جميع حروب الغرب العدوانية وحملاته التوسعية المعاصرة جرت تحت راية الديمقراطية وحقوق الإنسان. باسم حقوق إنسان مجرد (وشديد البياض)، قُتل الناس الحقيقيون الذين رفضوا وقاوموا الاستعمار والظلم والاستغلال البدائي في أنحاء جنوب العالم. وأدت ثورات التحرر الوطني وانتصاراتها خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى كشف زيف هذه الرواية وضحالة الحجج التي أدرجت لتبرير سياسات السيطرة ونهب ثروات الشعوب ومقدراتها. إلا أن انهيار الاتحاد السوفياتي ومفاعيله الفكرية والسياسية، وما تلاه من جموح إمبراطوري أميركي وغربي، وفّر فرصة استثنائية لانطلاق حملة أيديولوجية لإعادة الاعتبار إلى خطاب حقوق الإنسان والنموذج الديمقراطي، شكّل كتاب فرانسيس فوكوياما عن «نهاية التاريح» أول تعبير عنها. السردية المكرورة باتت معروفة: انتصر النموذج الديمقراطي الليبرالي بالضربة القاضية على خصومه، وفرض نفسه كأفق وحيد للتطور الإنساني، وستتكفل قوته الجاذبة بالنسبة إلى بقية الشعوب وديناميات السوق بتعميمه في أرجاء المعمورة. التحولات الكبرى والصراعات الدامية والأزمات البنيوية التي عصفت بالعالم خلال العقود الثلاثة التي تلت، وبعضها وثيق الصلة بالعولمة نفسها، بددت السراب والأوهام التي روجتها هذه السردية، ومعها التفاؤل المغفل الذي عممته. فوكوياما ذاته الذي أسهب في حديثه عن «الإنسان الأخير» الذي ستصنعه العولمة السعيدة، استيقظ من غيبوبته الطويلة في صباح يوم غائم ليعيد اكتشاف «الهوية»، عنوان كتابه الأخير. والواقع أن انكسار المشروع العولمي، ومزاعم إعادة صياغة الكوكب على صورة الغرب الديمقراطي الليبرالي المزدهر، والضمور المستمر والمتسارع لهيمنة هذا الأخير، كان لها أثر مزلزل على توازناته السياسية والاجتماعية وعلى استقراره الداخلي بدأت تبعاته بالظهور، مع صعود الفاشيات البيضاء من جهة، وعودة الصراع الطبقي من جهة أخرى. غير أن سقوط خطاب التبرير الأيديولوجي المتهالك للهيمنة والتحديات الكبرى التي تواجهها لا يثنيان القوى الغربية عن السعي لإدامتها عبر العمل للحفاظ على التفوق التكنولوجي العسكري، وهو ركيزتها الأساسية. فهيمنة الغرب على العالم تأسست على قاعدة تفوّقه في تقنيات القتل على الآخرين، وليس في أي مضمار آخر. وأحد رهاناته الرئيسية اليوم لتثبيتها هو ما يتيحه الذكاء الاصطناعي من ثورة جديدة في الشؤون العسكرية تسمح بـ«تلزيم» الحرب والقتل للآلات الذكية.
المجتمعات المترفة والآلات القاتلة
مع الثورة في الشؤون العسكرية، التي كانت الحرب على العراق بذريعة تحرير الكويت عام 1991 ميدانها التطبيقي، شاع اعتقاد واسع أن العسكرية الغربية قد امتلكت قدرة القتل عن بعد ودون خوض معركة وتكبد خسائر تذكر. وحسب هذا الاعتقاد، إن السيطرة الجوية، عبر سلاح طيران متفوق نوعياً، ومنظومة مراقبة معقدة ومترابطة وتتطور باطّراد، تضمّ أقماراً صناعية وطائرات استطلاع مسيرة وشبكة رادارات، وصواريخ وذخائر ذكية وموجهة جميعها مقومات تضمن النصر السريع والحاسم في أي حرب. لم يصمد الاعتقاد أمام الوقائع التي برزت خلال الحروب اللاحقة، كحرب لبنان عام 2006 وحروب العراق وأفغانستان. وقد سبّبت الأكلاف البشرية والمادية التي دفعتها قوى العدوان نمو حركة اعتراض واسعة، خاصة في الولايات المتحدة، على التدخلات العسكرية المديدة. القطاع الأوسع من المجتمعات الغربية المترفة، وهي كذلك مقارنة بأحوال الشطر الأعظم من شعوب الجنوب على الرغم من تراجع القدرة الشرائية لبعضها حالياً، غير مستعد للموت، أو للتضحية بمن يحب، في سبيل مفاهيم وقيم من نوع مصلحة الوطن أو الدفاع عن الحرية والديمقراطية، خاصة في بقاع بعيدة لم يعد مقتنعاً بضرورة البقاء فيها. ومن البديهي أن أكلافاً بشرية مرتفعة لعمليات عسكرية خارجية، مهما كانت مبرراتها، سيكون لها نتائج كارثية على سمعة أي مسؤول أمر بها، وعلى مستقبله السياسي والانتخابي في المجتمعات الغربية اليوم. ولا شك في أن أحد دواعي انتخاب أوباما ومن بعده ترامب، معارضتهم لتكرار الحروب الكبرى على غرار حربي أفغانستان والعراق.
