المطران عطا الله حنانصّ الكلمة التي أرسلها المطران عطالله حنا إلى «المؤتمر العالمي للأخوّة الإنسانية» المنعقد في أبو ظبي بحضور البابا فرانسيس. الكلمة بعنوان: «المسؤولية المشتركة لتحقيق الأخوّة الإنسانية».

لا بد في البدء ومن البداية، الاعتراف بأن الناس كلّهم متساوون، كلّهم خليقة الله الواحد الأحد. وكرامتهم هي منه تعالى، متساوية في الجميع. الناس كلّهم متساوون، والشعوب كلّها، بمختلف أعراقها ودياناتها وحضاراتها. ولا بد من أن يثق الإنسان بنفسه وبصلاحه ومقدرته على الصلاح، وعلى المحافظة على هذه المساواة والكرامة التي منحه إياها الله، وأنه قادر على المحافظة عليها في نفسه وفي غيره، أفراداً وشعوباً. على هذا الأساس الراسخ من الإيمان بالكرامة الواحدة التي منحها الله لجميعنا، نستجيب للتكليف الإلهي: أن «انموا وأكثروا» (تكوين 1: 28) وسودوا الأرض وافلحوها وطوِّروها، ونظِّموا خيراتها وانتفعوا بها. البشرية تحتاج إلى مزيد من الثقة بصلاحها، لأن الواقع الذي نعيشه يبين لنا طاقة الشرّ الكبيرة التي تسيّر الإنسان اليوم، إلى جانب طاقات الخير الكبيرة فيه أيضاً.
نعرف طبعاً أنه في بدء الإنسانية قتل قاين أخاه هابيل. فبدأ منذ زمن بعيد خلل في الإنسانية. وما زال هذا الخلل يرافق حضاراتنا المختلفة حتى اليوم. ولكن من جهة أخرى فيما نما إنسان مقاتل وقاتل، نما في الوقت نفسه إنسان يدرك أن الله خلقه وكرَّمه، وقد ظل محافظاً على كرامته وواعياً لمسؤوليته، واعياً أنّ تطوير الأرض والانتفاع من خيراتها يجب أن يكون لمصلحة كل إنسان فيها، وليس لبعض الشعوب على حساب غيرها. ولهذا، على رغم الحروب الكثيرة التي مرّت بالبشرية وما زالت تدمر البشرية، فقد ظلَّت فيها أيضاً نزعة نحو السلام والعدل والمساواة.
موضوع هذه الورقة «المسؤولية المشتركة لتحقيق الأخُوّة الإنسانية». خلقنا الله إخوة. الأخُوّة هي الأساس، ثم تفرَّقنا شعوباً ومللاً وأعراقاً وديانات وثقافات وحضارات. وفقدنا الأخُوّة في طرقنا المختلفة، وفي خلال سعينا في الأرض، حين أخذ كل وحد وكل شعب يطلب رزقه منفرداً عن أخيه، وأحياناً على حساب أخيه. وظلت روح قاين غالبة لدى الكثيرين منّا.
والسؤال هو: كيف نغالب هذه الروح القتالية أو المفرِّقة بين الناس، وكيف نعود إلى الأخُوَّة الأصلية التي خلقنا عليها الله؟
عوامل كثيرة وأسباب كثيرة فرَّقت بين الشعوب وأجَّجت بينها الحروب. واليوم نحن في حالة سلام وحرب معاً. نحن، في هذا المؤتمر، نمثِّل إنسانية واعية ناضجة تبحث عن العودة إلى الأخُوّة الأصلية، على رغم كل الواقع المرير الذي ما زلنا نعيشه. الحروب في منطقتنا ومخاوف الحروب فيها تفرض علينا البحث عن أوضاع جديدة تليق بالإنسان الذي خلقه الله ليكون لا قاتلاً ولا ظالمـاً ولا مستبداً بثروات الأرض، بل ليكون أخاً لأخيه يعرف طريق السلام ويعرف أن يتقاسم معه خيرات الأرض.
من المسؤول لكي نعود إلى أخُوّتنا الأصلية؟
المنظمات الدولية والإنسانية، والمؤسسات التعليمية و الثقافية والإعلامية، والشبيبة.
