في الذكرى الحادية عشرة لرحيل المناضل والقائد الفلسطيني والعربي جورج حبش (26 كانون الثاني/ يناير 2008)، أحد أبرز مؤسسي حركة القوميين العرب، والأمين العام المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يُصدر «مركز دراسات الوحدة العربية»، مذكّرات جورج حبش في كتاب بعنوان «صفحات من مسيرتي النضالية»، في تغطية لأبرز محطات تجربته النضالية. خصّ المركز «الأخبار» ببعض فصول الكتاب، تولّى تقديمها ومراجعتها الكاتب سيف دعنا وستُنشر تباعاً في حلقات.
في دمشق تعرّفتُ إلى مجموعة من الشبان الفلسطينيين صغيري السن في تلك الفترة، الذين شقوا طريقهم في ما بعد في الحقل الأدبي والصحافي والعلمي؛ أذكر منهم بوجه خاص عصام النقيب الذي لمستُ فيه منذ تلك الفترة مواهب فذّة. كان رغم بدايته في كتابة المقالات الصحافية، يكتب بأسلوب رائع، وكنت عادة أرسل ما يكتبه فوراً إلى المطبعة من دون أيّ تصحيح. وقد تابع دراسته في أمريكا وحصل على الدكتوراه في العلوم النووية. تعرفت أيضاً إلى فضل النقيب والشهيد غسان كنفاني، وهو أغنى من أن يُعرَّف؛ كما تعرفت إلى بلال الحسن، وأحمد خليفة، ومحمود فلاحة، وغيرهم من الشبان الفلسطينيين. وما زلت حتى هذه اللحظة أذكر تلك الأيام بلهفة وحنين، وبخاصّة الليالي التي كنت أقضيها قبيل صدور العدد استعداداً لإرساله إلى الأردن. ومع أن الجزء الرئيسي والأساسي من وقتي كان يستغرقه عملي في الرأي، إلّا أن قسماً من وقتي بطبيعة الحال كان ينصرف لقيادة عمل الحركة بوصفي عملياً المسؤول الأول عن هذا التنظيم؛ فقد كنت بين وقت وآخر أذهب إلى لبنان، وأجتمع إلى قيادة العمل في تلك الساحة، وأناقش ما لديّ من ملاحظات بالنسبة إلى نشرة الثأر التي كان يشرف عليها في الدرجة الأولى الإخوة في لبنان، ولا سيما صالح شبل، وبعده مصطفى بيضون وبعد ذلك محسن إبراهيم. وكنت أراسل الإخوة في الأردن. أما في سورية فقد كان عمل فرع الحركة محصوراً جداً، وقد يكون ذلك بسبب وجود حزب البعث الذي كان ناشطاً في تلك الفترة، وكذلك وجود الحزب الشيوعي، وكان عددنا في سورية لا يزيد على العشرات. لكنني، رغم كل ذلك، ما زلت أذكر بل من واجبي أن أذكر مجدداً الأخت أسماء الموقّع، التي كانت قد وهبت نفسها كلياً للعمل بصورة رائعة ومثيرة للإعجاب والتقدير. وهذا لم يكن مألوفاً في مجتمعنا في ذلك الوقت.
بعد زيارة الوزير البريطاني تمبلر الأردن في كانون الأول/ديسمبر 1955 وانتفاضة الجماهير ضد مشاريعه التي كانت تستهدف ضمّ الأردن إلى حلف بغداد، وإفشال هذه المشاريع، وانتصار إرادة الجماهير، وإقالة وزارة هزاع المجالي، ساد الأردن جوّ ليبرالي بدأ يبشّر بانتعاش حركة الجماهير أكثر كثيراً من السابق، وهنا شعرت بأنّ من واجبي أن أذهب إلى الأردن، وأجتمع إلى القيادة، وأضع البرامج التي تمكننا من الإفادة من تلك اللحظة السياسية.
ذهبت إلى الأردن عن طريق البرّ تهريباً، واجتمعت بالإخوة في ذلك الوقت، واقترحت عليهم أن أبقى في عمّان بوضع سريّ، ولكنّهم شدّدوا على ضرورة عودتي إلى سورية لشعورهم بأنّ استمرار صدور الرأي يفيد كثيراً في ما يتعلق بالإفادة من الجو الذي نشأ بعد فشل زيارة تمبلر. حينها عدت إلى سورية كي أستمرّ في إصدار المجلة.
