يكونوا شباناً عاديّين بل كانوا من زعران فرقة الـ«بي. جيم»، وقد ساهموا في تدريب «المئات من الشباب» (ص. ٧٢). ويعترف مشعلاني بمجزرة السبت الأسود (لكنه يقلّل العدد ويجعل منه - كأنه فقط - ١٥٠ مسلماً) لكنه ينفي أن تكون القيادة الكتائبيّة مسؤولة، وإن كانت حاضرة أمام مشهد تكديس الضحايا وقتلهم جماعيّاً. لكن: يمكن لعناصر غير منضبطة أن تقتل رجلاً أو رجليْن لكن: مئة وخمسين رجلاً (حسب تعداده المُصغّر)؟ وطبعاً، على العادة الكتائبيّة في التنصّل يلقون اللائمة على «عمّو جوزيف» (أي جوزيف سعادة، مجرم الحرب الشهير وغير التائب والذي تحوّلت قصته إلى كتاب بالفرنسيّة، وكان الراحل جوزيف سماحة يحتفظ بالكتاب ويقترحه على مَن يمرّ في مكتبه كشاهدة ضروريّة لفهم الحرب الأهليّة)، «المفجوع» بمقتل ابنه المقاتل في الـ«بي. جيم»). ويعترف مشعلاني أيضاً أن رئيس المجلس الحربي الكتائبي، وليم حاوي، كان شاهداً على المجزرة لكنه لم يستطع منعها (ص. ٧٥). هذا قائدهم العسكري، يجب أن نتذكّر. يقول مشعلاني إنه لم يشارك في المجزرة (وإن كان يعترف بقتل مدنيّين أبرياء في مواقع أخرى (ص.٨٧) لكنه يعترف أن «أبطاله» في الـ«بي.جيم» شاركوا فيها (ص.٧٧). ولا يتردّد مشعلاني في المجاهرة بصغر سنّ بعض مقاتليه، حيث بلغت أعمارهم «بالكاد الخامسة عشرة» (ص. ١١٨) وهي جريمة حرب بحد ذاتها.
والكذب سهلٌ جداً على مارون مشعلاني بالرغم من تقاه وورعه المتأخر. هو يقول عن مجزرة الكرنتينا (التي رافقها تهجير عنصري - طائفي لأهلها) أنه «لم يرتكب المقاومون المسيحيّون أي مجزرة بحقّ المدنيّين» (ص. ٩٠)، لكن قوى الأمن اللبناني نفسها قدّرت عدد الضحايا (بعضهم مات حرقاً) بـ ٧٠ شخصاً (راجع أنطوان خويري، «الحرب في لبنان»، الجزء الأوّل، ٢، ص. ٧٣). ومن أكاذيب الفريق الذي ينتمي إليه أن القوى الفلسطينيّة كانت تستعين بـ«مرتزقة» من كل «الأعراق والجنسيّات». كان عنصريّو الفريق الانعزالي كلّما وجدوا جثّة لفلسطيني ذي بشرة داكنة، يصوّرونها ويقولون: انظروا. مرتزقة من كل الأعراق. طبعاً، كانت العقيدة هي الجاذب في الصف الوطني، فيما استنجدت القوى الانعزاليّة بقناصة مرتزقة من جنوب أفريقيا وأوروبا. وقد شارك يمينيّون رجعيّون من عصابة «أوكسدان» الفرنسيّة اليمينيّة المتطرّفة في قتال جماعة القوى الانعزاليّة (مات الفرنسي دومينيك بوريلا في صيف ١٩٧٥ في بيروت وكان مسؤولاً عن فرقة مقاتلين في ميناء الحصن).
والغريب أن مشعلاني يروي بطولاته في معارك جرت كما أنه يزهو ببطولات في عمليّات لم ترَ النور، مثل عمليّة «نبتون»، لإغراق سفينة سلاح فلسطينيّة. (ص. ١٣٧). ورواية مشعلاني تحاول أن تغفل جانباً مهماً في قتال القوى الانعزاليّة في حرب السنتيْن، خصوصاً في عام ١٩٧٦، إذ إنهم تلقّوا العوْن ليس فقط من الجيش اللبناني (وقد شاركت مغاويره في معارك الـ«بي.جيم») بل أيضاً من الجيش السوري. يقول عن الحرب على صاليما، مثلاً، إن الهجوم كان بـ«التنسيق مع الجيشيْن اللبناني والسوري» (ص.١٣٣). أي إن الله لم يكن يحتاج للتدخّل في القتال بوجود كل هذا الجيوش في صف الانعزاليّين، لكن الله لم يكن يتحمّل أن يرى مشعلاني يقاتل من دون تدخّل من عليائه مباشرة، أو عبر قدّيسين. والمبالغات سمة ثابتة في سرديّة مشعلاني فالأشرفيّة لم تكن إلا «ستالينغراد» (ص، ١٨٤، لا يستعير هذا الوصف إلا من كان جاهلاً بأبسط عناوين الحرب العالميّة الثانية)، والبرد على طريق زحلة هو «سَيبيري» (ص. ٢٠٥)، كي يضفي بطولة إضافيّة على مشيه فوق الثلوج. وهو يختلق بطولات ويُقلِّل من حجم هزائمه: فبعد هزيمة حرب الفنادق التي أذلّت الانعزاليّين، حاول مشعلاني التخفيف من أهميّتها مع أن برج المرّ كان غنيمة استراتيجيّة للفريق الآخر، الذي منع اختراق بيروت الغربيّة حيث كان العدوّ يستهدف الاستيلاء على «مصرف لبنان».
يعترف مشعلاني بسرقات وزعرنات وتشبيح وخوّات وأفعال «مافياويّة» لمقاتلين في القوّات اللبنانيّة (٢٦٧) لكنه ينزّه مقاتليه هو عنها. لكنه يعترف أن حياته الشخصيّة لم تكن «مشرقة» (ص. ٢٦٧) لكنه لا يوضّح. وموضوع مجازر صبرا وشاتيلا التي ارتبط اسمه بها لا ترد في الكتاب بتاتاً. لكن «القدّيس» مشعلاني يتقاعد من العمل الميليشياوي في الثمانينيّات ليكسب قوته من «استيراد وتصدير الحبوب والكحول» من مرفأ بيروت (ص. ٢٦٩). لكن الـ«بزنس» لم يمنعه من الاهتداء الربّاني في حريصا، وقد طمأنه كاهنٌ قال له بعد أن استمع إليه: «اذهبْ واسجدْ تحت الصليب وراء المذبح واطلب من يسوع أن يغفر لك خطاياك» (ص. ٢٧٩)، وهكذا كان.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)