يكتنف الغموض آفاق الاقتصاد اللبناني في ظل تفاقم حجم المديونية العامة والعجز في الموازنة وتباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة إلى درجات قياسية حرجة. على رغم ذلك، تسود حالة من غياب اليقين تجاه الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية المزمع إطلاقها، وفقاً لمقترحات «سيدر» و«ماكينزي»، حول هل هي قادرة على إحداث تصحيح اقتصادي ومالي، جذري وفعّال، يتطلب أول ما يتطلب تحرير الاقتصاد الحقيقي وعماده القطاع الخاص من ربقة القيود المسيطرة والمقيمة في صلب السياسة الماكرو-اقتصادية القائمة منذ ما يزيد على العقدين ويطلق عجلة النمو والاستثمار في القطاعات الإنتاجية. أمام هذا الواقع، وبناءً عليه، يجب أن يُطرح على بساط البحث بالتوازي مع الخطط المقترحة موضوع إقامة ما يُعرف بالمناطق الاقتصادية الخاصة على نطاق واسع، كأداة مهمة من أدوات السياسة الاقتصادية، على ما تقترح التجارب والدراسات في شأنها في مختلف أنحاء العالم. ذلك أن تلك المناطق، وهي تقوم على جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية المباشرة، تعمل على خلق اقتصاد رديف يتخطى معوقات السياسة الماكرو-اقتصادية ويحتوي أزمة البطالة، فضلاً عن أنها تشكل مدخلاً ومحفزاً لإستراتيجيات الإصلاح البنيوي والتحديث.
بادئ ذي بدء، ينبغي أن يكون واضحاً للعيان أن الاقتصاد اللبناني في دوامة منذ أكثر من عقدين، ويدور في حلقة مفرغة تختصر هكذا: سيطرة نموذج نقدي-مالي مستحكم ومتفاقم، يكبل ويكبح بطبيعته نمو القطاع الخاص نتيجة الاختلالات التي يفضي إليها، لا سيما لجهة الخلل في بنية الأسعار مقابل الأكلاف الذي يدرك أهل الاختصاص ما المقصود به (نموذج من مفارقاته أنه يجعل مستوى الأجور، في آن، مرتفعة جداً بالنسبة إلى ثقلها على كلفة الإنتاج، ومنخفضة جداً بالنسبة إلى تكاليف المعيشة والقوة الشرائية). وفي الوقت نفسه ما من تصور للخروج من مأزق المثلث المالي والاقتصادي والاجتماعي سوى بحتمية تعظيم حجم القطاع الخاص.
تلك هي المعضلة ما بقي هذا النموذج قائماً وإلى أن تفي الدولة بجميع التزاماتها تجاه دائنيها. ومن هنا يبرز السؤال حول إمكانية تعظيم حجم القطاع الخاص من خارج السياق القائم للنموذج إياه، من خلال اعتماد خيار إقامة مناطق اقتصادية خاصة. إن أكثر ما يجب أن يكون مدعاة للقلق لدى صنّاع القرار، وفي رأس ومركز الموجبات والغايات لأي خطة اقتصادية، هذه الاعتبارات:
• وصول معدلات البطالة إلى درجات قياسية حرجة، ما يقتضي أن يكون محور أي خطة اقتصادية يهدف إلى خلق فرص عمل، علماً أن مؤشر قدرة أي اقتصاد على خلق فرص عمل ووظائف جديدة ومن ثم على الحد من البطالة يعتبر في تقييم الدول اقتصادياً من أهم المقاييس التي يُعتد بها للتدليل على صحة هذا الاقتصاد أو ذاك، ويشكل الهدف المركزي للسياسة الاقتصادية في الدول المتحضرة.
• وجوب الإقرار أن ما من مخرج لحل أزمة البطالة إلا بالركون إلى قدرة القطاع الخاص على توليد فرص العمل الكافية لاستيعاب طوابير المتعطلين عن العمل.
• بحث وتقييم جدوى المشاريع المقترحة ضمن الخطة الاقتصادية والمستندة إلى برامج «سيدر» و«ماكينزي»، انطلاقاً من قدرتها على إطلاق عجلة القطاع الخاص وتعظيم حجمه وتحسين ظروف ما يُعبر عنه بـ«بيئة الأعمال»، في ظل معوقات السياسة الماكرو-اقتصادية المشار إليها، مع تأكيد فشل أساليب الدعم المباشر من الدولة للقطاع الخاص، وأن الاستثمارات العامة في البنية التحتية ضرورية لكنها غير كافية لتفعيل القطاع الخاص وتوليد نمو وفرص عمل، ما لم تأتِ في إطار رؤية ثم سياسة اقتصادية، قانونية وتنظيمية، يكون هدفها الرئيسي ما تقدم.