وقبل ذلك، أقول: المسؤولون أولاً هم صانعو الحروب أنفسهم، وصانعو الأسلحة. صناعة الأسلحة من كبرى الصناعات في عصرنا وفي الشعوب المتحضِّرة والمنادية بالسلام. هذا مجال لا بد من البدء به، حتى يصبح كلُّ منادٍ بالسلام صادقاً وفاعلاً. لو آمن صانعو الحرب بالأخُوّة البشرية، وبأولوية الإنسان، أفراداً أو شعوباً، لتوقفت الحروب، ولأصبح تحقيق الأخُوّة الإنسانية أمراً ممكناً. أما والمصالح القومية والاقتصادية والسياسية وغيرها من المصالح هي التي تقود البشرية، فنحن نرى أن المنظمات الدولية، هيئة الأمم وكل الهيئات المشتقة عنها، ما زالت عاجزة عن تحقيق السلام وعن القضاء على الحروب، والجوع والمظالم في شعوب كثيرة.
لو آمن صانعو الحرب بالأخُوّة البشرية، وبأولوية الإنسان، لتوقفت الحروب


ثم المسؤولون هم المتصرفون بثروات الأرض، على أساس أن القوي هو الذي يفرض إرادته على الضعيف، وعلى أساس المصلحة القومية التي تضحي بالإنسان وبالأخُوّة الإنسانية في سبيل المصالح القومية. هم مسؤولون عن تحقيق الأخُوّة الإنسانية، فعليهم أن يجدوا ميزاناً آخر لتوزيع ثروات الأرض يؤمن بمساواة كل إنسان لأخيه الإنسان، وبكرامة كل الشعوب وعدم إخضاع بعضها لمصلحة غيرها. قال السيد المسيح يوماً لرجل غني أراد أن يتبعه (لوقا 18: 22) اذهب وبع كل ما تملك ثم تعال اتبعني. أي تحرَّرْ من علاقة الأنانية التي تربطك بخيرات الأرض، وأعد الخيرات إلى الأرض وإلى جميع أبنائها وشعوبها. هذا يقال اليوم لجميع المتصرفين بثروات الشعوب. الأرض منحها الله للإنسان، لكل إنسان، وليس لفئة أو لشعب دون غيره. والعلاقات بين الشعوب تُبنَى على الأخُوّة والمساواة بين الشعوب وليس على أفضلية القوي على الضعيف.
وهنا أيضاً أقول إن الإنسانية بحاجة إلى مزيد من الثقة بطاقة الصلاح فيها. فيها ما يكفي من الصلاح لتنتقل من رؤية ومن واقع القوي المسيطر أو الحارم الضعيف إلى رؤية وواقع الإنسان المساوي لغيره. الرؤية الصحيحة يراها الكثيرون. لأننا نراها ونؤمن بها نحن، نحن هنا مجتمعون. ولكن هناك عجز في تطبيق ما نراه صحيحاً.
يساهم أيضاً في تحقيق الأخُوّة الإنسانية الشاملة ظاهرة التطوُّع العالمي، حيث يضحِّي الفرد بعمله وزمن من حياته ليتجوَّل في العالم يقدِّم خدماته حيثما أصيبت الإنسانية بجراح الحرب أو المرض أو المجاعة. أشير هنا إلى المنظمات مثل «أطباء بلا حدود»، و«صحافيون بلا حدود»، و«متطوعون بلا حدود» وغيرها من المنظمات الإنسانية في مختلف المجالات والحاجات حيث تمزَّقت الأخُوّة. ومثلهم المتطوعون الأفراد بصورة عامة، شباب وبالغون، يضحُّون بزمن من عمرهم ليخدموا ويرافقوا ويتعرفوا على الإنسانية في جميع أنحاء الأرض. حياة هؤلاء شهادة أن الناس إخوة. فعلى رغم الاختلاف في الحضارة والدين وأسلوب الحياة واللغة، يحمل هؤلاء معهم «مودة» ويخفِّفون من وطأة ظاهرة الحروب ويؤكدون، على رغم قسوة الإنسان على الإنسان، أنّ الناس كلهم إخوة.
والمسؤولون في تحقيق الأخُوّة الإنسانية هم المربّون. والمربّون كثيرون، وفي مقدمهم رجال الدين، في كل دين. لأنّ كلمتهم تجمع أو تفرّق، تصنع إخوة أو تصنع أعداء. كلمتهم تقول نحن إخوة أو نحن مختلفون. الله يقول لنا جميعًاً أنتم إخوة، فرجل الدين لا بد من أن يقول هو أيضاً: نحن إخوة، ولو اختلفت دياناتنا. رجال الدين يثبِّتون المؤمنين في ديانتهم، ويعلِّمونهم في الوقت نفسه أن البشر كلهم إخوة، ولو اختلفوا في الدين، لأن الله الواحد الأحد خلقنا جميعاً إخوة متساوين.