بعد بضعة أشهر، أي في 1 آذار/مارس 1956، قامت حركة الضباط الأحرار في الأردن بطرد غلوب باشا‏ قائد الجيش الأردني، ولم يكن الملك حسين بعيداً من هذه الخطوة، فساد جو ديمقراطي عميق في الأردن الذي كنت أعتبره ساحة عملي الرئيسية. ولم يكن الرفاق يعارضون ذلك بعد أن طرد غلوب باشا.
في نيسان 1957 فُرضت الأحكام العرفية في الأردن، فكان هاجسي ضرورة استمرار العمل والتحدّي. وفكّرت في الاختفاء، فاختفيتُ فعلاً في عمّان


لكنّنا حرصنا بطبيعة الحال على الاستمرار في إصدار مجلة الرأي وكان الرفيق هاني الهندي قد تولى هذه المسؤولية.
كان الأردن في عام 1956، أي بعد طرد غلوب باشا، ساحة نشاط جماهيري رئيسية، وقد قمتُ خلالها بأنشطة جماهيرية على صعيد الندوات والمحاضرات والمهرجانات في عمّان بالدرجة الأولى، وفي بعض المدن الرئيسية في المملكة في الدرجة الثانية. في هذا العام، كان المسؤولون في الأردن من شبان الحركة قد طرحوا فكرة الاشتراك في البرلمان وخوض غمار الانتخابات. هنا شعرنا نحن، أي حركة القوميين العرب، بأنّها فرصة سانحة لخوض هذه الانتخابات. ولم يكن في ذهننا أن نفوز فيها بقدر ما كان في ذهننا أن نكون أمام فرصة للاحتكاك بالناس وتوعيتهم، ووضعهم أمام مسؤوليّاتهم، والتبشير بشعاراتنا ومفاهيمنا. ما زلت أذكر أنني نزلتُ في هذه الانتخابات عن دائرة عمان مع الأخ نزار جردانة، كما نزل الدكتور أحمد طوالبة، ورفيق آخر عن إربد، والدكتور صلاح العنبتاوي، ومحمد العمد، عن نابلس. ومع أنّني لم أنجح في تلك الانتخابات، إلّا أنها كانت تجربة رائعة، فقد حصلتُ على عدد من الأصوات لم أكن أتوقّعه (ما يزيد على ثلاثة آلاف صوت)، مع أنّنا لاحظنا أن نسبة عالية من الذين صوّتوا لي كانوا من أبناء البلد، أي اللد، ومن المسيحيين في عمان. وكان من الطبيعي ألّا أكسب معركة الانتخابات، أولاً بحكم صغر السن، من ناحية، ولعدم معرفة الناس بي على نحوٍ واسع من ناحية ثانية، ولوجود عدد من الزعامات التقليدية وتأثيرها في المجتمع من ناحية ثالثة. كان ذلك في عهد سليمان النابلسي رئيس وزراء الأردن في ذلك الوقت. تم عقد مؤتمر لحركة القوميين العرب سنة 1956 ضم أكثر من 14 عضواً من مختلف الأقطار العربية، منهم: جورج حبش، وديع حداد، محسن إبراهيم، مصطفى بيضون، أحمد ستيتية، ثابت مهاينة، الحكم دروزة، هاني الهندي، عدنان فرج، صالح شبل، أحمد الخطيب وحامد جبوري. وفي هذا المؤتمر تمّ إطلاق اسم «حركة القوميين العرب» على التنظيم الذي كان يُعرف باسم «الشباب القومي العربي».