• ثمة اعتقاد مغلوط لدى الساسة ولدى الجمهور، على حدٍّ سواء، أن الإنماء والتقدم الاقتصادي مرهون بالصرف والإنفاق الحكومي، فيما يقتضي أن يصار إلى إجماع وطني على أن دور الدولة في التدخل عبر الأدوات اللامادية كالتخطيط والتشريع والتنظيم هو الأكبر والأوسع أثراً ومردودية على الاقتصاد وعلى الناس. وعلى هذا الإجماع يؤسس، حتى لا تبقى التجاذبات حول الإنماء ذات طابع مناطقي أو فئوي، وإنما ليصبح الإنماء في أي منطقة رافعة لمجمل الاقتصاد الوطني.

آفاق إقامة مناطق اقتصادية خاصة
يستوجب البحث والنقاش في هذا الشأن أولاً، فهم طبيعة ووظيفة ودور «المناطق الاقتصادية الخاصة» SEZ، بحسب تطورها في العالم على مدى العقود الثلاثة الماضية. بالمعنى التقليدي الضيق: المنطقة الاقتصادية الخاصة أشبه بالمنطقة الحرة من حيث هي بقعة من الأراضي على الحدود البحرية مسوّرة لتكون خارج النطاق الجمركي للبلد المعني ومعفاة المؤسسات العاملة فيها من الرسوم والضرائب لفترة طويلة، والأهم أنها ذات إدارة مستقلة وتخلق بيئة أعمال خاصة بها، وهي تعنى بالتصنيع المعّد حصراً للتصدير.
لكن مع الوقت تجاوزت الدول هذا المفهوم التقليدي، لتجعل تلك المناطق أكثر اندماجاً بالإطار الواسع للسياسة الاقتصادية للبلد المعني، وذلك باعتمادها على نطاق واسع لا يقتصر على التصنيع فقط بل يشمل مختلف الأنشطة الاقتصادية (صناعة، تجارة متعددة، خدمات، سياحة...)، كلٌّ على حدة أو مجتمعاً. ولم يعد وجودها حكراً على الحدود البحرية، وليس بالضرورة أن تقوم على بقعة غير مأهولة بالسكان.
ولعل المثال الأبرز في هذا المجال منطقة شيزين الصينية التي حوّلها الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ عام 1980 إلى منطقة اقتصادية خاصة للصناعات الخفيفة والتقليدية (التحف الفنية والمنسوجات والأدوية ومواد البناء)، لتتطور من بلدة صغيرة كانت تعتاش على الصيد إلى مدينة كبرى تضاعف فيها حصة الفرد من الناتج المحلي 100 مرة خلال ثلاثين عاماً. وعلى أي حال، ارتبط تعاظم دور الصين الاقتصادي باعتمادها مبكراً على إنشاء العديد من تلك المناطق. ويلفت في هذا المجال إنشاء الأردن ثماني من تلك المناطق تسمى تنموية استطاعت أن تجذب استثمارات بمليارات الدولار، ومنها ما يختص بالسياحة.
ما المشكلة في أن تصبح بعلبك الهرمل بمجملها منطقة «شيزين» اللبنانية؟


تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الأردنية تسعى إلى إقامة منطقة اقتصادية خاصة مخصصة للمستثمرين الأتراك، ومصر أيضاً عقدت اتفاقات مع الصينيين ومع الحكومة الروسية لإقامة مناطق لصناعات تلك الدولتين. وفي العالم، صار هناك أكثر من 4000 منطقة اقتصادية خاصة تستأثر بنحو 41% من مجمل صادرات العالم، ويعمل فيها أكثر من 68 مليون شخص، وهي تسهم على المدى الطويل التراكمي، بحسب الدراسات الإحصائية، في زيادة الناتج المحلي بمعدل 20% للدول التي اعتمدتها.
