من الواضح أن الوطن العربي يمر منذ نهايات 2010 بمخاض ثوري غير مسبوق في تاريخ الأمة العربية. وكنا نتساءل قبل اندلاع أحداث تونس لماذا يتسم الشارع العربي بذلك القدر من السكونية والجمود والشلل، وعزونا الإخفاقات المتكررة للأمة العربية وحركاتها الثورية والنهضوية إلى إخفاق الأمة العربية عبر تاريخها المديد في تحقيق ثورتها الجماهيرية وإلى كونها الأمة الوحيدة تقريباً التي أخفقت في ذلك.
ومنذ عام 1989، الذكرى المئوية الثانية لاندلاع الثورة الفرنسية الكبرى، دب اليأس تماماً في قلوبنا من إمكانية قيام الثورة العربية، حيث بدأ آنذاك يسود الاعتقاد بنهاية التاريخ ونهاية الثورة ونهاية الأزمات الرأسمالية؛ بدا وكأن الرأسمالية تغلبت نهائياً على تناقضاتها الداخلية ضمن إطار علائق الإنتاج الرأسمالية، ومن ثم على أزماتها البنيوية، وأنها توصلت إلى النظام السياسي الأمثل (الديموقراطية الليبرالية)، ومن ثم أفلحت في إلغاء ضرورة الثورات الشعبية، التي، على أي حال، أثبتت إخفاقها وهمجيتها وأنها تعبير عن حالة عدم النضج التاريخي للبشرية والرأسمالية ما قبل 1989، طبقاً لمنظري نهاية التاريخ.
وفي الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية الكبرى، سال مداد كثير في إدانة حقبة الثورات الممتدة ما بين 1789 - 1989، وبيان همجيتها، وربطها بالغباء التاريخي للبشر، وبيان انعدام الحاجة إليها. وصدق الرأي العام ذلك لعقدين من الزمان، بما في ذلك الرأي العام اليساري. فنبذ جل اليساريين الخطاب الثوري، وهيأوا أنفسهم للانخراط في الديموقراطية الليبرالية والنضال النقابي والبرلماني والإصلاحي، وانعكس ذلك على مجمل تفكيرهم وبناهم التنظيمية وممارساتهم.
وبرغم الحروب المدمرة التي شهدتها الفترة الممتدة ما بين 1989 - 2008، في أفريقيا ويوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وفلسطين، وبرغم الأزمات الاقتصادية هنا وهناك، إلا أن أسطورة النهايات (نهاية التاريخ، نهاية الثورات الشعبية، نهاية أزمات الرأسمالية) ظلت مهيمنة على الرأي العام العالمي، بما في ذلك الرأي العام اليساري؛ وهذا كله برغم إخفاق النيوليبرالية الرأسمالية في أكثر من بقعة، وبخاصة في أميركا اللاتينية، التي ما لبثت أن شهدت عودة اليسار إلى صدارة المشهد.
ثم جاء 2008، وبدأت معه أزمة مالية واقتصادية عالمية، يعدّها الكثيرون أكبر وأعمق أزمة اقتصادية في تاريخ الرأسمالية. فبدأ خطاب النهايات يترنح تحت وطأة انهيار البنوك الكبرى والتدخلات السافرة للدولة لمصلحتها. كانت الصدمة كبيرة على الجميع حتى إن الملكة إليزابيث، ملكة بريطانيا، وبّخت لقاء لكبار الاقتصاديين الغربيين، وسخرت منهم لعجزهم عن استشراف البركان المالي.
وفي نهايات 2010، إذا بثورات شعبية غير مسبوقة في تاريخنا تندلع، ابتداء بتونس، لتمتد إلى مصر واليمن والبحرين وتحرك انتفاضات احتجاجية هنا وهناك في الوطن العربي. ولم يعد بإمكان خطاب النهايات المترنح أن يتحمل ذلك، فانهار وتفكك، ولكن من دون أن يقوم على أنقاضه خطاب ثوري بديل.
