الدولة الحديثة هي الدولة القومية، ولا وجود لدولة حديثة خارج إطار الدولة القومية، فقد سُمّيت «حديثة» لأن أسسها ومرتكزاتها مغايرة تماماً لكلّ أنواع التنظيمات المجتمعية التي سبقتها، بدءاً من القبيلة والعشيرة والطائفة، وصولاً إلى الإمبراطوريات الدينية.بدا لوهلة، في أواخر القرن الماضي، أن الدولة القومية قد اضمحّلت نتيجة العولمة، حين اعتبر كثيرون أن العالم قد تحوّل إلى قرية صغيرة تديرها الولايات المتحدة الأميركية، لكن هذا النموذج تضاءل وهجه حالياً، لأن الولايات المتحدة التي فرضت العولمة عنوة على جميع الدول، وخاضت الحروب المدمرة من أجل هذا الهدف، التفّت عليها، حين تفوّقت الصين في هذا المضمار.
الحقيقة إذاً، أن الدولة القومية لا تزال منيعة، وتقاوم التحديات التي تواجهها، بينما لا تزال دول عديدة في العالم بعيدة كل البعد عن الدولة القومية، لأنها ترفض أن تأخذ بالمقومات الأساسية التي تنقلها من العشائرية والطائفية إلى الدولة الوطنية/القومية، لا الدولة العنصرية المتطرفة(1).
في ما يأتي محاولة لخطّ المقومات التي تتشكّل على أساسها الدولة الوطنية/القومية والتي من دونها لا إمكانية لنشوء دولة حديثة.

المجتمع القومي مجتمع منفتح
بالنسبة إلى سوراقيا، العقبة الأولى التي تحدّثت عنها بإسهاب(2)، هي تقسيمها من قبل المحتل الأوروبي إلى دويلات منذ قرن من الزمن، وعدم السماح لهذه الدول بالتواصل والتكاتف، بل إثارة الشحناء والبغضاء فيما بينها كي لا تتحدّ ولا تتفق على موقف تجاه العدو الخارجي. تسعى هذه الدول إلى إثارة القلاقل الداخلية لإبقائها ضعيفة وتحت السيطرة، أي إن المستعمر سعى عن عمد إلى إرغام مجتمعنا على الانغلاق. ذلك أنه حتى بالنسبة إلى الدولة الوطنية، هي وطنية بالاسم لا الفعل، لأن الشرط الأساسي لوجود وطن هو «الشعور بالانتماء من قبل جميع أفراده»، وهذا ما ليس حاصلاً حتى الآن، ولا رموز متفق عليها ومقبولة من الجميع، ولا مساهمة واعية وفعالة لإحياء حياة مشتركة ووضع أهداف مشتركة، بل على العكس من ذلك، فلكل طائفة، ولكل مذهب ولكل إثنية، أهداف مغايرة، وكل واحدة منها تعتبر أنها تشترك بالحياة مع من ينتمي إلى مذهبها أو إثنيتها، حتى لو كان خارج حدود وطنها، أكثر من الذين يتقاسمون الأرض معها، ما يؤدي إلى اهتزاز شرعية الدولة، وبالتالي وجودها، «وعدم قبول الأفراد والجماعات المكوّنة للدولة بالانتماء إليها، والنزوع نحو الانفصال، أو الحكم الذاتي، أو الفدرالية»(3).
الانفتاح على الآخر المشترِك في المواطنة هو السمة الأولى البارزة في المجتمع القومي، ذلك أن المجتمع القومي يعدّ كل من يحيا على أرض الوطن يحق له تلقائياً الانتساب، بينما القبيلة والعشيرة والطائفة والإثنية هي تجمعات مُغلقة تمنع انتماء الآخر إليها، إما بسبب علاقة الدم، أو النسب، أو الدين، كذلك فإنها تتبع التقاليد القديمة التي لا تتماشى مع تطور المجتمع عبر الزمن، وتتخذ مواقف محافظة للغاية تجعلها تتقوقع وتتحجر ضمن بيئتها. من مظاهر المجتمعات العربية انغلاقها ورفضها للآخر المشارك في الجغرافيا بناءً على النسب المتوارث، أو علاقات الدم كما في العشيرة والقبيلة، أو الانتماء الطائفي/الديني.