والله وحده هو الذي يدين عباده أجمعين. أما الناس فإن آمنوا فإيمانهم في أي دين كانوا لا يخوِّلهم أن يحِلّوا محلَّ الله فيدينوا إخوتهم المختلفين في دينهم، بل يفرض عليهم إيمانُهم أن يكونوا إخوة لكل إخوتهم وأخواتهم في الإنسانية.
وإن وردت في الكتب المقدسة نصوص تدل على الاختلاف بين الناس، فكل الكتب المقدسة تُفَسَّر بما يليق وينسجم مع طبيعة الله سبحانه وتعالى، وطبيعته تعالى أنه رحمان رحيم وأنه رحمة للعالمين، وأنه محبة، ومُحِبُّ للبشر أجمعين. نور المحبة والرحمة هو الذي يفسر جميع النصوص، ويثبِّت الأخُوّة الإنسانية.
رجل الدين يمكن أن يربي مؤمنين قادرين على بناء مجتمع متماسك وإنسانية متحابّة مسالمة، ويمكن أن ينقض الأخوّة البشرية تماماً، إن هو عجز عن رؤية نور الرحمة والمحبة الذي في دينه. وذلك في كل دين. لأن جوهر الدين، كل دين، يقوم بأمرين في كل الأديان، وهما عبادة الله والرحمة أو المحبة لكل خلق الله.
يُرَبَّى الإنسان إذاً، منذ طفولته وفي كل مراحل تعليمه على أنه إنسان وجميع الناس مثله، مهما اختلفوا عنه في الدين أو الحضارة أو العرق. تبدأ هذه التربية الشاملة، المؤسسة على إنسانية الإنسان، في العالم كله، فيصبح الإنسان قادراً على القضاء على الأجندات الحربية المختلفة، الخفية أو الظاهرة، لتبدأ طريق يسير عليها بشر يسعون نحو صلاح جميعهم، ونحو الأخُوَّة الشاملة.
تربية شاملة مؤسسة على إنسانية الإنسان، وفي الوقت نفسه تحترم مبادئ الأديان في كل شعب، بل يصبح كل دين صوتاً ينادي، بناء على عقيدته الراسخة بالله الواحد الأحد، بإنسانية جديدة مبنية على الأخُوّة الشاملة، وأننا كلنا خليقة الله، وكلنا إنسان واحد، مهما كانت خصوصيات الشعوب وحضاراتها وأديانها. كلنا متساوون وكلنا مسؤولون بعضنا عن بعض. الإنسانية بحاجة إلى تربية إنسانية شاملة، مخلصة في الوقت نفسه لكل دين وحضارة في كل بلد، فتدعو إلى تكملة مناهج التربية الإنسانية في كل مراحل التعليم في جميع دور العلم، لنستطيع أن نبدأ إنسانية جديدة وعالَماً جديداً. قال الله: «ها أنا أجعل كل شيء جديداً» (الرؤيا 21: 5). وهو سبحانه يمنح نعمته لكل من سار في طريق الصلاح والأخُوّة.
وأخيراً الشباب مسؤولون، إن عرف الممسكون بمقدرات البشرية أن يربوا أجيالاً صاعدة جديدة تؤمن بالله وتؤمن بالإنسان أنه واحد في كرامته، مهما اختلفت الأديان والثقافات والحضارات. حتى يكون للشباب دور، لا بد من شباب جديد، ومثاليات جديدة، ورؤًى أساسية جديدة. كل واحد مرسخ في حضارته وفي دينه، ولكن كل الحضارات وكل الأديان، بكل خصوصياتها، ترسِّخ الأجيال الصاعدة في أصل واحد مشترك: أنَّنا متساوون.
ولكن، إن استطعنا أن نربّي الشبيبة، هل نقدر أن نربي أو نعيد تربية كل الذين في أيديهم ثروات الشعوب، وخطط الحروب؟ هل يمكن أن يقبل هؤلاء بالحقيقة الأساسية، مساواة الناس أجمعين، وأن قانون البشرية هو تحقيق الذات بمساندة بعضنا بعضاً. فلا يبلغ إنسان كماله وحده، بل هو وأخوه. ولا يبلغ شعب كماله وحده بل هو وشعوب الأرض، لأنهم كلهم إخوة وخليقة الله الواحد الأحد.

