ألاحظ بشكلٍ متزايد، خلال النقاشات السياسية مع الرفاق، أنّ هناك خللاً أساسياً يظلّل كلامنا عن السياسة. حين نتكلّم في الأوضاع والخيارات والتحليل، ونتجادل في الرأي الأصلح أو الأفضل، أو الأكثر أخلاقية ومثالية، فإنّنا غالباً ما نقارب النقاش كأننا «ذوات متعالية»، محايدة؛ أي كأننا - مثلاً - جميعاً أرستقراطيون، لا حاجات لدينا ولا قيود علينا، وجلّ ما علينا فعله هو أن نكتشف - بالعقلانية والحكمة - «الرأي الصحيح» بالمعنى المطلق للكلمة. هذا قد تكون له علاقة بالتاريخ «النخبوي» للسياسة، وأنّ أكثر من كان يشارك في النقاش العام عبر التاريخ كان بالفعل أرستقراطياً، يشكّل رأيه بحريّة ويطرحه من زاوية متعالية على ذاته، أو يصطنع هذا الشكل من الخطاب حتى أصبح تقليداً. في الحقيقة، فإنّ أغلبنا ليس كذلك. والتّحدّي الحقيقي الذي يُعجز أكثر النّاس، والامتحان الذي يجعلهم يساومون ويتنازلون ويخسرون مثالياتهم وصورتهم عن أنفسهم، هو ليس تحدّي «اكتشاف الحقيقة» والنجاة من الضلال، بل التحدّي الفردي الشخصي الذي يتعلّق بمعاشك وضمان قوتك، وأن تجد موقعاً يعصمك من الفقر والخوف في مجتمعٍ قاس. أي نظرية سياسية تتوجّه الى هؤلاء النّاس، ولا تتضمّن اعتباراً لهذه المخاوف الحقيقية، المادية والمباشرة، فيها شيء من الترف.الهدف من السياسة هو ليس «العمل الخيري» أو أن تظهر نكرانك لنفسك. في الحقيقة، فإنّ السياسة هي سبيلٌ لكي تكون أنانيّاً بشكلٍ نبيل: انت تريد أن تبحث عن ما هو أفضل لك، وعن بناء مستقبلٍ ترغب به لك ولأولادك، وهذه هي الحاسّة الطبيعية عند كلّ النّاس. ولكن، عبر السياسة، فأنت تجبر نفسك على التفكير بهذا الطموح من زاوية جماعيّة، وأن تحوّله الى أفكارٍ لا تناسب شخصك فحسب، بل تخدم الأغلبية وتستجيب لمعاناة من يشقى ويتألّم أكثر منك؛ أفكار في وسعك أن تشرحها لأيّ انسانٍ بشكلٍ عقلاني ومنطقي، ومن المفترض أن يوافقك عليها. لو أردنا التطرّف قليلاً، من الممكن القول إنّ «الخير» في العالم لن ينتصر حتّى يصبح من يحمل مثل هذه المفاهيم السياسية، الجماعية، أكثر طموحاً وشراسةً وتآمراً من الفرداني الطمّاع الثري، الذي رسم طموحه على قياسه ويسير في العالم يحرّكه الجّشع.
من هنا ايضاً، فإنّ أي نظرية أو خطّة سياسية تختلف باختلاف السياق الذي يجد الأفراد فيه أنفسهم. تخيّلوا الفارق، مثلاً، بين أن تناقش السياسة والتنظيم والمستقبل وحولك «دولة وطنية»، فيها تعليم مؤمّن وصحّة مجانية وسبيل مستقيم للارتقاء (وهذا، بدرجة أو بأخرى، كان السياق الذي عاش فيه أكثر الناس منذ أربعين عاماً) وبين أن تطرح هذه الأسئلة في العالم النيوليبرالي اليوم، حيث لا ضمانة لك (أو لغيرك) ولا سند، ولا «مساحات حرّة» للسياسة، وكلّ شيءٍ بثمنه، والارتقاء غير مضمونٍ وثمنه مرتفع. ظروف التاريخ قد تضيّق على المجتمع أحياناً حتى تختفي السياسة أو تكاد، ولبنان مثالٌ على ذلك.