إن الخطوة الثورية الأولى باتجاه ترسيخ الدولة القومية، إسباغ العضوية والهوية الوطنية لكل المقيمين ضمن حدود الدولة دون إعطاء أي اعتبار للنسب، أو الطائفة، أو علاقات الدم والإثنيات، وأول مظاهر التحول من المجتمع المنغلق إلى المجتمع المنفتح، الحصول على المواطنة التلقائية لكل من يولد ويحيا على بقعة جغرافية محددة.
هذا المسار كان قد بدأ بالتشكّل في خمسينيات القرن الماضي في دول سوراقيا، ودول شمال إفريقيا، حيث برزت أحزاب سياسية وطنية/قومية أدخلت في عضويتها المواطنين بمعزل عن هويتهم الدينية أو الإثنية، وتمحور الصراع بين الاحزاب آنذاك حول الأهداف والمسار السياسي.
من نتائج التحول من تجمعات منغلقة إلى منفتحة، انبعاث نهضة فكرية غزيرة من جراء التفاعل الحرّ بين أعضاء المجتمع في العلوم والآداب، والصحافة والشعر، والأدب والمسرح والفن، وفي بناء المنتديات ومراكز الأبحاث، فتحولت بيروت مثلاً إلى عاصمة سوراقيا الفكرية، حيث تنافس فيها المثقفون والكتّاب القادمون من العراق وسورية وفلسطين والأردن مع المفكّرين المحليين، من جبرا إبراهيم جبرا، إلى سلمى الخضراء الجيوسي، وبدر شاكر السياب والبياتي، وفدوى طوقان، ومحمود درويش وأدونيس، وياسين رفاعية، أمل الجراح، ليلى بعلبكي، خليل حاوي، يوسف الخال، فؤاد رفقة، حليم بركات، ناصيف نصار، كمال الحاج، كمال صليبي، إدمون رباط، سلوى نصار، قسطنطين زريق، أنيس ويوسف الصايغ... وكثيرون غيرهم، فضلاً عن القيادات الفكرية التي عمدت إلى تأسيس أحزاب حديثة تطالب بالقومية، من ميشال عفلق إلى ساطع الحصري، إلى أنطون سعادة... لكن حالما عدنا إلى تجمعاتنا المنغلقة على أسس إثنية وطائفية نتيجة الحروب الأهلية، تلاشت هذه النهضة. من هنا، نستنتج أن لا مكان لنهضة فكرية إذا لم يتحول المجتمع من منظومة الدولة التقليدية القديمة إلى الدولة القومية الحديثة، وكلّما كان المجتمع منفتحاً، زاد تطوّره وتقدمه على الصعد كافة.
من مظاهر المجتمعات العربية رفضها للآخر المشارك في الجغرافيا بناءً على النسب المتوارث، أو علاقات الدم أو الانتماء الطائفي / الديني


تؤكد الأدلة التاريخية أن المجتمعات تتقدم عبر التفاعل لا الانغلاق، وما علينا إلا المقارنة بين أسبرطة الرافضة للآخر في مواجهة أثينا المنفتحة التي أنتجت ثقافة متقدمة للغاية(4). الأمر نفسه ينطبق على احتكاك الغرب عبر القرون الوسطى بالمشرق العربي، وأخذه العلوم من رياضيات وطب وفيزياء، ما أدّى إلى نهضته وبناء دوله الحديثة. إذاً، عدم التفاعل كما نفعل نحن اليوم، ورفض الأخذ بمعايير جديدة هو السبب الرئيسي الذي يجعلنا نرفل في التخلّف. فكل شعب يقتبس ما هو مفيد له، ثم يطوره حتى يصبح جزءاً من شخصيته، ومن المضحك نبذ المقولة القومية فقط لأنها نتاج غربي كما يشدّد العديد من الكتاب العرب، وخاصة السلفيين، لكنهم لا يرفضون السيارة أو الطائرة أو الهاتف، أو مجمل التكنولوجيا التي يقدمها الغرب إلينا، وكأن هؤلاء الكتاب يريدوننا أن نبقى مستهلكين لا مبدعين، ويوهموننا بأننا سنفقد هويتنا إن نحن أخذنا بمقولات جديدة، وكأن الهوية هي قطعة جامدة لا ديناميكية فيها ولا حركة!
