لم يبدأ التطبيع العلني للعرب مع إسرائيل بزيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى الأرض المحتلة وتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كما يتضح أنه لم ينتهِ بإعلان نقل السفارة الأميركية إلى القدس أواخر عام 2017، فها هو رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، في زيارة ـــ أقل ما يقال فيها إنها مشينة ـــ لسلطنة عمان، وتصريحه بأنها لن تكون سوى مقدمة لمجموعة زيارات لدول عربية أخرى لا تقيم «السلام» مع إسرائيل، وذلك لتعزيز «السلام» في المنطقة. جاء ذلك مع توجه وزير الاتصالات في حكومته أيوب قرا إلى دبي للمشاركة في مؤتمر دولي للاتصالات، في وقت حلّت فيه وزيرة الثقافة والرياضة، ميراي ريغيف، ضيفة في أبو ظبي على رأس منتخب الجودو الإسرائيلي الذي فاز بالميدالية الذهبية، وكذلك زيارة وزير المواصلات والاستخبارات، يسرائيل كاتس، لعمان بعد أسبوع من زيارة نتنياهو للمشاركة في مؤتمر دولي للمواصلات حيث عرض خطته التي تحمل اسم «سكك حديدية للسلام»، التي ستربط دول الخليج بالبحر الأبيض المتوسط من خلال الأرض المحتلة ويكون الأردن محورها.لم يكن التطبيع بحاجة إلى «تكبد عناء» مد سكك حديدية لـ«يؤتي أُكُله»، إذ يكفي تصفح كتاب «Cell of Cells: The Global Race to Capture and Control the Stem Cells» المنشور عام 2007 للكاتبة الأميركية «Cynthia Fox» لإدراك أن قطار التطبيع في المنطقة يسير وفق جدول مواعيد منتظمة ودونما عقبات تذكر، وأن البحوث العلمية عامة والطبية خاصة ليست سوى إحدى محطاته المتعددة. يطلعنا الكتاب، الذي يحمل الكثير من شخص كاتبته، وهو ما يعتبر غريباً في الكتب العلمية، على منهجية التفكير العالمية عامةً والأميركية خاصةً في ما يتعلق بالبحث العلمي، وذلك عبر السباق العالمي للوصول، لا بل للسيطرة على أمّ الخلايا، إن جاز التعبير، ألا وهي الخلايا الجذعية. المميز في الخلايا الجذعية باختصار هو قدرتها على التكاثر لعدد غير محدود من المرات لتعطي أي نوع من الخلايا، وبالتالي الأنسجة في الجسم، لذا بإمكانها أن تشكل، إن أحسن الخبراء السيطرة عليها وتوجيهها، حلاً جذرياً وفعالاً للعديد من الأمراض المزمنة كالسكري والزهايمر وباركينسون. أضف إلى ذلك إمكانية تخطي المضاعفات العديدة المرتبطة بزرع الأعضاء في حال تشكيل العضو المزروع من خلايا جذعية مستحصلة من المريض عينه.
تنتقد الكاتبة بجرأة التأخر النسبي في تقدم هذا المجال في الولايات المتحدة بالمقارنة مع بقية المراكز البحثية المختصة في العالم، وذلك كنتيجة لسياسة جورج بوش الابن وإصراره منذ بدء ولايته في مطلع 2001 على رفض تشريع جواز الحصول على هذه الخلايا من الأجنّة.
https://www.youtube.com/watch?v=EAiZp5jT04I
هذه السابقة كانت نقطة البداية التي وجهت مسار أبحاث الخلايا الجذعية على المستوى العالمي لتأخذ المنحى الذي سارت عليه، ولتستحق النتائج المنشورة في المجلات العلمية، ولأول مرة في التاريخ ربما، أن توسم بوسم: UNmade in America، أي «لم تصنع في أميركا» وذلك باعتراف الأميركيين وأولاهم كاتبة الكتاب، ولتسبقها في ريادة هذا المجال على الترتيب: سنغافورة، الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، إيران، لتأتي بعدها وتتصدر القائمة مصر ثم إسرائيل. لا يخفى على القارئ تركيز الكاتبة الواضح في سياقات مختلفة على التآثر الجيوبوليتيكي بين إسرائيل والدول المحيطة بها خاصة، وانعكاسات ذلك على واقع البحث العلمي في منطقة الشرق الأوسط وحتى في العالم، ومن غير الشائع عادة التطرق إلى نواحٍ كهذه في الكتب العلمية البحتة.
تتعزز هذه الفكرة عند المرور على مقاطع كالآتي:
ـــ «هناك العديد من الأسباب التي تجعل من المهم للغرب أن يفهم الشرق الأوسط، ومن بينها حماسة بعض الدول العربية لتكون حاضنة للخلايا الجذعية الجنينية، حيث قال سلطان باهابري، عضو مجلس إدارة مدينة Biocity في جدة ذات الميزانية التي تصل إلى مئة مليون دولار: «باعتقادنا أن التقانة الحيوية بإمكانها أن تكون النفط الجديد للمملكة العربية السعودية»،
وخاصة بعد صدور فتوى بجواز الحصول على الخلايا الجذعية من الأجنة واستخدامها لغايات علاجية وبحثية في العالم الإسلامي، بعكس ما هي عليه الحال في دولة علمانية ـــ ظاهراً فقط ـــ كأميركا مثلاً.