وفي 25 نيسان/أبريل 1957 فُرضت الأحكام العرفية في الأردن، فكان هاجسي ضرورة استمرار العمل والتحدّي. وفكّرت في الاختفاء، فاختفيتُ فعلاً في عمان. لم يكن لدى الإخوة كافة الاستعدادُ نفسه لتحدّي الأحكام العرفية والنظام؛ لكن بعضهم، وبخاصة أبناء المخيمات وبعض الكوادر، كان يلحّ على ضرورة العمل والنشاط من خلال إصدار بيانات، وتوزيع المنشورات، وبعضهم الآخر كان يفكّر بضرورة ممارسة العنف ضد النظام. لكن قيادة العمل في الأردن كانت متردّدة جداً إن لم أقُل خائفة من ممارسة أيّ أنشطة عنيفة. وقد حاولتُ في بداية الأمر أن أصبر قليلاً، ولكنني وجدت بعد بضعة أسابيع أن استمرار الوضع على هذا النحو، وعدم القيام بأيّ أنشطة، سيخسرنا قاعدتنا الجماهيرية، وبخاصة في المخيمات. فبدأتُ بالنشاط، وشكّلت قيادة ميدانية لتمارس التحدي. ومع أوّل الأنشطة التي تجلّت بتوزيع منشورات، جاءتني اعتراضات وانتقادات من بعض الإخوة الذين كانوا متردّدين وقالوا: إن هذا سيسيء إلينا كثيراً، وصوّروا لي الأمور بأننا سنكون أمام كارثة. ولكنني استمريت في العمل، وبخاصّة أن الجماهير كانت تتلقّى هذه المنشورات بحماسة شديدة.
كانت سورية في ذلك الوقت تشكّل ساحة وطنية، وقد لجأ إليها بعض القادة الوطنيين الأردنيين ليتابعوا معارضة النظام من الخارج. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عبد الله الريماوي، ممثل فرع البعث في الأردن، والدكتور عبد الرحمن شقير، وهو صديق حميم لحزب البعث، وغيرَهما كُثُراً؛ وكذلك بعض الضباط الأحرار‏ في الأردن الذين لجأوا إلى سورية. لذلك نشأت فكرة تشكيل جبهة وطنية تقود العمل الوطني وتسندها سورية (جبهة معارضة وطنية للنظام الأردني)‏. وكان عبد الحميد السراج وزير الداخلية آنذاك يدفع بهذا الاتّجاه. وكان ممثلنا في هذه الجبهة الرفيق هاني الهندي، إذ لم يغادر أحدنا إلى سورية؛ فالرفيق وديع حداد كان في سجن الجفر، وكنت أنا مختفياً في ظروف معقّدة وشديدة الصعوبة لمتابعة النشاط الحزبي، واكتفينا بأن يمثلنا الرفيق هاني رغم أنه ليس أردنياً أو فلسطينياً.

الحكيم مع أحمد بن بيلا

اتّخذت القيادة الخلفية لمساندة العمل الوطني، أي تلك الجبهة التي تشكلت في سورية. هنا كان دورنا في الأردن فاعلاً جداً بالمعنى النسبي على الأقل، أي مقارنة بما فعلته التنظيمات الأخرى. إلا أننا، بعد ممارسة بضعة أنشطة عنيفة، تم القبض على إحدى المجموعات، التي كنّا نسميها في ما بعد «مجموعة ناديا السلطي»‏، تلك الفتاة التي نجحنا في تنظيمها في الجامعة الأمريكية مع إسطفان إسطفان خطيبها. ونتيجة التعذيب والضرب والتهديد التي تعرض لها أفراد هذه المجموعة تم إلقاء القبض على مجموعة أخرى من الشباب، أذكر منهم حالياً المرحوم عبد الحميد شرف وأخاه فواز اللذين انضما إلى التنظيم من الجامعة الأمريكية في بيروت. كذلك تم إلقاء القبض على مجموعة من شباب المخيمات، أذكر منهم أحمد عيسى وغيره. ونتيجة خوفنا من تتالي الاعتقالات أرسلنا إلى سورية مجموعة من الإخوة الذين كنا نخشى أن يلحقهم الدور في الاعتقالات، ولم أعد أذكر إذا كنا قد أرسلنا الرفاق إلى سورية نتيجة اعتقال نادية ومجموعتها، ولكنني ما زلت أذكر أنه نتيجة مجمل الأنشطة، سواء العنيفة منها أو الجماهيرية، تم إرسال عددٍ كبيرٍ نسبياً من الرفاق أذكر منهم الآن: فايز قدورة، الدكتور أحمد الطوالبة، إبراهيم قبعة، ونايف حواتمة وآخرين.
قلت إن القيادة السابقة في الأردن لم تكن بمستوى التصدّي بحكم تكوينها وخصوصيتها، لكنني بعد ذلك شكلت قيادة جديدة أذكر منها في بداية الأمر: محمد ربيع، وأحمد العسعس، وفي ما بعد أضيف إليها حسبما أذكر إبراهيم قبعة ونايف حواتمة.