هذا الرفض المبني على عدم الأخذ بمقولات الدولة الحديثة ومبادئها، هو تنازل عن معترك الحياة، والقبول بهيمنة الغرب، لأن الدول العربية تعيش وهي تتنفس هذا الغرب، والمواد التي تستهلكها جلّها غربية، وهي تدفع ثمنها من مواردها، لا بل إن مواردها مستباحة لأن لا وجود لدولة قومية تحميها.
من الضروري التشديد على أن التفاعل بين الأفراد والجماعات والحضارات هو الذي يؤدّي إلى التطور، لأن أي تفاعل يُجبر المجتمع على إيجاد حلول لتحديات جديدة، وإلا اضمحل أو تحول إلى مستنقع راكد.

من المتحدات الشخصية إلى المتحدات الجغرافية
يعدّ الانتقال من الاتحاد الشخصي إلى الانتماء الجغرافي التطور التاريخي الأهمّ في بناء المنظومة القومية. فالاتحاد الشخصي يرتكز على علاقات الدم، أو العلاقات الدينية، أو الإثنية، بينما الانتماء إلى أرض الوطن هو الذي يحدّد الهوية ويعطي معنىً اجتماعياً/سياسياً/اقتصادياً لوجود المجتمع.
الانتقال من الانتماء الشخصي إلى رحاب الدولة القومية الحديثة، ليس بالأمر السهل، ويأخذ وقتاً طويلاً كي يتبلور. ولقد أسهم النظام الاقطاعي المعمول به في الغرب، في نشوء إقطاعات ضخمة تحولت فيما بعد إلى نواة لدول قومية، ذلك أن الإقطاعات لم تكن مقسّمة بين الأولاد، بل إن قانون (primogéniture) الذي عُمل به في أوروبا، كان يعطي الإقطاع للصبي البكر، بعكس التشريع البابلي ثم الإسلامي الذي كان يوزّع الميراث بين الورثة الذكور، فتبقى الإقطاعات محدودة الحجم.
بالإضافة إلى ذلك، ارتبط الفلاحون وعائلاتهم في الغرب بالأرض، فمثّلوا جزءاً من الإقطاع، يُباع ويُشترى معه، فنتج من ذلك تمسّك الأهالي بالأرض والشعور بالانتماء إليها، لا إلى سيدها الإقطاعي. ومع ضمّ الإقطاعات بعضها مع البعض الآخر بواسطة الحروب أو الزيجات، أصبح الإقطاعي الأكبر مَلِكاً ليس فقط على عشيرته، بل على عشرات العشائر الأخرى التي ضُمت بواسطة الإقطاع، وكانت هذه بداية نشوء الهوية الوطنية الجامعة.
إن انتصار نموذج الدولة القومية طاغٍ في العالم شرقاً وغرباً، والهوية التي نحملها وننتقل بها من بلد إلى آخر تحدد هويتنا الجغرافية، أي مكان الإقامة، لا النسب أو الإثنية أو الدِّين. الفرنسي الذي يحمل جنسية بلاده، مثلاً، يتجول باسمها بناءً على حدودها الجغرافية، وليس بناءً على عرقه الأبيض، أو إثنيته، أو دينه أو عشيرته، فهذه الصفات لم تعد تؤمّن هوية الشخص السياسية، أو حتى وجوده، والدولة تصبح ملزمة بالدفاع عنه بسبب انتمائه إلى أرضها.
لم تتبنّ الدول العربية هذا النموذج، ولا تزال تعيش في مستنقعات الاتحادات الشخصية وصراعاتها فيما بينها ورفضها لمن يعيش على الارض نفسها لأنه مختلف دينياً أو إثنياً(5).
إن رفض الآخر الذي لا يشبهنا يعني رفض مبدأ وحدة المجتمع القائمة على الحياة ضمن حدود جغرافية معينة، وينتج من ذلك ضياع المجتمع وتشظّيه إلى أقسام عديدة تتصارع حول قيم متناقضة، وأهداف مختلفة، وطرق حياة مغايرة، لأن انتماءها ليس إلى الأرض المشتركة، بل إلى الطائفة أو الدِّين أو العرق أو الإثنية، ولو كانت تقبل الاعتراف بالآخر الموجود على أرضها، لتوصلنا إلى بناء «مصلحة وطنية» عامة يتشاركها الجميع، لأنها تؤمّن صيرورتهم وبقاءهم كمجتمع متماسك أمام التحديات الخارجية.