دفع هذا المتغير البنيوي داخل هذه المجتمعات الجهات المعنية بالشؤون «الدفاعية» والمجمع الصناعي ــ العسكري لمضاعفة الجهود وتخصيص ميزانيات ضخمة لتطوير تقنيات القتل عن بعد، كالطائرات والآليات والغواصات المسيرة، بالإضافة إلى منظومات جديدة من الصواريخ الموجهة العالية الدقة. لكن النقلة النوعية التي تحيي آمال وتطلق العنان لخيال القوى الغربية المسيطرة هي الاستخدامات العسكرية الممكنة للذكاء الاصطناعي. وقد كشف تقرير لوكالة «رويترز»، أعدّه بيتر أبز، كبير مراسيلها للشؤون الدولية والنزاعات والضابط الاحتياطي في الجيش البريطاني، خصص أصلاً لتسليط الضوء على الجهود الروسية والصينية لتطوير مثل هذه الاستخدامات، عن حجم المجهود الغربي المخصص لنفس الغاية ومشاركة كبريات شركات قطاع تكنولوجيا المعلومات فيه. يقول أبز إن الذكاء الاصطناعي «سيكون ميدان سباق التسلّح التأسيسي خلال هذا القرن، مع ما يترتب عن القدرات المعلوماتية الهائلة وبرامج التعليم الذاتي من فسح مجالات جديدة أمام الحرب وإدارة الحكم والصراعات». وبعد تذكيره بإعلان روسيا هذا الشهر عن نيتها إصدار خريطة طريق لاستراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي في أواسط السنة الحالية، وبتقدم الصين عليها في هذا المضمار، يشير أبز إلى أن الثانية ستتمكن في بدايات 2020 من امتلاك غواصات مسيرة ذاتياً ومجهزة بمختلف أنواع الأسلحة في محيطات الكوكب قابلة للاستخدام ضد أعداء محتملين. أما روسيا، فقد شرعت في بناء غواصة كبيرة مجهزة بالأسلحة النووية منذ بداية 2017، وهي اختبرت دبابات مسيّرة ذاتياً في سوريا. الولايات المتحدة، من جهتها، تعمل على إنتاج قاذفات استراتيجية مسيرة ذاتياً مرشحة لاستبدال القاذفة «B-2». وقد أعلنت شركة «مايكروسوفت» عن عزمها على بيع البنتاغون أي نظام ذكاء اصطناعي متطور «لتعزيز القدرة الدفاعية» للولايات المتحدة.
يحاول أبز في تقريره التمييز بين مجهود القوى الغربية لإنتاج الآلات القاتلة التي ستضبط «منظومة أخلاقية» استخداماتها، وذلك الخاص بدول «غير ديمقراطية»، كالصين وروسيا، لن تثقل كاهلها بمثل هذه النظومة. يتناسى أبز أن تقنيات القتل عن بعد الغربية قد تطورت منذ بداية القرن العشرين بفضل تحويلها لبلدان الجنوب المستعمرة وشبه المستعمرة إلى حقل اختبار لأسلحتها وذخائرها الفتاكة. اخترع القصف الجوي في ليبيا من قبل ضابط إيطالي عام 1911 عندما ألقى قنابل من الجو على قرية ليبية متمردة. واستخدمه بعد ذلك على نطاق أوسع البريطانيون في العراق ضد ثورة العشرين، والفرنسيون خلال حرب الريف في المغرب وضد الثورة السورية الكبرى. أما القصف التدميري الواسع النطاق، أو ما يسمى سجادة القنابل، فقد نفذه الإيطاليون في إثيوبيا، ودمروا عاصمتها أديس أبابا تدميراً شبه كامل خلال ثلاثينيات القرن الماضي. الأمر نفسه ينطبق على ما يُسمى الأسلحة المحرمة دولياً، كالنابالم والفوسفور الأبيض، التي لجأ إليها الأميركيون على نطاق واسع خلال حربي فيتنام وكمبوديا. العراق تحوّل بدوره في الحربين الأولى والثانية إلى مختبر للجيل الجديد آنذاك من الأسلحة الذكية. أما الطائرات المسيّرة، فقد جرى تطويرها ومضاعفة قدراتها على القتل والتدمير من قبل أميركا في أفغانستان والعراق واليمن وليبيا ومن قبل إسرائيل في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان. لا مجال للمقارنة بين ما قامت به القوى الغربية من اختبار حيّ لمنظومات أسلحتها ضد شعوب وبلدان بأكملها، وما تقوم به الصين وروسيا اليوم. وما اتجاه القوى الغربية المتراجعة للتخلي عن مزاعمها بتعميم نموذجها الديمقراطي، ومعزوفة حقوق الإنسان الملازمة له، سوى مؤشر على مستويات العنف التي قد تستخدمها ضد شعوب الجنوب في حروب آلاتها القاتلة للحفاظ على ما أمكن من امتيازات ورفاه لمجتمعاتها المترفة.