تأتي المفارقة في انتقاء مدينة 6 أكتوبر كحاضنة لثمرة التعاون مع إسرائيل


ـــ ثم تتابع الكاتبة: «أشاد آية الله خامنئي بالخلايا الجذعية الجنينية كأنها أسلحة حرب. أُحبطت كل محاولات أعداء إيران لإضعاف هذه الدولة وإذلالها وذلك بفضل جهود العلماء الإيرانيين التي تستحق الثناء. تسري شائعات بأن الأردن خصصت خمسين مليون دولار لإنشاء مركز متخصص بالخلايا الجذعية، كما أن دبي قامت بإنشاء مركز للخلايا الجذعية، لتكون الإمارات العربية المتحدة الدولة الأولى في العالم التي تقوم بتوجيه دعوة رسمية إلى سيفرينو انتينوري، الطبيب المثير للجدل الذي ارتبط اسمه باستنساخ الأجنة، ليحاضر بالمجتمع الطبي هناك».
لا تغفل الكاتبة في سياق سردها تفاصيل رحلتها إلى الأرض المحتلة وزيارتها مرتفعات الجولان أن تورد تحليلاً لواقع سوريا السياسي والتعليمي آنذاك وسيطرة القطاع العام فيها على المرافق التعليمية والبحثية، حتى فترة ليست ببعيدة بدأت فيها الجامعات الخاصة بالحصول على تراخيص، فتكون سوريا إذاً خارج هذا السباق. تنتقل بعدها لمناقشة واقع مصر، وتفوقها بعدد عيادات طفل الأنبوب على إسرائيل، وذلك نتيجة للاعتبار السائد بين المسلمين بضرورة الإنجاب، ما يجعل من هذه العيادات بنوكاً للخلايا الجذعية لا تقل أهمية عن أي منجم للثروات الباطنية أو حقل من حقول النفط، فتختم الكاتبة فكرتها بالقول: «هناك من الأسباب ما يكفي للاعتقاد بأنه إن شاء الشرق الأوسط أن يكون حاضنة للخلايا الجذعية الجنينية، فهو قادر على ذلك».
لا تنتهي الأفكار المثيرة للجدل هنا، بل تتعداها إلى التطرق إلى تحالف بين الطبيب والبروفسور المصري ـــ الأميركي إسماعيل براده وإسرائيل لتأسيس مركز بحثي للخلايا الجذعية، ليكون بذلك المركز البحثي المتخصص الأول في الشرق الأوسط خارج حدود إسرائيل. شاءت المصادفة أن يكون براده هو الطبيب النسائي الخاص بجيهان السادات، أرملة الرئيس المصري السابق، كما أنه زوج النجمة السينمائية المصرية لبنى عبد العزيز التي اعتزلت المهنة لسفرها معه إلى الولايات المتحدة بعد زواجهما. من جهة أخرى، تأتي المفارقة في انتقاء مدينة 6 أكتوبر كحاضنة لثمرة التعاون مع إسرائيل، تلك المدينة المستحدثة التي من المفروض أن تخلد باسمها هذا أحد أكثر الأحداث في التاريخ الحديث مبعثة للفخر عند المصريين لانتصارهم فيه على إسرائيل عام 1973. في المقابل، وليس بعيداً عن المركز البحثي، تقبع الأهرامات الفرعونية، رمز خلود الحضارات، معززة بطريقة أو بأخرى هاجس العلماء بالحصول والسيطرة على الخلايا الجذعية التي تشكل بذرة لفرع جديد من فروع الطب القادر على إطالة الأعمار أكثر من أي استراتيجية علاجية أخرى عرفها التاريخ.
هذا التحالف بين الطبيب والبروفسور المصري مع إسرائيل لإنجاز مشروع ضخم كهذا لم يكن لفائدة المصريين أو العرب أو سكان الشرق الأوسط بقدر ما هو استكمال للمجد العلمي لمؤسس المشروع الذي لم يحالفه الحظ هذه المرة بإيجاد بيئة حاضنة لمشروعه في الغرب، أضف إلى ذلك المصلحة المتبادلة بين هذا الطبيب وإسرائيل من جهة، والغرب من جهة أخرى، كون الشرق الأوسط بكثافته السكانية الكبيرة يشكل بنكاً وفيراً لهذه الخلايا، وفرصة للاستثمار في مكان أكثر ما يطغى فيه جهل المتبرعين من البسطاء قليلي الثقافة والوعي، وكون قراراتهم متأثرة كثيراً بالهيئات الإفتائية التي أدت دورها على نحو أكثر من جيد لمصلحة الغرب بإفتائها جواز الحصول على هذه الخلايا من الأجنة ما لم «تبث فيها الروح» بعد، أي في الأيام الـ 120 الأولى من تكون الجنين.
