تعدّ عتبة الإهداء من أهم العتبات التي لا بدّ من المرور بها قبل ولوجنا تضاعيف أي كتاب، وخاصة إذا كان الإهداء عامّاً موجهاً إلى المؤمنين بالنهج الفكري للكاتب، لأنه حينئذ يكون قادراً ـــ على رغم المساحة الصغيرة التي يشغلها ـــ على منحنا الضوء اللازم لتتبع المشروع الفكري للباحث، وهذا ما نودّ اختباره من خلال إهداء الباحث محمد شحرور لكتابه «الدين والسلطة».وقبل الشروع بالإطلال على مشروع شحرور من شرفة الإهداء العام، نلاحظ أن الإهداء الخاص العائلي لكتبه لا يقلّ أهمية عن الإهداء العام في الكشف عن مشروعه الفكري؛ فالعلاقة بين إهداءاته العائلية ونصوصه نابعة من طبيعة مشروعه البحثي. فالأساس الذي يستند إليه في قراءة ما يسميه التنزيل الحكيم، أساس لغوي قائم على جملة من الأفكار، من أهمها أنه «لا ترادف في اللغة العربية»، لذا نجده يفرّق دائماً في تضاعيف كتبه بين المفردات الواردة في المصحف (القراءة والتلاوة، والشهادة والشهيد...). ما يعنينا في هذا الصدد، تفريقه بين الأب والوالد، لأن لذلك علاقة بإهداءاته الخاصة. يكتب في كتابه «الإسلام والإيمان»: «فإذا رعى الذكرُ الوالدُ الأمَّ في حملها، وأنفق عليها وساعدها، فهو أب، أما إذا لم يفعل فهو والدٌ فقط... فالأب من القصد والعناية والتربية»(1)، بينما في إهداءاته الخاصة يقول: «إلى والدي العزيز» على رغم أنه تلقى من والده الرعاية، فقد علّمه التفكير النقدي وأن يقول كلمة الحق، كما كتب في إهداءاته الخاصة، لذلك كان عليه إذا أراد الانسجام مع مشروعه البحثي أن يقول في الإهداء: «إلى والدي وأبي العزيز»، وأن لا يكتفي بالقول: «إلى والدي»، لأن هذا التعبير الأخير يعني أنه وليده فقط.
بالعودة إلى إهداء كتابه «الدين والسلطة»، نميز هنا أربعة إهداءات: أ- «إلى كل من يؤمن بأن الرسالة المحمدية تتميز بخصائص الخاتمية، العالمية، والرحمة». ب - «إلى كل من يؤمن بأن الحرية هي كلمة الله التي سبقت لكل أهل الأرض...». ج- «إلى كل من جاهد ويجاهد في سبيل إعلاء هذه الكلمة...». د- «إلى كل من يؤمن بأن سلطة الدولة تختلف عن سلطة الدين». لنفكك هذه الإهداءات إلى مقاصدها كما هي في كتب شحرور، وخاصة كتابه «الدين والسلطة»:
الإهداء (أ): يهدي شحرور كتابه إلى كل من يؤمن بأن الرسالة المحمدية هي الخاتم للإسلام الذي بدأ بنوح وانتهى بمحمد، وبأنها عالمية لكل الأقوام، وذلك لاستيعابها كل التشريعات الإنسانية مهما تعددت واختلفت، وبأنها رسالة الرحمة بما جاء فيها من يسر وتخفيف(2). هذا الإهداء هو مفتاحي لإعطاء الشرعية لقراءته الليبرالية التي ستتكشف مع تفكيك الإهداءات الأخرى.
الإهداء (ب): يعتمد في تأسيس فهمه للحرية على رؤية فلاسفة العقد الاجتماعي (روسو ـــ هوبز)، ليعمل بعد ذلك على تطويع النص الديني ليناسب هذه الرؤية. يبدأ العملية من خلال تفسيره لكلمة الفطرة في النص القرآني، ويخلص إلى أن معناها هو الجانب العقلاني في الإنسان أو القانون الطبيعي، أي مجموعة القواعد الفطرية المغروسة إلهياً في الإنسان (عدم الشرك بالله، وعدم أكل أموال الناس بالباطل...). أما الجانب المقابل، فهو الحق الطبيعي، أي الجانب الحيواني الغرائزي في الإنسان. وبناءً على ذلك تأتي الحرية من سيطرة القانون الطبيعي على الحق الطبيعي. والطاغوت، نقيض الحرية، يأتي من سيطرة الجانب الحيواني على الجانب العقلاني. يفسر شحرور الآية /256/ من سورة البقرة: «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى»، ومنها يرى أن الحرية بالتعبير القرآني هي العروة الوثقى، فتصبح معادلة الحرية على الشكل الآتي: «الكفر بالطاغوت + الإيمان بالله = العروة الوثقى»(3). لنلاحظ هنا عملية صبغ الإسلام بصبغة ليبرالية مشوهة، لأنه يستورد الطرح الليبرالي من فلاسفة الصعود البرجوازي (في أوروبا)، من دون الانتباه إلى الشروط الاجتماعية التي أنتجته، ويغلّف هذا الطرح بشرعية مستمدة من المطلق وتنزيله الحكيم، وذلك بخلاف التأكيد الفلسفي الليبرالي الذي يرى أن الشرعية مستمدة من الأرض لا من السماء.