في لبنان، عمدت الدولة عام 2008 إلى إنشاء منطقة اقتصادية خاصة في طرابلس. ولكن إلى الآن ليس ثمة دليل مُعلن وواضح على الرؤية أو الخطة الاقتصادية التي تأتي هذه الخطوة اليتيمة في سياقها. فعلى سبيل المثال، كيف للمستثمر أن يُقدم على توظيف أمواله فيها إن لم يكن على بينة مما تريده الدولة وتسعى إليه وفق خطة تلتزمها وتتعهدها، كأن تستهدف التصدير غرباً بدل التصدير شرقاً أو العكس؟

فوائد المناطق الخاصة وشروط نجاحها
تخلص مجمل الدراسات التي أُجريت حول تجارب المناطق الاقتصادية الخاصة في مختلف أنحاء العالم إلى أن من شأنها جذب استثمارات أجنبية مباشرة كبرى، وتوليد أعداد وافرة من الوظائف إذ تشكل منفذاً مهماً لضغوطات البطالة على نطاق واسع، وتشكل حافزاً ومدخلاً واسعاً لدعم جهود الإصلاح الاقتصادي والتنمية، ونقل وتوطين الخبرات الأجنبية في مجال التصنيع والتكنولوجيا، ورفع مستوى المهارات المحلية والممارسات الإدارية الحديثة، وتعظيم حجم الصادرات وتنويعها، كما تشكل مورداً مهماً لخزينة الدولة، وتعزز وتدعم السوق النقدية والمالية للبلد المعني، وتساهم مساهمة فعّالة ومستدامة في التنمية البشرية والاجتماعية.
ولكن تؤكد الدراسات اشتراطاتٍ لضمان نجاح المناطق الاقتصادية الخاصة تبعاً لصحة أي إستراتيجية اقتصادية وأي تخطيط وأي إطار قانوني وأي إدارة تُصمم وتُنشأ تلك المناطق في سياقها. ومن ذلك ضمان أن تكون تلك المناطق منخرطة ومندمجة مع الإطار الواسع للسياسة الاقتصادية بحسن ربطها جيداً مع الاقتصاد المحلي وأنشطته. كما تجدر الإشارة إلى أهمية دور السوق المالية المحلية (البورصة) والثانوية منها في دعم وتسهيل وضمان التمويل والاستثمار في المناطق الاقتصادية الخاصة.

فرص إقامة مناطق خاصة في البقاع
لطالما كان البقاع، في خلفيات السياسات الاقتصادية للدولة اللبنانية منذ نشوئها، من الأطراف، لا بل من الأصقاع، جراء الذي لا يزال ماثلاً في الأذهان، وهو أن إقفال الحدود مع الجانب السوري كان احتمالاً قائماً على الدوام. لذلك تعاملت السلطات المتعاقبة مع البقاع على أنه الحديقة الخلفية للبلاد، ولا يصلح إلا للزراعة التي هي في أدنى سلم الأولويات.
لكن، من المنظور الحداثي للاقتصاد وتحولاته العالمية منذ التسعينيات (العولمة وانفتاح الأسواق بعضها على بعض)، يقتضي أن يمسي الاعتبار السالف حول البقاع قد عفا عنه الزمن، فيما يفترض أن يمثل البقاع واجهة ونافذة لبنان على أسواق المحيط الجغرافي والبشري لدول المشرق العربي والخليج، بسبب موقعه.
لذلك، إن اتساع مساحة البقاع التي تعادل نصف مساحة لبنان، وتوافر الكفاءات البشرية والإدارية والمصرفية في البلاد، إلى جانب الموقعية المشار إليها، من شأنه أن يجعل فرص إقامة مناطق اقتصادية فيه محل اهتمام المستثمرين الإقليميين والأجانب، ووجهةً للتوظيفات الاستثمارية لجزء من المدخرات الوطنية والعربية. وعلى سبيل العصف الفكري، ما الغضاضة في أن تصبح محافظة بعلبك ــــ الهرمل بمجملها منطقة «شيزين» اللبنانية، لتتحول من أرضٍ يباب إلى «أرض الفرص»، ولتشكل رافعة كبرى لكل الاقتصاد الوطني، علماً أن مساهمة هذه المحافظة في الناتج المحلي، من ذا الذي ينكر أنها، لا تتجاوز 4%؟
بناءً على ما تقدم، إن أهم ما يمكن أن نتوقعه من إنشاء مناطق اقتصادية خاصة هو قدرتها على إحداث تصحيح اقتصادي رديف، بغياب تصوّر حدوث ذلك على مستوى السياسة الماكرو-اقتصادية القائمة، مهما أدخل عليها من إصلاحات ومهما أنفق عليها من أموال (ثمة فارق كبير بين مصطلح الإصلاح ومصطلح التصحيح: الأول يعني دعم السياسة الماكرو-اقتصادية وقوامها نموذجها النقدي-المالي، أما الثاني، فيعني تصحيح النموذج نفسه). ولعل اللبنانيين يتنفسون الصعداء من توقع قيام استثمارات بمليارات الدولار بما يوفر مئات آلاف فرص العمل، إذا ما تبنى صنّاع القرار هذا التوجه بإنشاء مناطق اقتصادية خاصة، على نطاق واسع.
* كاتب لبناني