الواقعية في زمن الأزمة
للتوضيح بدايةً، ومن دون أن ندخل في نقاشٍ اقتصاديّ، حين اقترحت التوقّف عن دفع الدين العام في لبنان كسبيلٍ وحيدٍ لإعادة إطلاق البلد، ولتفادي السقوط في دوّامة «أزمة الدَّين»، لم يكن الاقتراح على شكل حركة «احتجاجية»، تخريبية، «فلنسقط الهيكل على رؤوس الجميع». على العكس تماماً، كنت أحاجج بأنّ هناك طريقاً منطقياً وواقعياً وعادلاً لتنفيذ «الإفلاس»، لو حصل بطريقةٍ ذكية ومع تخطيط، يخرج منها البلد أفضل كثيراً مما دخل. الظّروف يومها كانت مختلفة؛ كان لدينا يومها، مثلاً، فائضٌ أوّلي في الموازنة. أي، حتّى نختصر: كانت كلفة إدارة الدولة (رواتب، أمن، استثمارات، الخ)، لو وضعنا خدمة الدّين جانباً، أقلّ من الجبايات والضرائب التي تحصّلها من الاقتصاد. أي أن الموازنة «التشغيلية» كانت في فائضٍ (لم يكن قليلاً، ويقترب من النصف مليار دولار سنوياً)، يصبح عجزاً كبيراً حين تضيف اليه خدمة الدّين، فتضطرّ الى المزيد من الاستدانة.
على الهامش، ولمن يخوّفكم من فكرة التوقّف عن الدّفع: كلّا، لن يتمّ عزل لبنان وحصاره إن توقّف عن دفع الديون، ولن تتم مقاضاتنا والتشهير بنا في المحاكم الدولية، ولن يأخذ مجلس الأمن قراراً بحقّنا ولن تجتاحنا الأساطيل. ولن تتمّ مصادرة الأملاك الضخمة للدولة اللبنانية واستثماراتها في الخارج (حتّى شركة طيران الشرق الأوسط، بالمناسبة، هي ليست - تقنياً - ملكاً عاماً للدولة). هذا خلافٌ تجاري بين مدينين وبين دولة سيّدة، لا تترتب عليه نتائج سياسية والأفضلية فيه هي لصاحب السيادة (حاول مستثمر أميركي، ذات مرّة، بعد أن استحصل على حكمٍ ضد الأرجنتين من محكمة أميركية أن يحجز على سفينة حربية أرجنتينية كانت تزور مرفأً في غرب أفريقيا؛ ولكنّ الجنود منعوه عن ذلك). «العقاب» الحقيقي الذي تتلقّاه حين تُفلس هو في الأسواق الماليّة حصراً وهو يتلخّص، ببساطة، في أنّ أحداً لن يقرضك من جديد لفترةٍ معتبرة. ولكن، حين يكون لديك فائضٌ في الموازنة فأنت لا تحتاج الى الأسواق المالية لدفع رواتبك، ولديك تحويلات كبيرة من المغتربين بالعملة الصعبة، تتدفّق سنوياً على البلد بصرف النظر عن رأي «غولدمان ساكس» بحكومتك، وهي تكفي لتغطية أكثر الاستيراد. من الممكن «التحضير للإفلاس» قبل الموعد بسنوات، ونقل الدّين من عملةٍ الى أخرى، ومراكمة احتياط مالي، ورفع التأمين على الودائع حتى تكون أموال الغالبية العظمى من اللبنانيين في أمان، وأن تقرّر مسبقاً مَن من المصارف سيعيش ومن سيموت، الخ… المسألة طويلة ومعقّدة ولكن الفكرة هي أنه كانت هناك خريطة طريق واضحة، يمكن لأيّ كان أن يراها بسهولة، تنقذنا من المأزق قبل أن يستفحل (مع معرفتي التامّة بأنّ ذلك لن يحصل، فنظامٌ سياسي لا يقدر على تنظيم انتخابات أو تأليف حكومة لن يتمكّن، حتى ولو توافرت النية ومهما كانت الظروف، من التخطيط لعملية من هذا النوع وتنفيذها).
