ما كان ينقص السوريين في السنوات الخمس الفائتة هو وجود سياق سياسي يضبط الصراع ولا يسمح له بتحطيم البنية الاجتماعية أكثر مما هي محطّمة. حصلت محاولات عدّة لإيجاد هذا السياق لكنها كانت تصطدم كلّ مرة بتعنّت السلطة ورغبة الفاعلين الإقليميين في تقوية مراكز نفوذهم على حسابها، وحين حانت الفرصة الحقيقية لإيجاده كانت الأمور قد خرجت من يد السوريين تماماً. بهذا المعنى لم يعد سياقاً مرتبطاً باحتياجات المجتمع ولا برغبته في إنهاء الحرب بقدر ما أصبح تعبيراً عن موازين القوى التي تعكس فاعلية التدخّلات هنا، ومدى قدرتها على إيجاد عناصر تقدر على إدامة الاشتباك وتحويله إلى ديناميّة بذاتها. بالنسبة إلى هذه الدينامية لا يُعتبر المجتمع السوري أو ما تبقى منه شأناً أساسياً ولا يحقّ له التعبير عن نفسه إلا عندما ينخرط في الحرب، ويصبح جزءاً من عملية تعديل موازين القوى داخلها. عندها فقط يغدو من الممكن الاستماع إلى صوته، تمهيداً لإدخاله لاحقاً في السياق الذي تمّ اختراعه فقط ليناسب المقاتلين، وليكون تعبيراً عن مدى إسهامهم في صياغة "الحلّ السياسي" المفروض بقوّة السلاح. من هنا نفهم لماذا اختيرت حركات وهابية مقاتلة لتكون المعادل العسكري للأصوات السياسية في وفد المعارضة التابع للسعودية، ولماذا اختار صوت سلمي رصين كهيثم مناع أن يكون على رأس مجلس سياسي له حضور عسكري وازن على الأرض. في الحالتين ثمّة إدراك لقدرة القوى الميدانية على تشكيل فعالية تشل أيّ عملية تفاوض لا يكون السلاح جزءاً منها، وهو أيضاً حال النظام الذي يذهب إلى التفاوض مسنوداً بالتقدّم العسكري الكبير الذي يحرزه منذ بدأ الروس في تدخلهم الجوي إلى جانبه. العسكرة هنا لم تعد خياراً وإنما أصبحت هي الواقع الوحيد الذي يفرض نفسه على الجميع، بما في ذلك القوى التي كانت ترفضها في السابق وتفضّل عليها خيار الاحتجاج السلمي. أما الآن فمن يعاود فعل ذلك لا يهمّش نفسه فحسب بل يضع أيضاً كلّ ما أنجزه خلال السنوات الماضية خارج سياق "الفاعلية السياسية"، والتي أصبحت مرتبطة حصراً بمدى حضور القوى العسكرية في عملية التفاوض.

التيار الثالث
في الحالة السورية التي تدوّلت وتعسكرت لا يمثّل التفاوض الذي يجرى بمعية القوى الدولية كلّ المجتمع بل الجزء الأكثر تعبيراً منه عن حالة العسكرة. وهو إذ يبدو متصلاً بالمجتمع وتحوّلاته على نحو ما إلا أنه ككلّ قوى الحرب غير معنيّ بتأمين احتياجاته، ولذلك فإن حضور القضايا التي تخصّ الطبقات الاجتماعية المختلفة (وخصوصاً الأكثر تهميشاً منها) على مائدة التفاوض لن يكون بالأمر السهل، وسيحتاج من القوى "الأكثر تمثيلاً لها" إلى عملية مضنية من الضغط والتعطيل وتجميع الأوراق استعداداً لخوض المعركة سياسياً بأفضل الشروط الممكنة. وهذا ما يحاول فعله حالياً هيثم مناع إلى جانب رفاقه في "المجلس السياسي لسوريا الديمقراطية"، على الرغم من كلّ الاتهامات التي وُجّهت لهم، ومفادها أنهم يمثلون الحالة الأكثر تعبيراً عن "الانفصال" و"الرغبة في الاستقلال" من بين الحالات الأخرى المشاركة في التفاوض. الحالتان الأخريان في العملية التفاوضية هما النظام والمعارضة التابعة للسعودية وتركيا، وكلتاهما تحظيان رغم تحطيمهما لأجزاء واسعة من المجتمع السوري برعاية القوى الدولية بينما الحالة الوحيدة التي نجحت جزئياً في حماية المجتمع من التحطيم والدمار لا تحظى بأيّ رعاية تذكر، وتُعتبر فوق ذلك انفصالية وغير معنية بوحدة المجتمع والدولة السوريتين. طبعاً الرغبة في الانفصال ليست معطىً يمكن مناقشته الآن بجدية، فهو غير مطروح للنقاش على أيّ مستوى حتى ضمن الأطر التي تمثّلها الإدارة الذاتية المُتهمة (وخصوصاً من جانب تركيا) بأنها وراء فكرة إنشاء مجلس للقوى العسكرية التابعة لها. من يفتعل هذا النقاش سواء كان من المعارضة المتسعودة أو من سواها يعرف انه لا يستند إلى أرضية فعلية، ويريد