الإهداء (ج): إن الطاغوت هو ما يجب أن يُجاهد ضده حتى تتحقق كلمة الله (الحرية)، لذا لا بدّ من معرفة تحديدات مفهوم الطاغوت. قسّم شحرور الطاغوت استناداً إلى مصطلحات قرآنية إلى ثلاثة أنواع: القارونية كتعبير عن الطغيان الاقتصادي، والهامانية كتعبير عن الطغيان المعرفي والفكري والعقائدي، والفرعونية كتعبير عن الطغيان السياسي. وفي مقابل هذا الطاغوت، الناس، أي «المستضعفون في الأرض». وعدّ البرجوازية الوطنية خارج إطار الطاغوت، أي أنها من جملة المستضعفين، يكتب: «فالقارونية لا علاقة لها بالغنى الوطني (البرجوازية الوطنية) التي تلعب دوراً إيجابياً في تطور المجتمع»(4). نلاحظ هنا أنه يؤمن بشكل واضح بوجود برجوازية في أطراف النظام الرأسمالي قادرة على أن تكون وطنية منتجة، وبالتالي أن تنتقل بالمجتمع إلى طور التصنيع، فلا يرى أنها غير قادرة على تأدية هذه المهمة لأنها خاضعة للمركز الرأسمالي الذي يمنعها من الدخول في طور الإنتاج الصناعي الحقيقي، إذ لا يسمح لها بأكثر من العمل في قطاعَي التجارة والخدمات. من هنا أيضاً، ندرك الموقع الطبقي الذي تنطلق منه رؤيته، ونفسر كذلك هجومه الدائم على التجربة الناصرية وعلى من يدافع عنها، وهو أمر ناتجٌ في نظرنا من النقمة البرجوازية على الممارسة الناصرية القائمة على التأميم، سواءً في مصر أو في سورية. يكتب مثلاً مهاجماً محمود شلتوت، شيخ الأزهر في عهد عبد الناصر: «أما صور الظلم الأخرى التي كانت تمارسها علناً حكومة عبد الناصر البوليسية... فلا يمكن أن تخطر للشيخ على بال». ويضيف: «أنه لم ينطق بحرف واحد معارض حين أرسل الرئيس جمال عبد الناصر الجيش المصري لقتال دولة مسلمة هي اليمن، ولقلب نظام الحكم فيها»(5). ينسى شحرور هنا نفسه، حيث لا يظهر في نصوصه أي نقد لأي سلطة خليجية، بل على رغم تناقض هذه السلطات مع نموذجه الليبرالي الرأسمالي يعدّها شرعية، ويسكت عن ممارساتها القمعية ودورها التخريبي في المنطقة، والمتمثل في تنفيذ أوامر المركز الرأسمالي الإمبريالي في الوقوف في وجه أي حركة تحررية في العالم العربي، يكتب: «هناك بعض الدول قد أخذت سلطتها الشرعية تاريخياً، كما هو الحال بالنسبة لدول الخليج كالإمارات والكويت وقطر والبحرين، وهذه السلطات معترف بها شرعياً من شعوبها، كما أن شرعيتها التاريخية وتطورها التاريخي لم يُبن على أي أساس أيديولوجي، على عكس السعودية التي تحالفت فيها كلٌّ من قوة السيف مع المذهب الوهابي لبناء دولة لا تعترف إلا بهذا المذهب كدين، ومع ذلك فإن سلطتها شرعية تاريخية منذ القرن الثامن عشر ومبنية على المذهب الوهابي»(6). بل أكثر من ذلك، فهو يؤيد ويشرعن همجية التحالف الأميركي ـــ السعودي ـــ الإماراتي في حربه على اليمن وشعبه، كما صرّح في حواره في قناة أبو ظبي (برنامج "لعلّهم يعقلون" الحلقة 12). في المقابل، نجد التجارب الاشتراكية والقومية العربية والجمهورية الإسلامية في إيران حاضرة في نصه كنماذج عن الطاغوت بأشكاله المختلفة.
