1- العالميطوي عام 2018 أيامه الأخيرة، تاركاً المجال لعام آخر سيكون، بالضرورة، مثقلاً بالكثير من الأحداث والصراعات والضحايا والتحولات وعدم الاستقرار.
الولايات المتحدة التي تزعمت بشكل شبه مطلق ومنفرد العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، منذ نحو ثلاثة عقود، تواجه الآن منافسة، متحدية على المستويين العسكري (خصوصاً من الاتحاد الروسي بزعامة بوتين) والاقتصادي (من الصين التي ترشح نفسها لدورٍ دولي تنسجه بخيوط مشروع «الحزام والطريق»، طريق الحرير، الذي يشمل 68 دولة، ويشكل الأولوية المطلقة لرئيسها الحالي شي جينغ بينغ). مع اشتداد التحديات، يتراجع دور واشنطن التي يحاول رئيسها الآن، اختبار أساليب جديدة للحفاظ على الموقع بعد أن فشلت أساليب استخدام القوة العسكرية للغزو والاحتلال والهيمنة... حاكم الولايات المتحدة الأميركية، يستنفر، عبر سياسة يمينية انعزالية، أشكالاً من التمييز والعنصرية مقرونة بإضفاء طابع «البزنس» على علاقات واشنطن (القريبة والبعيدة). بالعنصرية والتمييز تطلق واشنطن موجات من العداء ضد المهاجرين والجيران (خصوصاً المكسيك)، ومن الكراهية لشعوب بأكملها بذريعة تخلفها وانحطاطها... وبعلاقات «البزنس» تتحول واشنطن إلى «بلطجي» يفرض «الخوة» بذريعة الحماية والعقوبات لفرض الإذعان والسياسات أو لتغييرها... هذا إلى موجة تطرف يمينية شوفينية تتنامى في عدد من بلدان «المتروبول» الغربي، سِمتها الأساسية العداء للأجانب والتطرف العنصري اليميني والوطنية المنغلقة: في مجرى ذلك يجري اجتياح وإسقاط صيغ ومؤسسات تقليدية للعلاقات الدولية واتفاقيات للتجارة وللبيئة والمناخ، وأحلاف ومعاهدات استمرت قائمة لعدة عقود، وخصوصاً بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. لم تنجُ مؤسسة الحكم الأميركية نفسها من بهلوانية الرئيس الأميركي وتجريبيته وهوسه، وهو الذي يثير المزيد من عدم الاستقرار والفوضى والتفرد داخل الإدارة الأميركية، وفي العلاقات بين مكوناتها: العسكرية والسياسية والأمنية والقضائية والاقتصادية والإعلامية...
الولايات المتحدة، التي ما زالت القوة الأكبر في العالم، والمتقدمة في الكثير من المجالات، تفقد دورها المرجعي في العديد من الشؤون الدولية، بينما تتقدم قوى واثقة ووازنة وُمصمّمة من أجل بناء عالم متعدد الأقطاب لا تسوده الفوضى والسياسات وحيدة الجانب ومصالح الاحتكارات الأميركية فحسب.

2- الشرق الأوسط
منذ نحو عقدين والشرق الأوسط (والمنطقة العربية منه خصوصاً) يشكّل ميدان الاختبار الأساسي لمستجدات السياسات والتحولات في العالم. فيه دشّنت واشنطن سياسة الغزو ووضع القوة المباشرة (بالاحتلال والسيطرة) في خدمة الهيمنة وفرض التوجهات وحتى أنماط الحياة...
كثمرة لتفاعل الأزمات واستعصائها، وبإضافة القهر والغزو والاحتلال وحقارة عدد من الوسائل، نمت ردود فعل بعضها كان متطرفاً، ما أطلق موجة تشدد إرهابية دينية اجتاحت سوريا والعراق خصوصاً، وتركت بصمات دامية في العديد من بلدان العالم الغربي والشرقي. لواشنطن، وبعض حلفائها الإقليميين، دور لا جدال فيه، في استنبات بعض موجات الإرهاب ووضعها في خدمة سياسات الهيمنة الأميركية والصهيونية (بما يتعلق بالمنطقة العربية خصوصاً). لقد تراجعت الموجة الإرهابية التكفيرية وخسرت الأساسي من المكاسب الجغرافية التي حققتها. لكن موجة التطرف والتعصب والعنصرية تنطلق الآن من خلال صيغ أخرى، أشرنا إليها آنفاً، عبر سياسات رسمية وتنظيمات يمينية عنصرية متشددة يراهن عليها ترامب لتعميم نهجه على كل بلدان الغرب الاستعماري.