من طرحه بهذا الشكل تجريد المجتمع السوري من الإمكانيات الأخرى التي يتيحها وجود قوى لا تنتمي إلى أيّ من المعسكرين المهيمنين على العملية التفاوضية. حتى لو كانت النيّة بالانفصال موجودة لدى بعض القوى التي تدير مناطق كوباني وعفرين ورأس العين فهي لا تُطرح من جانب الإدارة الذاتية إلا كصيغة مقترحة من بين صيغ أخرى كثيرة لإدارة الدولة والمجتمع بعد انتهاء الحرب، وهذا نقاش يمكن الخوض فيه، ويمكن مجادلة الاتحاد الديمقراطي طويلاً بشأنه ولكن ليس الآن، وفي الوقت الذي يسبق التحضير للعملية التفاوضية التي يتنازعها فصيلان لا يعنيهما المجتمع ومصير أكثريته المهمّشة والمسحوقة في شيء. بهذا المعنى فإنّ وجود قوّة ثالثة مثل مجلس سوريا الديمقراطية ضروري ليس لأنها تعبر عن "حالة انفصالية" أو "توجّه عرقي" كما يشيع الأتراك وأبواقهم بل لكونها قادرة أكثر من سواها من المجموعات ذات الثقل على الأرض على التأثير في العملية التفاوضية، بحيث لا تدعها تحت رحمة القوّتين المهيمنتين ولا تسمح لهما أو لحلفائهما بالتفرّد في صياغة الحلّ وفرضه على المجتمع بدعم دولي. في هذه الحالة لا يعود المجتمع أو الشرائح الأكثر تهميشاً منه من دون ظهير، ويصبح قادراً إن لم يكن على المشاركة بفاعلية في صياغة الحلّ فعلى الأقل في امتلاك حقّ الاعتراض وفرض الفيتو في حال لم تُؤخَذ ملاحظاته ومآخذه على القوتين المهيمنتين بعين الاعتبار.

في أيّ معسكر؟
قبل أيام نقل موقع "ديلي بيست" الالكتروني الإخباري عن أربعة مسؤولين في البنتاغون قولهم إن الغارات الروسية سمحت في الآونة الأخيرة لقوّات سوريا الديمقراطية بإحراز تقدم كبير في مناطق عدة. وتابع الموقع أن المسؤولين الأميركيين بدؤوا يخافون من احتمال قيام تحالف جديد بين ميليشيات معينة في سوريا والجيش الروسي، وذلك بعد تمكّن القوات الكردية من تحرير ثلاث قرى على الأقلّ بفضل غارات روسية استهدفت مواقع تنظيم النصرة. هذا لا يدلّ فقط على تغيير في نمط التحالفات القائمة كما يقول تقرير "ديلي بيست" بل أيضاً وهو الأهمّ على مرونة فائقة في عمل المجموعات التي تبدو في سياق تشكيلها وكأنها تتبع لمعسكر أو تحالف معين. واقع الأمر أن هذه التشكيلات ليست ذات منشأ دولي أو امبريالي محض كما هي حال التحالف الذي شكّلته أميركا لمحاربة داعش، وحتى لو كانت تستفيد من الغطاء الذي يوفّره لها التحالف فإنها لا تتبع له سياسياً ولا تأتمر بأمره عندما يتعلّق الأمر بالعمل السياسي الفعلي لحلّ الأزمة السورية، وهو قد يكون أحياناً منفصلاً بالكامل عن العمل العسكري كما ألمح إلى ذلك تقرير "ديلي بيست". هذا ما يفسّر بقاء الأحزاب الكردية التي تشكّل الغطاء السياسي لعمل هذه المجموعات بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي داخل هيئة التنسيق الوطنية طوال الفترة الماضية. لم يؤثّر التحالف العسكري بين الأميركيين والمجموعات الكردية المقاتلة على عمل الأحزاب الكردية التي تمثل الغالبية الشعبية في مناطقها وبقيت مندرجة ضمن تحالف سياسي يعتبر أقرب إلى الروس منه إلى الأميركيين. وحينما قرّرت هيئة التنسيق التي تضمّ هذه الأحزاب الانتقال إلى المعسكر الأخر على إثر اختيار السعودية بعض أعضائها لتمثيلهم صُورياً في الهيئة التفاوضية التابعة لها لم ينتقلوا معها، وفضّلوا تجميد عضويتهم فيها على الذهاب إلى مؤتمر ترعاه السعودية ومن ورائها أميركا وتختار أعضاءه وفقاً لدرجة تبعيتهم لها ولاستراتيجيتها داخل سوريا. الاعتراض لم يكن على الاستبعاد من المؤتمر كما تشيع بعض الأوساط القريبة من السعودية وإنما على طبيعة التشكيل التي لا تعبّر في حال من الأحوال عن النهج الذي تتبعه المعارضة الداخلية منذ تأسيسها في عام 2011، ولا عن درجة تمثيلها للمجتمع السوري الذي استُبعد ممثلوه الحقيقيون والفعليون عن مؤتمر الرياض بقدر استبعاد المعارضة الداخلية إن لم يكن أكثر.