وما يزيد من حدة التشرذم، تدخّل الدول الغربية في منع أي وحدة أو تضامن أو تماسك بين أفراد المجتمع عبر التضامن مع هذه الطائفة أو تلك، ولا تحصى المآسي التي مرّت، وتمرّ بها سوراقيا من جراء رفض الهوية الوطنية/القومية، وارتماء البعض في أحضان من هم خارج دولتهم القومية، لأن الأولوية عندهم للانتماء الشخصي.

سمات المتحد الجغرافي القومي
نشأت الدولة القومية الحديثة لأسباب موضوعية في خضمّ تطوّر البشرية، وجرى التركيز على الهوية المشتركة لجميع من يوجد على أرض محددة في تمايز مع الآخر الساكن خارج هذه الحدود. هذا الواقع يعني بالضرورة أن من يحارب باسم الإثنية أو القبيلة خاسر حتماً، لأن المواجهة تتطلب منه استعمال الأدوات المتوافرة للبقاء على قيد الحياة، لا العودة إلى أدوات قديمة تؤدي إلى هزيمته سلفاً.
فالتغيير الذي حصل من جراء إعطاء الأفضلية والأولوية للعلاقة بالأرض وحمايتها والدفاع عنها لأن خسارتها تعني خسارة وجودنا، هو من أعظم التحولات التي حصلت في تاريخ البشرية، حيث يضحّي المواطن بحياته في سبيل الدفاع عن أرضه. هذا لا يعني بأيّ شكل من الأشكال إلغاء الاتحاد الشخصي، بل وضعه في المرتبة الثانية، لذلك إن المعضلة في بعض التيارات الدينية، كالإسلام السياسي، ليست المحتوى الديني، بل في وضع الدين (الاتحاد الشخصي) فوق كل الاعتبارات الوطنية/القومية، ما جعل العديد من التيارات الإسلامية في العالم العربي تلتحق بتركيا أو الغرب أو غيرها من الدول على حساب وطنها ومواطنيها، كما حصل في سوريا أخيراً. الموقف هذا ينمّ عن رفضٍ للدولة الحديثة المختلطة والمطالبة بالعودة إلى الدولة الدينية. الأحزاب الدينية الموجودة في ألمانيا أو فرنسا أو إنكلترا أو الولايات المتحدة الأميركية، أو أية دولة قومية، أحزاب ولاؤها الأول والمطلق لدولتها وقوميتها، وتعمل ضمن هذا الإطار. ولقد حاربت دول الغرب طويلاً الإمبراطورية الكاثوليكية لتتحرر من سيطرة الدولة الدينية، وأخضعتها لسيطرة الدولة القومية. فكل المعابد والكنائس في الغرب مُلزمة باتّباع قوانين دولتها المدنية، ولا تستطيع فرض قوانين كنيسة روما، لأن الأولوية للدولة القومية. هنا يكمن الفرق الشاسع بين التيارات والأحزاب الدينية في الغرب، وبين التيارات السلفية والإخوانية في العالم العربي. الأمر نفسه ينطبق على تركيا وإيران، فهما دولتان قوميتان بالدرجة الأولى، ومسلمتان بالدرجة الثانية، وولاء رجال الدين في البلدين لدولتهما القومية، وأي إخلال بهذا المبدأ يعَدّ خيانة وطنية.

ما يحدد الهوية في النظام العالمي الحديث هو الأرض. لذا، إن خسارة الأرض تعني خسارة هوية الفرد، كما الجماعة


لأن دول العالم العربي ترفض التحول إلى دول حديثة، وتصرّ على رؤية العالم كمجموع اتحادات شخصية، يرى بعض مفكري هذا العالم العربي أن صراعنا مع الغرب ليس كصراع بين دول قومية تريد الهيمنة والسيطرة والاستيلاء على مواردنا الأولية، بل يؤكد أن الغرب يحاربنا «لأنه مسيحي ويريد القضاء على الاسلام»، وينسى هؤلاء أن الحربين العالميتين حصلتا بين دول أوروبا «المسيحية» وقضت على الملايين منهم، ذلك لأن الحروب الحديثة هي بين دول قومية هدفها البقاء على قيد الحياة، كما السيطرة والتوسع.