واشنطن التي تنكرت إدارتها الحالية، تحت وطأة المنافسة الصينية خصوصاً، للعولمة نفسها التي كانت فيها رائدة ومتفوقة ومهيمنة، واصلت اعتماد سياسة «الفوضى الخلاقة». الشرق الأوسط كان أيضاً ميدان الاختبار الرئيسي، حيث ادّعت واشنطن دعم نزوع الشعوب المضطهدة والمقموعة والمنهوبة، نحو التغيير والحرية، لتعود فتطلق قواها الاحتياطية، في الجيوش وبعض المجموعات السياسية، لمصادرة «الربيع» المنشود واجهاضه... ما جعل المنطقة العربية تعيش أسوأ كوابيس الصراع والاقتتال وانهيار البنى الدولتية والسياسية وانفلات الغرائر والإرهاب والتكفير والتطرف والطائفية والمذهبية... وآخر ضحايا سياسة واشنطن الكُرد ومطالبهم حيث استخدمتهم واشنطن في سياستها لتفتيت المنطقة والعبث بكياناتها وخرائطها ومصائرها جميعاً.
تسعى الإدارة الأميركية بوقاحة لا سابق لها لجني ما أمكن من الأرباح والصفقات، مستثمرة الصراعات، ومؤججة المخاوف. وهي تحاول الآن اتخاذ مواقف وتدابير متواصلة لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني لمصلحة الصهاينة ومخططاتهم، وتمكين كيانهم الغاصب من أن يتحول إلى قوة مبادرة وأمن واقتصاد محورية في المنطقة على حساب مصالح وسيادة ووحدة البلدان العربية وشعوبها.
المواجهة للسياسات الأميركية سجّلت، في المقابل، نجاحات بارزة، خصوصاً منذ التدخّل الروسي في أيلول عام 2015. سوريا التي كان يراد فيها توجيه ضربة قاصمة إلى أي مشروع نهوض عربي، أمكن فيها، من خلال الصمود والمقاومة والدعم الخارجي، إفشال هذا المخطط ولو بثمن باهظ جداً على المستويات كافة. إعلان الرئيس ترامب الانسحاب الأميركي من سوريا والبقاء في العراق تعبير عن اضطراب السياسات الأميركية وعدم اتساقها بشأن العديد من الملفات الدولية.
في مجرى ذلك، يتصاعد في المنطقة أيضاً الصراع بين قوى إقليمية رئيسية، وسط تناقضات وتجاذبات دولية مؤثرة، في محاولة للدفاع عن النفوذ أو لتوسيعه وبوسائل يشوبها الكثير من التعبئة العرقية والطائفية والمذهبية المضعفة لهذه الدول نفسها التي يفتقر فريقها المواجه لبعض أشكال الهيمنة الاستعمارية، إلى مشروع تحرري شامل.

3- لبنان
يراوح الوضع اللبناني في أزمات تزداد تعقيداً واتساعاً. التخلي عن الإصلاح المثبَّت في بنود الدستور أدخل هذا الوضع في مسار من التخلف والتردي والفئوية. تكريس منظومة المحاصصة وتأجيج الخلاف بشأن توازناتها، أدخل البلاد في صراع مكشوف، على السلطة بغطاء طائفي ومذهبي. النهب والتبعية الناجمان عن المحاصصة والمكرسان لها في الوقت عينه، أطلقا الحلقات الأخيرة من الصراع التي بات إنجاز الاستحقاقات الدستورية العادية فيها مشكلة كبيرة.
تتدهور، في مجرى ذلك، الحياة السياسية ويُنتهك الدستور والقوانين. ويحاول فريق «العهد» الآن استعادة امتيازات ما قبل الحرب الأهلية بوصفها كانت «ضمانات» وليست امتيازات. السعي لـ«استعادة الحقوق» يتجاوز المناصفة إلى جوهر الإمساك بالأساسي من السلطة باستغلال التناقضات الداخلية والخارجية.
يستفيد أطراف السلطة جميعهم من غياب مركز معارضة مؤثِّر وفعَّال. لا يعبأ هؤلاء بتدهور الوضع وبمعاناة اللبنانيين وخطر الإفلاس ولانهيار الاقتصاديين والديون وفوائدها الفلكية التي ينوء تحت وطأتها اللبنانيون. يثير ذلك استياءً كبيراً بين المواطنين، خصوصاً ذوي الدخل المحدود. عبّرت عن ذلك المشاركة المميزة التي برزت في التظاهرة التي دعا إليها الحزب الشيوعي في 16 من الشهر الجاري، وكذلك المشاركة الواسعة، نسبياً في الأحد الذي تلاه. لكن، إذا كانت أزمة النفايات، قبل نحو ثلاثة أعوام، قد عبَّأت عشرات الألوف، فإن توسّع الأزمة وتعمقها قادران على تعبئة مئات الألوف. الآن تلوح المناسبة لتدارك الفراغ والأخطاء، وللعمل الجدي من أجل بناء تيار تغييري واسع متبلور البرنامج والقيادة والأدوات، لفرض انعطافة جوهرية لمصلحة الإصلاح والإنقاذ.
* كاتب وسياسي لبناني