الوضع قد اختلف اليوم، والمأزق قد تعمّق، واختفى «الفائض الأوّلي» وحلّ مكانه عجزٌ غير قليل، يُضاف الى كلفة الدّين السنوية ويفرض علينا المزيد من القيود والاعتمادية. وأنا، لو كنت مكانهم، لفعلت الأمر نفسّه، وربطت مصيركم جميعاً بمصيري، وورّطتكم معي الى الحدّ الأقصى؛ بحيث يصبح الخروجٍ على طاعة بيوت المال، أو التفكير في تحدّي المصارف، موازياً للمجهول والخراب، وما أمامنا سوى أن يأخذ السيّد رياض سلامة بيدنا، ويملي علينا عرضاً لا يمكن رفضه. ومن يملك السلطة والمال في لبنان سيتستثمر في منع الخيارات المعارضة، وتخويف الناس من كلّ خيارٍ لا يعجبه، ومنعهم من الرّبط بين ضيق حالهم وبين الفوائد التي تتراكم في الحسابات، وممارسة لعبة الارهاب والتطمين - ومن حصّل عشرات المليارات من ريع الفوائد من اليسير عليه أن ينفق بضعة ملايين على الإعلام وعلى تشكيل الرأي العام. على الهامش هنا، وحتى نعود الى جذر المشكلة، لا اعرف إن كان أحد قد جرّب أن يحتسب «معدّلاً» للفائدة التي دفعناها على الدّين العام طوال هذه السنين، منذ أوائل التسعينيات، ولكنّها لن تقلّ عن الـ15% بالتأكيد، هي ما راكم علينا جبل الدَّين، وهذه الفائدة تُدفع على عملةٍ لم تهتزّ منذ ربع قرن (تحرّر الجنوب واغتيل الحريري وسقط العراق واحترقت سورية، والليرة اللبنانية لم تهتزّ).

العمل «من ضمن النظام»
حين يتكلّم «غولدمان ساكس» علانيّة عن احتمالات الإفلاس في لبنان وكم ما زال أمام الدولة من الوقت قبل أن تنوء تحت وزن الدَّين وكلفته، تكون المسألة قد أصبحت مكشوفة ولا معنى للمداراة، وحين تتكلّم أسواق المال علناً عن إفلاسك تكون قد تجاوزت مرحلة الحذر والتنبيهات (أصبح في «بلومبرغ»، التي نقلت تقرير «غولدمان ساكس»، عمودٌ خاصّ للأخبار عن الوضع المالي للبنان، كتلك التي تتابع خبراً يتطوّر، أو الوضع الصحي لشخصيّة عالمية على وشك الموت). نحن نعرف من دفع كلفة السياسة المالية في السنوات الماضية (الفقير، متوسطو الحال، وكلّ من يستهلك الوقود والهاتف والكهرباء في لبنان، وتشكّل هذه الأمور قسطاً كبيراً من دخلهم)، ولكن السؤال اليوم (وهو كان محور تقرير «غولدمان ساكس») هو حول من سيدفع الكلفة عن فشل هذه السياسة ووصولها الى الأزمة. لكم أن تتخيلوا الصفقة التي يتمّ طبخها حالياً، وأن تقرّروا إن كان في وسع شعبنا أن يحتمل تكرار تجربة «العبودية للفوائد» لسنواتٍ إضافية، ولكن بشكلٍ أكثر قسوة.