عند إجراء بحث سريع عن براده على شبكة الإنترنت باللغة الإنكليزية، فإن أكثر ما يلفت النظر هو غياب أي معلومات مفيدة عنه باستثناء لمحة مقتضبة منشورة في Houston Chronicle في 16 أيلول 2012، وذلك بعد ما يقارب خمسة أسابيع على تاريخ وفاته (6 آب/ أغسطس 2012)، ومما يثير الاهتمام أن المؤبنين يشيرون بفخر بهذه اللمحة إلى كتاب «Cell of Cells» كمرجع لمن أراد الاستفاضة عن مجمل أبحاثه ومنهجيته الفكرية التي يكبرونها كثيراً. أما بإجراء البحث عن اسمه بالعربية، وكونه زوج النجمة لبنى عبد العزيز، فإن نتائج البحث لا تتعدى بضع مقابلات أجرتها الصحف الفنية مع أرملته عقب وفاته. إذاً، غياب المعلومات عن هذا الباحث على شبكة الإنترنت ما هو إلا مدعاة لتعزيز الشكوك والريبة، لا بل غير متوقع إذا نظرنا إلى الأمر من منظور أهمية مشروع أم الخلايا لأم الدنيا، مصر.
إذاً، نحن هنا أمام حالة تطبيع متعمّد للعلاقة مع إسرائيل، ورغم إعراب كل من الأردن والمملكة العربية السعودية في وقت من الأوقات عن نيتهما الاستثمار في مراكز لأبحاث الخلايا الجذعية، تشير الكاتبة نقلاً عن براده إلى انقطاع أي نوع من التواصل معه بعدها من الجهات المعنية في هذين البلدين. في هذه الحالة، وإن أقصينا إسرائيل، نجد أن أقرب مركز للتحالف لهذا الباحث سيكون منطقياً إيران، وخاصة أنها كانت تنشر نتائج أبحاثها المتعلقة بالموضوع في مجلات علمية مرموقة، لكن هذا الباحث المصري، كما أقر للكاتبة، وجد في حالة السبات العلمي التي تعيشها الدول العربية فرصة لا تفوت ليبرز ويحقق إنجازاً غير مسبوق كعربي في منطقة الشرق الأوسط، وذلك إن أحسن استغلال الفرص وتحرك بسرعة.
قد يدعو البعض إلى وضع الوطنيات جانباً والنظر إلى النصف المليء من الكأس، ففي هذه الخلايا مستقبل علاجي واعد وخلاص لأعداد هائلة من المرضى الذين يعانون يومياً مع أمراضهم المزمنة ولا يجدون العلاج المجدي. إن هذا الكلام صحيح في بلدان يتمتع مواطنوها بالحد الأدنى من الرعاية والضمان الصحيين، أما في بلدان لا يجد السواد الأعظم من سكانها شروط الحياة البسيطة، وتنعدم القوانين الحامية لحقوقهم الإنسانية والطبية، فذلك هو الاستغلال بعينه. لم يخجل براده من الإفصاح للكاتبة عن بحثه عن مشروع يستكمل به بناء أمجاده العلمية وذلك بعد بلوغه سن التقاعد وفقاً للقانون الأميركي، فما كان منه إلا أن سلك الطريق الأسهل والأقصر، آخذاً بمبدأ «الغاية تبرر الوسيلة».
ما يستدعي القلق أن بعض المثقفين والمستنيرين ينظرون إلى الموضوع من منظار وردي على أنه أول خطوة في سباق الألف ميل في المنطقة، وأنه سيساهم بطريقة أو بأخرى في الاستفادة من الخبرات الأجنبية لتأهيل كوادر وطنية والارتقاء بالمستوى البحثي أو بمستوى الرعاية الصحية، جاهلين أو متجاهلين دأب المراكز البحثية والأكاديمية الغربية على حصر المهارات العملية ومفاتيح المعرفة لدى نخبة محدودة ومنتقاة من قبلهم ووفقاً لمعاييرهم، كما أنها بديهياً خاضعة لسلطة الجهة الممولة لأبحاثها، ففي حال كانت هذه الجهة حكومية، آلية عمل هذه المراكز ستكون، كأي مشروع، رهناً للتشريعات والقوانين السارية لهذه الحكومات. أما إن كانت جهة خاصة، وهي حال المركز المحدث في مصر الذي اتخذ من جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا حاضناً لبداياته (جامعة خاصة تأسست عام 1996) لينتقل بعدها إلى مستشفى الشيخ زايد على مسافة كيلومترات قليلة من الجامعة، فذلك أمد المتحكمين بالمشروع بمساحة من الحرية نوعاً ما في تحالفاتهم وتعاوناتهم.
ليس علينا أن ننسى في هذا الزمن الصعب أن التداعيات الحرجة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط حالياً ما هي إلا انعكاس منطقي لتاريخ طويل من الخيانات التي تحركها أطماع الغرب، ليس فقط بالنفط والثروات على ما يبدو، بل تتعداه إلى أبسط صورة من الحياة، ألا وهي الخلية، فتكون بذلك سبباً خفياً آخر لما تشهده المنطقة من فوضى مدمرةٍ لنا، وخلّاقةٍ لهم.
* باحثة وحائزة الدكتوراه في العلوم الدوائية
من جامعة باريس