ولم يكن بمستغرب أن تأتي الثورة العربية في أعقاب أعمق أزمة تمر بها الرأسمالية العالمية في تاريخها. فالثورات الحديثة جميعاً اندلعت على خلفية أزمات مالية خانقة (الثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر، والثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، والثورة الفرنسية عام 1830، والثورات الأوروبية عام 1848، والثورات الروسية في القرن العشرين، إلخ ...). لذلك لا بدّ من ربط الثورة العربية بأزمة الرأسمالية العالمية.
وقد يكون من المفيد هنا أن نطبق على الثورة العربية مفهوم الحلقة الأضعف في السلسلة الرأسمالية، مفهوم لينين الأثير. فمن الواضح أن الحلقة الأضعف في السلسلة الرأسمالية اليوم هي الوطن العربي بنظمه السياسية المافيوية الفاشلة ما قبل الرأسمالية، واقتصاداته الريعية الهشة، وطاقاته الإنتاجية المهدورة والمعطلة، وموارده المنهوبة والمهدورة، وتنميته المتعثرة، وأراضيه المحتلة، وسيادته المنتهكة، وهويته الضائعة، على غرار روسيا عام 1917.
وقد فاقم الوضع سوءاً الغزو الإمبريالي التدميري للعراق والسيطرة الإمبريالية شبه الكاملة على منابع النفط العربية وإلزام الأقطار العربية باتباع نهج الخصخصة والنيوليبرالية، الذي أضحى في البيئة العربية مرتعاً لفساد غير مسبوق.
ومثلما عدّت الثورة الروسية عام 1917 مقدمة للثورة العالمية (التي لم تتحقق بالطبع)، فإنه يمكن أن نعدّ الثورة العربية نوعاً من الثورة الدائمة، أي مقدمة للثورة العالمية. وهناك دلائل على أن الثورة العربية هي نوع من الثورة الدائمة أفقياً وعمودياً، جغرافياً واجتماعياً، أي أنها سيرورة وليست حدثاً ناجزاً. فهي قد انطلقت من البؤرة التونسية لتعم الوطن العربي برمته، بل وأبعد منه. كما أنها آخذة في التجذر جاذبة إليها مزيداً من شرائح المجتمع وبمزيد من المطالب السياسية والاقتصادية.
ولكن، وكأي ثورة شعبية، فإنها تستفز قوى الثورة المضادة في الحلقات الأقوى. وبصورة خاصة، فقد استفزت الثورة العربية بملايينها قوى النظام الصهيو إمبريالي المهيمن، وفي مقدّمها الإمبريالية الأميركية والفرنسية والبريطانية والمشيخات النفطية وتركيا النيو عثمانية. إذ أدركت هذه القوى أن الثورة العربية تهدد هيمنتها موضوعياً، وإن عجزت حتى الآن عن تهديدها ذاتياً. وقد أحسّت هذه القوى بالخطر يحيط بها من كل جانب. إذ أنهكتها المقاومات اللبنانية والعراقية والأفغانية عسكرياً واقتصادياً. وتنامت قوة محور المقاومة والممانعة والاستقلال (إيران، سوريا، حزب الله) مدعومة من المراكز الصاعدة (روسيا والصين بخاصة) في مجابهتها. وإذا بالجماهير الشعبية تنتفض بملايينها في مجابهة أنظمة التبعية المافيوية. فما كان منها إلا أن تحركت في اتجاهين مكملين بعضهما لبعض. إذ شنت هجوماً ناعماً على الجماهير الشعبية، مستغلة ضعف التنظيم الذاتي للجماهير وغياب القيادات الثورية. فسلطت عليها قيادات ليبرالية وإسلاموية مضادة للثورة من أجل إعادة إنتاج هيمنتها بصورة أخرى.