خاتمة
تتحقق الأخُوّة الإنسانية إن ارتدَّ صانعو الحرب وتجّار الأسلحة وبدَّلوا طرقهم، وإن عَدَلَ المتصرِّفون بثروات الشعوب فأشركوا في خيرات الأرض كل أبناء الأرض، وإن تبدَّلت العلاقات بين الشعوب، من علاقات «قوي» يفرض ما يرى ويريد، إلى علاقات إنسان يعامل كل إنسان وكل شعب بموجب المساواة الكاملة بين الشعوب. تتحقَّق الأخُوّة الإنسانية إن ترسَّخت تربية إنسانية شاملة في كل الشعوب والحضارات والأديان، أن الناس متساوون، ولا أحد أفضل من أحد، بل الكل إخوة متعاونون في بناء الأرض والإنسان.
العلاقات بين الشعوب اليوم مبنية على الخوف المتبادل، ومن ثم على التسلُّح الوقائي، وعلى تخزين الطاقات الحربية. هذه حال لا تسمح بتحقيق الأخُوّة الشاملة. ولهذا يجب أن تتحوَّل تحوُّلاً كاملاً. يجب أن تنتقل من مراهنة على أن الإنسان الآخر هو عدو وهو شر، إلى مراهنة على أن الإنسان الآخر هو أخ وقادر على الصلاح. هذا التحوُّل لم يتِمَّ بعد. وقد تحقَّقت الأخُوّة الإنسانية إلى حد بعيد في إطار مؤتمرنا هذا الذي يجمعنا اليوم لنفكِّر في إنسانيتنا ودعوتنا الأساسية لأن نكون إخوة. ولكن، في مناطق كثيرة من العالم لم تتحقَّقْ بعد. ولأنّ الآخر ما زال عدُواً، لم تقدر المنظمات العالمية للسلام أن تقوم بمهامِّها إلا بصورة جزئية، فلم تقدر أن تمنع لا الحروب، ولا الجوع ولا الفقر.
التربية التي تحقِّق الأخُوّة الشاملة تُبنَى على مفهوم وواقع المساواة بين الناس. فلا أحد يسيطر على أحد ولا أحد يستبدُّ بأحد، بل الكل يتعامل كإخوة ،كلّ واحد مهتمٌّ لأن يبلغ هو وأخوه معاً كمالهما في هذه الأرض، وبكمال الأفراد تبلغ الشعوب كمالها، وتحقِّق الأخُوّة الشاملة.
ما زالت الحروب كثيرة في أنحاء العالم وكذلك الخلل الاقتصادي والمجاعات والأمراض. يكفي أن نشير إلى الشرق الأوسط، وإلى مركز الشرق الأوسط أي القدس وفلسطين. أرض مقدسة لها مكانتها في الديانات الموحدة، ودعوتها أن تكون أرض سلام ومانحة سلام للعالم، ولكنها حتى اليوم أرض حرب، ومنذ أكثر من مئة عام، والهيئات الدولية، هيئة الأمم وكل المؤسسات التابعة لها، تراقب، وتتواجد، وتقرر، ولكن لا قوة لها لأن تضع حداً لحالة الحرب فيها التي يفرضها الأقوياء.
لنعمل معاً وسوياً من أجل أن تتحقق العدالة في فلسطين ويزول الاحتلال العنصري البغيض لأنه بغياب العدالة لا يمكن أن يتحقق السلام والقضية الفلسطينية هي مفتاح السلام في منطقتنا وفي عالمنا.
ولنعمل معاً وسوياً من أجل السلام في سوريا الجريحة متضامنين مع إخوتنا في الإنسانية في العراق وليبيا ومطالبين أيضاً بأن تتوقف الحرب العبثية التي تدمّر اليمن كما أننا نتضامن مع كافة ضحايا الحروب والإرهاب والعنف والعنصرية في أي مكان في هذا العالم. ما زال في العالم هنالك شعوب مقهورة فلن يكون هناك سلام ولا يمكن تحقيق الأخُوّة الإنسانية. ما زال هناك فقراء ومحرومون لن يكون هنالك سلام ولا يمكن تحقيق الأخُوّة الإنسانية. وعالمنا مع الأسف مليء بالفقراء. وما زال هناك شعوب مظلومة. وما زال في القدس شعب يظلم شعباً آخر، والعالم يؤيد الظلم أو يعجز عن إزالته، ففي القدس ومن ثم في الإنسانية كلها طريق الأخُوّة الإنسانية يبقى متعثِّراً.
سلام القدس المدينة التي اختارها الله وقدَّسها له، ولتكون مدينة صلاة وفداء للبشرية، سلامها هو بداية تحقيق الأخُوّة الإنسانية الشاملة. واستمرار الحرب فيها استمرار لبشرية متقاتلة وقاتلة. ومن ثم واجب الإنسانية اليوم أن تخرج من سلطان الموت الذي تعيشه إلى الحياة الوافرة والأخوة الشاملة.
* رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في القدس الشريف