كان لمحمد شحرور الدعم والرعاية من السلطات العربية الأكثر رجعية


الإهداء (د): يرى أن الفطرة الإلهية (الدين) المغروسة في الإنسان لا تحتاج إلى سلطة قهرية لفرضها، فسلطة الدين تتدخل في حياة الإنسان بإرادته من دون إكراه، وتعتمد على الضمير، أي القبول الطوعي البحت. أما سلطة الدولة، فمهمتها تسهيل تطبيق القانون الطبيعي أو الفطرة، وعليها ألّا تتدخل في حياة الإنسان الشخصية، وأن تحافظ على كرامة الإنسان، ومن طبيعتها استخدام الإكراه في سبيل ذلك. ومن التفريق بين سلطة الدين وسلطة الدولة، يخلص إلى أن الدولة المثلى هي الدولة المدنية الليبرالية الناتجة من عقد بين المواطنين والسلطة، ينظّمه دستور ومبادئ تراعي الفطرة وشروط تحقيقها، وبشكل خاص حماية الملكية الخاصة، وعدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، والدولة التي تخرج عن تلك المبادئ تسمى دولة طاغوتية(7). من هنا هجومه الدائم على الشيوعية، لأنها منعت برأيه تحقيق القانون الطبيعي، وخاصة حق الملكية الخاصة، يكتب مثلاً: «وقد طرح الحزب الشيوعي مبدأ المساواة على أساس طبقي بإلغاء الحوافز والملكية فتوقف عن النمو والازدهار»(8). ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن في جميع كتبه تقديساً واضحاً للملكية الخاصة، لذلك لم يلحظ آية تحريم الاكتناز في سورة التوبة ـــ المنسوخة بالزكاة الواجبة وفقاً للرؤية الدينية السائدة ـــ على رغم أنه يفسر النسخ بأنه نسخ لشريعة موسى، لا نسخ آية لآية. أما الدول الرأسمالية كما هي في الغرب الأوروبي وفي الولايات المتحدة الأميركية، فهي أمثلة دائماً على الدولة النموذج المتخلصة من كل أشكال الطاغوت، وكذلك ما تنتجه هذه الدول من مؤسسات وأحلاف، من مؤسسة التجارة العالمية إلى حلف الـ«ناتو»، يعدّها مهمة في مقاومة الطاغوت، ويشرعن أعمالها دينياً، يكتب مثلاً: «فقد تصرفت قوات الناتو من منطلق الجهاد في سبيل الدفاع عن حرية الإنسان، ومنع انتهاك حقوق الإنسان في ليبيا بعدما رأت الطغيان والجبروت الذي كان يمارسه القذافي»(9). يغيّب شحرور هنا حقيقة أن هذه المؤسسات والأحلاف إنما هي لخدمة الدول الرأسمالية الإمبريالية في سبيل استمرار عملية النهب لأطراف النظام الرأسمالي وترسيخ تبعيتها وتخلّفها.
لا بد من التذكير أخيراً بقراءة معاصرة أخرى للنص القرآني تمثل نقيضاً لقراءة شحرور، هي قراءة محمود محمد طه القائمة على تأويل النص القرآني تأويلاً معاصراً يتناسب مع قيم التحرر الاشتراكي، ويعادي فيه الاكتناز والملكية الخاصة، وينسجم مع التيارات المعارضة للأفكار الليبرالية وللسياسة الرأسمالية، ولا سيما في الأطراف. لذلك، كان مصير محمود محمد طه الإعدام، بينما كان لمحمد شحرور الدعم والرعاية، ولا سيما من السلطات العربية الأكثر رجعية في الخليج العربي. فإذا كانت قراءة شحرور انعكاساً لشرط تاريخي محدّد بسيطرة الليبرالية كفكرة ومشروع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والإحباط الذي أصاب المشروع الاشتراكي وانكسار حركة التحرر العربية، فإن قراءة محمود طه كانت انعكاساً لنهوض حركة التحرر العربية بدعم من المعسكر الاشتراكي. وإذا كان شحرور يختم دائماً الإهداءات العائلية بعبارة «إلى كل من أحب»، فإن محمود طه كان يهدي كتبه إلى الإنسانية جمعاء، يكتب الشهيد محمود في إهداء كتابه «الرسالة الثانية من الإسلام»: «إلى الإنسانية! بشرى.. وتحية».

الهوامش
(1) شحرور، محمد، الإسلام والإيمان، دار الأهالي، دمشق، ص 271.
(2) انظر: شحرور، محمد، الدين والسلطة ـــ قراءة معاصرة للحاكمية، دار الساقي، بيروت، من ص 108 إلى 110.
(3) المرجع السابق، ص 265. [انظر أيضاً: الباب الثاني ـــ الفصل الأول]
(4) المرجع السابق، ص 326. [انظر أيضاً: الباب الثاني ــــ الفصل الثاني]
(5) شحرور، محمد، تجفيف منابع الإرهاب، دار الأهالي، دمشق، ص 118، 119.
(6) الدين والسلطة، ص 361.
(7) انظر: المرجع السابق، من ص 283 إلى 285. [انظر: الباب الثاني ـــ الفصل الثالث]
(8) تجفيف منابع الإرهاب، ص 101.
(9) الدين والسلطة، ص 409، 410.

* كاتب سوري