واستطاعت بذلك أن تحدّ من وتيرة تمدد الثورة أفقياً وعمودياً. ومن جهة أخرى، نظمت هجوماً خشناً وشرساً جداً على الأقطار الخارجة عن سيطرتها الكلية. فشنت حرباً تدميرية على ليبيا بمساعدة مرتزقتها الليبراليين والإسلامويين، باسم الثورة العربية نفسها، من أجل وضع يدها على النفط والغاز الليبيين وتدمير البنية التحتية الليبية وتمزيق المجتمع والتحكم بليبيا بوصفها بوابة رئيسية للقارة الأفريقية. وبعدما تم لها ذلك، حاولت اتباع السيناريو الليبي في سوريا، قلب محور الممانعة والمقاومة والاستقلال، مستغلة نقاط ضعف النظام السوري (الاستبداد الأمني، البرنامج النيو ليبرالي) والطائفية والمذهبية. وعندما تعثر هذا السيناريو لأسباب متنوعة، وفي مقدمها تماسك الجيش العربي السوري وعقيدته القتالية الوطنية، والموقف الروسي والصيني، لجأت إلى سيناريوات أخرى تذكّرنا بسيناريو الكونترا الذي سبق أن اتبعته في نيكاراغوا في نهاية العقد الثامن من القرن العشرين في مجابهة السندينستا. والهدف منه تدمير سوريا وتمزيق نسيجها الاجتماعي وإجبار النظام على تقديم تنازلات مؤلمة، تماماً كما حصل مع نيكاراغوا قبل ربع قرن. فتحولت سوريا إلى غابة تسرح فيها وتمرح الوحوش والكلاب المسعورة من كل حدب وصوب ومن سائر أرجاء المعمورة. وما زال الصراع محتدماً بالطبع. وبرغم هذه الهجمة الشرسة، فهناك ما يشير إلى أن الثورة مستمرة وأن الجماهير مصممة على التغيير وعلى إيجاد مخارج لأوضاعها التي لا تطاق. ولعل الموجة الثانية من ثورة 25 يناير المصرية 2011 التي اندلعت في 30 يونيو 2013 هي خير دليل على ذلك. لقد ظنت الإمبريالية الأميركية وقطاعات من البورجوازية المصرية أن الإخوان المسلمين، بأيديولوجيتهم الأفيونية ومؤسساتهم الإعلامية وتنظيمهم المحكم، سيفلحون في ترويض الجماهير الثائرة والمتململة، معتمدين في ذلك على نسبة الأمية العالية في مصر وعلى عمق التراث الديني في منطقتنا. لكن، هيهات! فالاقتصاد والقهر والصراع الطبقي هي محركة التاريخ، وهي قادرة على تخطي الأفيون بكل أصنافه. لذلك جاءت المرحلة الثانية من الثورة المصرية في 30 يونيو تعميقاً لثورة 25 يناير، واستمراراً لها في آن، إذ إنها جاءت ثورة عارمة على أكبر وهم أيديولوجي عشّش في وعي جماهير الأمة العربية. كما وجَّهت ضربة قاصمة لظهر المشروع الإخواني الوهابي الدولي والإقليمي برمته. ولكن، علينا أن نعترف بأن الثورة العربية تعرف حتى الآن ما لا تريد، لكنها لا تعرف تماماً ما تريد ولا كيف تصل إلى ما تريد. كذلك، فلئن حولت الجماهير (المصرية والتونسية بصورة خاصة) نفسها إلى قوة مؤثرة تاريخياً، فإنها لما تحول نفسها إلى سلطة بديلة. ويعود ذلك إلى أن الثورة العربية هي ثورة جماهيرية عارمة لمَّا تفرز قيادات ثورية تعكس الزخم الثوري للجماهير وتقود الجماهير من أجل تحقيق تغييرات جذرية تجدد حياة الوطن والأمة. ولكن، نحسب أنه، مع تفاقم أزمة الرأسمالية، واشتداد وقعها على الوطن العربي، ستتجه الجماهير صوب قيادات وتغييرات أكثر راديكالية مما شهدناه حتى الآن. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ههنا هو: ما المضمون الطبقي للثورة العربية، وبخاصة في مصر وتونس؟ هل هي ثورة الطبقة الوسطى المدنية على الاستبداد الشرقي ومخلفات عصور ما قبل الرأسمالية من أجل تحديث النظام السياسي العربي؟ ربما. ولكن، علينا أن ننتبه إلى أن الطبقات الوسطى التي انتفضت ليست طبقات وسطى تقليدية. رأس حربة الثورة العربية هو الشباب المتعلم المدجج بالمهارات التكنولوجية الحديثة. والأولى أن نسمي أولئك الشباب بروليتاريا ذهنية، إذ إنهم يكدحون بأذهانهم لخلق الثروات الهائلة، التي لا يطالهم شيء منها، تماماً كما يفعل البروليتاريون التقليديون. كذلك، تتفشى البطالة في صفوفهم على غرار تفشيها في صفوف العمّال الصناعيين. ولهم أطرهم التنظيمية الخاصة التي تتوافق مع مهاراتهم العلمية الحديثة. ومع أن وعيهم ما زال ليبرالياً بسقف بورجوازي، إلا أن ذلك لا يعني أنه وعي طبقي ثابت يعكس وضعهم الطبقي الفعلي، وأنه غير قابل للتحول والتبدل. كلا! فمع تفاقم الأزمة العالمية وامتدادها العربي، فإننا لا نستبعد أن يتجذر وعي هذه الفئات ويتخطى السقف البورجوازي، وخصوصاً بالنظر إلى تنامي غضب الطبقة العاملة التقليدية وعدد إضراباتها وعدد المنخرطين في الثورة من أبنائها. إن الثورة العربية هي ثورة بورجوازية مدنية بمضمون عمالي متحرك، ربما كالثورة الفرنسية الكبرى (1789). لكن، لئن لم يكن من الممكن للثورة الفرنسية تخطي سقفها البورجوازي في ظل الظروف التاريخية السائدة آنذاك، فإن الظروف المعاصرة قد تتيح للثورة العربية ذلك.
بقي أن نقول إن علينا أن نتدبر الظروف العيانية لكل قطر عربي على حدة، إذا أردنا أن نلمّ بحيثيات الثورة العربية بعيانيتها. ولنركز على بلدنا الأردن، بؤرة اهتمامنا العملي.
الأردن قطر جيو سياسي بامتياز. فهو خاضع للهيمنة الأميركية، ويعدّه الكيان الصهيوني فناءه الخلفي، وتعدّه المملكة العربية السعودية جدارها العازل الشمالي. وقد أريد له أن يكون موئلاً وملاذاً ومخيماً لملايين اللاجئين القادمين من الأقطار المحيطة ضحية العدوان الصهيو إمبريالي (فلسطين، لبنان، العراق، سوريا). كما أريد له أن يكون وطناً بديلاً للفلسطينيين في سياق إقامة الدولة اليهودية على كامل الأرض الفلسطينية وعلى حساب الشعبين العربيين الفلسطيني والأردني. وقد قاد النهج النيو ليبرالي، الذي ساد في العقدين الأخيرين، البلاد إلى نفق المديونية المفرطة والعجز الكبير في ميزانية الدولة وبيع مؤسسات الدولة بثمن بخس وتنامي مؤسسة الفساد بصورة فاحشة وتفكيك جزء كبير من قاعدة السلطة السياسية. لذلك كله، وبرغم تردي الأوضاع المعيشية لغالبية الشعب الأردني، وتنامي سخط قطاع واسع من الجماهير على هذه الأوضاع، وبرغم الإضرابات العمالية والاعتصامات والمسيرات والانتقادات الحادة الكثيرة، فإنه لم ينشأ في الأردن وضع ثوري.
وهذا الأمر يرتبط بصورة أساسية بالحساسية الجيو سياسية الشديدة للأردن وصغره النسبي وتركيبته الديموغرافية الخاصة المرتبطة بقضية عالمية، هي القضية الفلسطينية، وضعف أحزابه الوطنية، وطغيان تنظيم الإخوان المسلمين بأجندته الإقليمية ومرجعيته التاريخية ودوره شريكاً صغيراً للنظام في مواجهة الحركة الوطنية الأردنية والتقدم.
وقد حال ذلك كله دون تراكم الاحتجاجات والسخط إلى حد الانفجار الثوري. لكن هذا لا يعني البتة أن الوضع الأردني مستقر وتحت السيطرة. كلا! فمؤسسات المجتمع آيلة إلى التأزم والانهيار، والوضع الاقتصادي آيل إلى التردي المتسارع، والوضع الإقليمي لا ينبئ بخير. فاحتمالات الهبّات والانتفاضات قائمة بالفعل، خوصوصاً في ضوء ما نشهده حالياً في المجتمع الأردني من مظاهر عنفية عبثية وتفكيكية مثيرة للقلق. إذ ارتد انسداد آفاق التحول الثوري في الأردن على المجتمع الأردني على صورة عنف عبثي بين الأفراد والمجاميع وتفكك للمؤسسات والأطر الاجتماعية المتنوعة. والخلاصة أننا مقدمون على حالة من عدم الاستقرار، وربما الفوضى، إذا ظلت آفاق التحول الثوري مسدودة على هذا النحو.