الأمر نفسه ينطبق على نظرة دول العالم العربي للمقاومة. بالرغم من أن كلمة مقاومة (resistance)، تحتوي على مفهوم الدفاع عن الأرض لا الدين أو الإثنية. فالمقاومة ردّ فعل ينتج من استيلاء عدو لأرض الوطن، والوطن جامع للإثنيات والأديان، لذلك لم يخطر على بال أحد من الفرنسيين أن ينبذوا المقاومة الفرنسية إبان الحرب العالمية الثانية، لأن مقاوميها جلّهم من الكاثوليك مثلاً! وجان دارك قاومت الإنكليز وهي تحمل الصليب، فهل هذا يعني أنها تحارب لأنها مسيحية، أم أنها تحارب في سبيل وطنها فرنسا؟ في المحصلة، «المقاومة» هي وطنية مهما كانت الأشكال التي تتخذها، لأنها تحرر الأرض الجامعة لكل العناصر، وحين ينبري بعض المواطنين للتركيز على الأصول الإثنية أو الدينية لمقاومة ما، فذلك يعني أننا ما زلنا نعيش ضمن الاتحادات الشخصية لا الوطنية/القومية. هذا هو الحال في دول سوراقيا اليوم، لأنها قُسمت خصيصاً من الغرب الاستعماري كي تكون على شاكلة الاتحادات الشخصية الطائفية والإثنية، لذلك تتحمل هذه المقاومة مسؤولية مزدوجة. من جهة، تذود عن الأرض التي لا يستطيع الجيش حمايتها بسبب التدخل الأجنبي في مصير كيانات هشّة وضعيفة؛ ومن جهة أخرى، عليها مدّ الجسور وإعادة اللحمة بين دول سوراقيا كي تنتصر على العدوان الغربي.
إن ما يحدد الهوية في النظام العالمي الحديث هو الأرض. لذا، إن خسارة الأرض تعني خسارة هوية الفرد، كما الجماعة، فإن خسر الفلسطيني أرضه، خسر هويته الوطنية، ما يضطرّه إلى تبنّي هوية الأرض التي يحيا ضمن حدودها، فيصبح أميركياً إذا انتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية، أو ألمانياً إذا لجأ إلى ألمانيا، ولن يستطيع القول إنه فلسطيني، بل جلّ ما يستطيع فعله، التأكيد أنه ألماني أو أميركي من أصل فلسطيني. فلا عشيرته أو قبيلته أو ديانته أو لغته تستطيع أن تحافظ على هويته. الانتماء إلى الأرض فقط هو الذي يسمح له بالبقاء ضمن مجتمع حي يمثّله. لقد اندثرت مجتمعات بدائية كثيرة خلال القرنين الماضيين جراء خسارتها لأرضها، فكل شعب يخسر أرضه يضمحل من الوجود.
لم يستوعب سكّان العالم العربي هذه الحقيقة حتى الآن، فهم يعيشون خارج منظومة الدولة القومية الحديثة، ويظنون أن من الممكن بقاء شعب من دون أرض، لأنهم لا يزالون يعيشون زمن الاتحاد الشخصي من قبلي وعشائري، بينما واقع الأمر يظهر أن كل فرد أو مجموعة تستقر في أرض ما، تأخذ هوية هذه الأرض، وليس العكس. ما يعني أن الأكراد الذين استوطنوا شمال سورية يصبحون سوريين، ولا تصبح شمال سورية كردية، كما لا تصبح كاليفورنيا مكسيكية، لأن غالبية سكّانها من المكسيك! فالمكسيكيون الذين يعيشون في كاليفورنيا اليوم أميركيون يناضلون للحصول على الامتيازات نفسها التي حصل عليها الرجل الأبيض.
وبما أن منطلقات الدولة القومية الحديثة هي الغالبة اليوم، فإن الدول القومية ترى تراثها من وجهة نظرها القومية، لذلك تنظر الصين إلى البوذية كجزء من تراثها، وتنظر الدولة القومية الإيطالية العلمانية إلى الإمبراطورية الرومانية كتاريخها القديم الخاص بها. إذاً، كل حضارة قديمة لها مرجعيتها القومية الحديثة، أي يجري تقويمها من منظار الدولة القومية، والأرض التي نشأت عليها، بمعزل عن القبيلة أو الإثنية التي أوجدتها.