لقد سجّلنا أنشطتنا كافة، سواء الطلابية أو الجماهيرية أو الإعلامية، في كراس بعد مرور عام، لم أعد أذكر اسم ذلك الكراس بالضبط، ولكن المحتوى كان تسجيل الأنشطة كافة التي قمنا بها خلال عام. وكنا نصدر نشرة سرية، أعتقد أننا سمّيناها «ما لا تنشره الصحف». فقد كنا نسجّل كل ما تقوم به السلطة من إجراءات قمعية، وكل ما تقوم به الجماهير من أنشطة في هذه النشرة التي كان ينتظرها الناس بشوق. وأعتقد أننا كنا في تلك الفترة الفصيل الوطني الأول في مجمل الأنشطة والتحريض.
أثناء فترة الاختفاء هذه، حدث ما أعتقد أنه أهم حدث سياسي بالنسبة إلى الثورة العربية والنضال العربي، وهو قيام الوحدة بين مصر وسورية في شباط/فبراير 1958، أي قيام دولة عربية جديدة هي الجمهورية العربية المتحدة. وقد أحدث هذا الحدث الكبير والمهمُّ تفاعلات جماهيرية لا توصف، وبخاصة في المشرق العربي.
بدأت أحلام الجماهير العربية تتصور أن دولة الوحدة العربية الشاملة يمكن أن تتم خلال حياة هذا الجيل العربي الراهن. كذلك بدأت جماهيرنا تحلم بإمكان القضاء على إسرائيل، وبغير ذلك من الأحلام الكبيرة. وكان انعكاس هذا الحدث كبيراً حتى في الساحة الأردنية، سواء لدى السلطة أو لدى الجماهير. فمن ناحية السلطة أقبلت على خطوة توحيدية شكلية من خلال قيام الوحدة بين العراق والأردن، حيث سميت هذه الوحدة بالاتحاد الهاشمي. أما بالنسبة إلى الجماهير، فقد ارتفعت معنوياتها واشتدت مقاومتها للنظام. وما زلت أذكر تلك الأيام السعيدة التي عشتها وعاشتها جماهيرنا كلها ليس في الأردن فقط، بل في أرجاء الوطن العربي كافة، وبخاصة في بلدان المشرق، حيث كانت الجماهير العربية في لبنان تزحف نحو قصر الضيافة في دمشق عند حضور الرئيس عبد الناصر، وكان المنظر كما خُيّل لي مذهلاً. في هذه الأثناء حضر رفيق من دمشق أُرسل من جانب قيادة عملنا، يحمل اقتراحاً بحلّ «حركة القوميين العرب» ما دام عبد الناصر قد تولّى قيادة النضال لتحقيق الأهداف القومية نفسها التي كنا نناضل من أجلها. ورغم تقديري العميق والكبير للقيادة الناصرية، ورغم تفكيري بضرورة التنسيق والعمل المشترك مع هذه القيادة، إلا أنني بصراحة ذُهلت لهذا الاقتراح، ولم أتردّد بأي صورة من الصور في رفضه كما طُرح لي من جانب الرفيق مصطفى بيضون.
كنت أدرك أن الوحدة العربية الثابتة والمتطوّرة يجب أن تقوم على عاتق الجماهير، والقيادة الناصرية كانت تخاطب الجماهير؛ لكن يوجد فرق بين المخاطبة والتعبئة والتنظيم. وما زلت أذكر التعبير الذي استندتُ إليه في تلك الفترة في إبداء وجهة نظري، إذ قلت: إن عبد الناصر يشكل القيادة الرسمية للثورة العربية، أما حركة القوميين العرب فيجب أن تبقى لتشكل القيادة الشعبية للثورة العربية.
تركت الزيارة تأثيراً كبيراً في نفسي، وبدأت أتساءل عن قدرة الرفاق في دمشق على مواجهة تلك المرحلة. فقد كان هناك تيار جارف ضد العمل الحزبي، وعلى رأسه عبد الناصر نفسه، ولم يكن سهلاً أن نصمد في وجه مثل هذا التيار. فبدأتُ أفكر في الذهاب إلى سورية فترة من الوقت، أو فترة طويلة، كون العمل في ساحة الأردن جزءاً لا يتجزأ من العمل الكبير الذي نطمح إليه كحركة قوميين عرب. وقد زاد من رغبتي في الانتقال إلى سورية أنني شعرت بأن في الأردن عدداً من الرفاق الذين يمكن الاعتماد عليهم بعدما أثبتوا من خلال التجربة قدرة كافية على تحمّل المسؤولية وبالتالي على تولّي الأمور القيادية هناك.