وفي هذا السياق، يضع الدور الجيو سياسي التاريخي للنظام الأردني في خدمة الإمبريالية والرجعية وسياساتها الإقليمية، الدولة الأردنية برمّتها في مهب الريح، نتيجة التواطؤ المباشر مع المشروع الأطلسي _ السعودي ضد الدولة السورية، وتسهيل استخدام الأجهزة الاستخبارية الغربية والرجعية العربية للأرض الأردنية، لتدريب المرتزقة ونقلهم إلى سوريا، وكذلك تحول الأرض الأردنية إلى غرفة عمليات استخبارية لنقل الأسلحة والأموال والخبراء العسكريين والمقاتلين الوهابيين إلى الأرض السورية، مقابل بضعة مليارات من البترو دولارات تدفع للطغمة الحاكمة، ولا يستفيد الشعب الأردني منها بشيء، وإنما تعرضه للآثار المباشرة لإدماج المجتمع الأردني في المشروع السعودي الوهابي، وقواه الإرهابية، في المنطقة.
وفي الوقت نفسه، تسعى الولايات المتحدة، وامتدادها الصهيونية، إلى الاستفادة من حالة الفوضى الناجمة عن مراوحة الثورات العربية، من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وإنجاز ما يمكن إنجازه من مشروع يهودية الدولة في فلسطين، على حساب فلسطين والأردن، والتخلص من العبء السكاني الفلسطيني بخلق الشروط الموضوعية لعملية ترانسفير جديدة، يكون الأردن مستقراً وممراً لها، في إطار مشروعي الكونفدرالية «بين الضفتين» واتحاد جمركي (بنلوكس) برأس «إسرائيلي» وطرفين فلسطيني وأردني، وهو مشروع تحقق الكثير منه بنعومة على الأرض خلال العقدين الماضيين. وما الدخول في تفاصيل المفاوضات «الإسرائيلية» _ الفلسطينية إلا مؤشر على أن ثمة استعجالاً لإنجاز ترتيبات من هذا القبيل في الوقت الضائع. وهذا أمر يضع الفلسطينيين والأردنيين أمام التحدي المباشر لإفشال مشروع الإجهاز على القضية الوطنية الفلسطينية، وبالنتيجة على الدولة الأردنية.
ويزيد من احتمالات فرض هذه المشاريع المخاوف المتعاظمة لدى الرجعيات الخليجية، ولا سيما السعودية، من أن الولايات المتحدة، الحامي المباشر، مضطرة إلى مراجعة حدود قدرتها وسياساتها الإقليمية، بعد الضربات التي تلقتها في العراق وأفغانستان، وما نجم عن ذلك من صعوبات اقتصادية حقيقية جعلت من سياسات العسكرة وبالاً على الاقتصاد الرأسمالي، بل على العالم بأسره، عوضاً عن تجديد النظام الرأسمالي العالمي.
ومن هنا، فإن احتمالات تشكيل حلف أمني _ اقتصادي يضمّ ثلاثي «البنلوكس» ومجلس التعاون الخليجي، بزعامة السعودية، في إطار «شرق أوسط كبير»، تبدو مغرية لليمينيين الحاكمين في «السلطة الفلسطينية» والنظام الأردني، اللذين يواجهان استحقاقات تهدد قدرتهما على الاستمرار.
وعلى ذلك كله، نقول إن الثورة العربية مستمرة، لكن الثورة المضادة وما يصاحبها من حروب مستمرة هي أيضاً. والأهم من ذلك كله هو أن يعدّ الشيوعيون العرب والأردنيون أنفسهم، فكرياً وتنظيمياً، لذلك، لكي يكونوا فاعلين في الساحة الثورية العربية، يؤثرون فيها ويتأثرون بها، في سياق توجيه الطاقة الثورية للجماهير صوب التحرر والتقدم والنهوض.