وفي الوقت الحالي تبدو هذه القوى بعد تهميشها سعودياً وتركياً واستبعادها من مؤتمر الرياض أقرب إلى التموضع في "منطقة وسطية"، بحيث لا تنتمي عضوياً إلى أيّ من المعسكرين المهيمنين، رغم التقاطع الحاصل معهما في أماكن كثيرة. وهو ما تمّ التعبير عنه رمزياً في مؤتمر المالكية الذي انعقد غداة انتهاء اجتماعات الرياض ليكون منصةً للتعبير عن الحالة الشعبية الجديدة التي ترفض الاصطفاف إلى جانب أيّ من الطرفين المسيطرين، وتفضل أن تكون رمانة الميزان في المعركة التفاوضية. تساعدها في ذلك شبكة تحالفاتها التي تتقاطع سياسياً مع التوافق الروسي الأميركي على مرجعيتي فيينا وجنيف، بالإضافة طبعا ًإلى اعتمادها المرجعية العربية التي يمثلها "اتفاق القاهرة".

نحو صيغة مثلّثة للحلّ
على هذا الأساس بدأت الدعوات تتزايد وخصوصاً في صفوف مجلس سوريا الديمقراطية لتشكيل وفدين للمعارضة، لا وفد واحد تهيمن عليه السعودية وتستدعي من تشاء من "معارضيها" ليتمثّل فيه. وهو مع الأسف حال هيئة التنسيق الوطنية التي خسرت بانضمامها إلى الهيئة التفاوضية التابعة للسعودية استقلاليتها وقدرتها على تمثيل أوسع شريحة ممكنة من السوريين. ليس هذا فحسب بل إنها بذلك تكون قد فقدت أيضاً قدرتها على الاعتراض ووضع فيتو على التوجهات العامة التي يعبر عنها وفد المعارضة المتسعود، وهي كما نعرف توجهات لا تضع الأكثرية السورية الصامتة في حسابها وتريد فقط تصفية حسابها مع نظام الأسد. في المقابل وخلافاً للعطالة التي أصابت الهيئة بعد انتقالها الجزئي إلى المعسكر السعودي يستطيع مجلس سوريا الديمقراطية بما يمثّله من حالة اعتراضية وشعبية كبيرة أن يكون أكثر فاعلية في العملية التفاوضية، وخصوصاً إذا ساعد الروس في مسعاهم لتوسيع عملية التفاوض وعدم حصرها في الوفدين الممثلين للسلطة والمعارضة المتسعودة فقط. لا نعرف على وجه التحديد كيف سيحصل ذلك وما هي الآليات التي ستُتّبع لفرض هذا الخيار على السعودية وتركيا، ولكن في حال حصوله فانه سيكون أفضل خيار ممكن بالنسبة إلى مستقبل التفاوض. على الأقل سنكون واثقين حينها من حضور الشرائح الأكثر تهميشاً على المائدة عبر ممثّليها الفعليين، وسيصبح بالإمكان عرض كلّ وجهات النظر المعبّرة عن المجتمع وليس بعضها فقط كما حدث في جنيف 1 و2. هذا بالإضافة إلى ما يمكن أن يضيفه وجود شخصية كهيثم مناع على رأس وفد يمثّل المعارضة السورية الفعلية، والمناهضة للسلطة والنصرة وداعش وجيش الإسلام وجيش الفتح في آن معاً. معارضة كهذه هي التي تمثّل الطبقات الاجتماعية الوسطى والفقيرة، وهي التي يمكن أن يأتمنها المرء على إعادة اعمار البلد، وليس أولئك الذين اختارتهم السعودية بالاتفاق مع تركيا "ليتفاوضوا مع السلطة" على معاودة نهب البلد في السلم بعد تدميره في الحرب.
* كاتب سوري