بدأت جماهيرنا تحلم بإمكان القضاء على إسرائيل، وبغير ذلك من الأحلام الكبيرة


وفي ضوء ذهابي إلى سورية بدأت مرحلة جديدة في عملي امتدت من عام 1959 حتى نهاية عام 1963.
تبقى نقطة تتناول حياتي الشخصية أثناء الاختفاء في الأردن. هنا أذكر أنه توافرت لي فرصة جيدة للقراءة، وكان في البيت الذي اختفيت فيه غرفتان فقط، غرفة كنت أشغلها أنا، والغرفة الأخرى لأصحاب البيت. وحين يحضر ضيوف كانت ربة المنزل تقول لهم إنها قامت بتأجير الغرفة الثانية لممرضة تعمل في أحد المستشفيات، وكان علي أن أمنع نفسي عن السعال أو العطس وألا أقوم بأي حركة طوال وجود الضيوف. لكن وجودي عند هذه العائلة كان يخفّف عني الكثير، نظراً إلى ما كان يربطني بها من علاقات حميمة. وكان يتردد على البيت عدد قليل من أصدقائي المؤتمنين جداً الذين كانت تربطني بهم علاقات عمل. كانوا صلة الوصل بيني وبين الإخوة في الخارج. من بين الذين زاروا هذا المكان كضيوف كانت هيلدا، الإنسانة التي أصبحت زوجتي في ما بعد، كما سبق أن ذكرت. وكنت أعرفها منذ الصغر، لكنني انقطعت عن رؤيتها فترة طويلة بسبب ظروفي الخاصة. كان أحد أصدقائي قد سألني أثناء وجودي في الأردن خلال إحدى زياراته لي في العيادة: «لماذا لم تتزوج حتى الآن؟ وأشار إلى هيلدا وقال: عندك ابنة عم جمعت العلم إلى جمال الخُلق، لقد التقيتها صدفة عند أحد الأصدقاء». وحين رأيتها من ثقب الباب أثناء زيارتها لأهل البيت فترة الاختفاء، أدركت أن المرحوم رؤوف حلبي كان على حق، وبدأت منذ ذلك الحين أفكر جدياً في الزواج منها، لكن الظروف السياسية ووضعي الخاص أثناء الاختفاء كانا يحولان دون الاتصال بها.
ومن وقت إلى آخر كنت أشعر أنه يتوجب عليّ أن أغيّر مكان إقامتي لأسباب أمنية، إذ كثُر عدد الرفاق الذين يأتون إلي، فانتقلت إلى بيت آخر مشياً على الأقدام متخفياً. وفي إحدى الليالي أثناء وجودي في ذلك البيت قُرع الباب، وحين فتح أهل البيت دخل رجال الأمن على الفور، ولما لمحت ذلك أدركت أنهم قادمون لإلقاء القبض عليّ، ولم يخطر ببالي أنهم يمكن أن يكونوا قادمين لأي غرض آخر، وبخاصة أننا كنا قد وزعنا منشوراً قبل بضعة أيام ضد النظام. وفي الحال خرجت من الباب الخلفي، وقفزت من على السور وأصبحت خارج نطاق البيت، وبدأت أتدحرج بسرعة فوق الحجارة والأشواك إلى أن وصلت إلى سور مدرسة راهبات الناصرة، حيث مكثت هناك إلى حين رأيت أحد أفراد البيت يطل يبحث عني يميناً ويساراً ليعلمني أن رجال الأمن قد خرجوا. عدت إلى البيت لأجد أن هدف رجال الأمن لم يكن إلقاء القبض علي، إذ إنهم لم يكونوا على علم باختفائي، وإنما كان هدفهم إلقاء القبض على شاب هو ابن صاحب المنزل الذي اقتادوه للتحقيق بتهمة توزيع منشورات ضد النظام.

* الحلقة السابقة:

«الأخبار» تنشر فصولاً من مذكّرات حكيم الثورة [3/4]