إن أردنا أن نطبّق مبدأ المتحد القومي على نشوء الحضارة العربية، وجدنا أنها برزت وترعرعت في حاضرتين سوراقيتين: دمشق وبغداد، ما يحتم دراسة تاريخ المنطقة وسرده، ليس بدءاً بالأمويين، بل بدءاً بتاريخ هذه الأرض ما قبل الأمويين والعباسيين، لأن الحضارة العربية تطورت في هاتين العاصمتين من جراء التفاعل بين مكوناتها، بشكل أخذت فيه هذه الحضارة الكثير من الحضارة التي سبقتها، فنجد مثلاً أن الانتشار السوري غرباً أيام الأمويين، تبع خط الانتشار الكنعاني في شمال إفريقيا بحذافيره كما حصل أيام مملكة قرطاجة التي امتدت إلى إسبانيا، بل تخطت دخول الأمويين الاندلس، لأن قائدها هنيبعل اجتاز جبال الألب لمواجهة الإمبراطورية الرومانية آنذاك، واحتل أجزاءً من إيطاليا، وكان من الممكن أن يربح المعركة لو أسهمت صور، الدولة-المدينة الأم (city-state) في رفد قرطاجة بالمعونة العسكرية.
الحضارة العربية كما نشأت في دمشق وبغداد ارتكزت على العلوم والمعرفة والتقنيات التي كانت ترفل بهما هاتان العاصمتان، ولم يأنف من دخل هذه الأرض، من الأخذ بهذه الحضارة السوراقية التي هي ما قبل عربية، وما قبل إسلامية.
عدم الاعتراف بأن لهذه الحضارة العربية مرجعية جغرافية (سوراقيا)، تحدد أسباب نشأتها وتطورها بالشكل الذي اتخذته، يعود إلى سببين رئيسيين: السبب الأول، تقسيم سوراقيا من قبل الغرب الاستعماري مع نهاية الحرب العالمية الأولى، والسبب الثاني رفض غالبية الناطقين بالضاد مقومات الدولة القومية الحديثة التي تُرجع التراث إلى أصوله الجغرافيّة، أي الأرض التي نشأ عليها، لأن هذا المتكلم لا يزال يتشبث بإعطاء الأولوية للدِّين أو الإثنية لا إلى الانتماء القومي، والدين كما نعرف لا حدود جغرافية له، لا بل هو لا يعير أي اهتمام للقوميات، والدين الإسلامي لا يعتبر أن العربي أهم من الأجنبي، لأن القرآن أنزل باللغة العربية، أو لأن النبي محمد من قبيلة قريش.
تعيش الدول العربية انفصاماً رهيباً، فهي تابع للغرب في كل صغيرة وكبيرة، وتستميت نخبها المثقفة، بما فيها النخبة المتشددة دينياً (سلفياً وإخوانياً)، لإدخال أبنائها إلى المدارس والجامعات الغربية، وفي الوقت ذاته تتغنّى بحضارة عربية وإسلامية لم تعد مؤثرة في المسار التاريخي الحديث، وتحلم بالعودة إلى ازدهار القرون الوسطى دون القيام بأدنى مجهود للوصول إلى تلك الغاية. لو جرت معاينة أسباب ازدهار الحضارة العربية في تلك الحقبة لوجدت الخلاصة أن اختلاطها وانفتاحها على تراث الشعوب الأخرى هو الذي أدى إلى نهضتها، وأن أي تقوقع لأي شعب من الشعوب سيؤدي إلى ضموره وانحلاله.
لذا، يبدو من المستحيل التقدّم مجتمعياً، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً إذا لم يؤخذ بالحسبان الإطار التاريخي الذي نعيش من ضمنه اليوم، فيما غالبية شعوب العالم العربي تريد الدفاع عن نفسها بناءً على مقولات قروسطية، وهذا مقتلها.

1 - علي الدين هلال، «أزمة الدولة والفتنة العربية الراهنة» مجلة النهضة، العدد 15، 2018، صفحة 111.
2 – صفية سعادة، «الحرب على سورية من منظور فكر سعادة القومي»، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، أكتوبر 2018.
3 - عادل مجاهد الشرجبي، أزمة الدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: 2011.
4 – أنطون سعادة، نشوء الأمم، بيروت: 1994، صفحة 35.
5 – أسعد أبو خليل، «عندما رأى دميانوس قطّار لبنانيين لا يشبهونه»، جريدة «الأخبار»، 15 كانون الأول، 2018.

* أستاذة جامعية