ما يجعلك تشعر بلا جدوى السياسة، بمعناها التقليدي في لبنان، لا يقتصر على هذه الظروف الموضوعية، بل ايضاً معرفتك بأنّ ما يسمّى اصطلاحاً بـ«النظام السياسي» ليس قادراً، بنيوياً، على الاستجابة للمشاكل الحقيقية (طريفٌ أنّ، في بلدٍ صغيرٍ كلبنان كلّ شيء فيه مشخصن وفي كلّ موقع أفرادا معدودين ومعروفين، نستخدم تعابير مفخّمة ونظرية للاشارة الى الفئات السياسية والنظام، كأننا في الصين الامبراطورية). هذا نظامٌ يصلح (الى حدّ ما) للتفاوض بين النّخب، هو يؤمّن توزيعاً للمنافع ضمن الطوائف، هو يصنع واجهةً وسياسيّين ومرتقىً لأصحاب الطموح، ولكنه - بتكوينه وقدراته وطبيعته - ليس قادراً على التعامل مع المشاكل التي نطرحها أعلاه، فهي أكبر منه. هذا بمعنى أنني لو نزلت في مظاهرة، أو واجهني مسؤولٌ كبير وطلب منّي أن اقترح واتمنّى، فأنا لا أعرف صدقاً ماذا يمكن أن أقول له، من دون أن أطلب ما أعرف أنّه لا يستطيع تقديمه. ارفعوا الضرائب على الاثرياء والمصارف؟ افرضوا ضريبة عقارية؟ قانون جديد للانتخابات؟ هذا كلّه لا يمسّ أصل المشكلة ولن يغيّر في ظروف النّاس. هل تطلب منه أن ينقلب على شركائه وأصدقائه ومصالحه؟ هو لن يقدر على ذلك وإن أراد. «العمل من ضمن النظام» والتوازنات القائمة لن توصلك الى أكثر مما تحقّق في الماضي. هل تذكرون رفع الضريبة على أرباح المصارف من 15 الى 17 بالمئة (وعلى الفوائد من 5 الى 7بالمئة)؟ بالطبع تذكرون لأنّ المصارف تذكّرنا بها في كلّ يوم، و«تربّحنا جميلة» بلا توقّف عن مئات ملايين الدولارات التي تدفعها للخزينة (لم أسمع من قبل بشركات تعامل الضرائب على أرباحها الكبيرة على أنها تبرّعٌ أو مشقّة). هذه الزيادة، من 15 الى 17 بالمئة، هي أقصى ما يمكن أن تحصل عليه من النظام القائم ولن ترى ما هو أكثر.
بهذا المعنى، كان من الممكن أن ننظر الى القائمين على النّظام اللبناني ووجوهه باعتبارهم «مساكين» لا حول لهم، لولا أنّهم، مقابل لعب دورهم في تسيير النظام المالي واستمرار الرّيع، يشاركون في السّرقة والاثراء على حساب الأكثرية. هذا سياق السياسة في لبنان وعلينا أن نفكّر من ضمنه وعن فهمٍ لحدوده وكيف نجترح مساحاتٍ للعمل فيه (تقرير «غولدمان ساكس»، مثلاً، ذكّرني بضرورة التعجيل في مشروع المزرعة). بالنسبة الى العديد من الناس في لبنان، لا حاجة الى حلٍّ جماعي. حين تكون الظروف سيئة، فقد يصبح من العقلاني أن تيأس من أفكار العدل وأن تدخل السباق وتراكم لأجلك ولأجل أولادك وتجعل ذلك الاعتبار الوحيد الذي يحرّكك. من جهةٍ ثانية، فإن استمرار الوضع القائم يناسب فئات كثيرة في لبنان: من الكبار الذين راكموا المليارات من الريع السهل، الى شركاء التجارة والفساد والسياسة، وصولاً الى «الموظّف الكبير» الذي ضمن حياةً من الرخاء في البيروقراطية بفضل العلاقات والواسطة ودافعي الضرائب (ولو كنت مكان أيٍّ من هؤلاء، لاخترت لبنان بالطبع على أيّ بلدٍ آخر في العالم). وهناك ايضاً، على الهامش، الإعلامي «الشاطر» وباقي «مقدّمي الخدمات» الذين يقومون بـ«تزييت» النظام، ولهم حصّة. هؤلاء جميعاً يريدون للحالة أن تستمرّ بأيّ شكلٍ وبأيّ كلفة، وأن يزيدوا المراكمة الفردية ويسعوا في مشروعهم الخاص قبل كلّ شيء وهذا، كما قلنا، خيارٌ «عقلاني» لهم لا أكثر. ولكن، على المقلب الآخر، نجد الأكثرية التي لم تحصل على موقعٍ مريح في النظام. وهي، حين تقع الأزمة وتنتفي السياسة وتفهم كلفة ما ينتظرها وينتظر ابناءها، فقد تصبح «العقلانية» بالنسبة اليها، والمفهوم الوحيد الممكن للعدالة، هو في منع الفئة الأولى أعلاه - هذه النوعية من الناس تحديداً - من التمتّع بأيّ قرشٍ كَنَزوه.