كانت لديّ، منذ زمنٍ، مشكلة مع الاحتفاء العربي (المبالغ فيه) بأيّ باحثٍ أو اكاديمي غربي، وبخاصّة إن كان اسرائيلياً، إن كان في كتاباته منصفاً للتاريخ، أو اعترف بالنكبة والتهجير، أو أخذ خطّاً يعارض السرديّة الصهيونيّة وتأريخها. نعامل لقيةً كهذه على أنّها «نصر»، ودليلٌ على استدارة العالم صوبنا، وأنّ إحقاق الحقّ بدأ يدنو، طالما أنّه توثّق في دوائر الغربيين وقد «شهد شاهدٌ من أهله»، ونعتبر الشخص المعني «حليفاً» بشكلٍ تلقائي، ونقدّره من دون نقديّة (حتى ولو كان «صهيونيا معتدلاً» مثل نوام تشومسكي).
اعتراف «الآخر»
المشكلة من جزئين، الأوّل يتعلّق بنا نحن، وليس بهؤلاء الغربيين؛ وكتاباتهم ومواقفهم واعترافهم بمآسينا هي أمرٌ جيّد ومقدّر (وإن كان في الوقت نفسه طبيعياً و«متوقّعاً»، فلا باحث يحترم نفسه اليوم يمكنه أن يزعم، كما كان الصهاينة يفعلون في الماضي، بأنّ التهجير والتطهير العرقي لم يجرِيا في فلسطين، أو أن يسترشد بالتاريخ التوراتي، أو أن ينكر أحداثاً تراكمت عليها الدلائل والشهادات). المسألة هي أنّنا، ونحن نبتهج بالأجنبي حين يخبرنا أموراً كنّا نعرفها أصلاً (وبالخبرة والتجربة)، نخلط أحياناً بين الكتاب البحثي وبين الفعل السياسي، ونتخيّل أن «اعتراف» الآخر بنا يقرّبنا خطوةً الى استرجاع حقوقنا. ولكن، في الواقع، لا توجد أي علاقة، من أي نوع، بين أن «تعترف» الاكاديميا بحقّك وبتاريخك، وبين أن يتغيّر شيء على الأرض.
العالم البحثي بأسره يجمع، مثلاً، على أنّ أقاليم التيبت وشينجيانغ قد دمجتها الصّين بطريقة استعمارية خلال القرنين الماضيين، ولكن هذا لا يعني بأن هذه الأقاليم ستنفصل عن الصّين أو تحظى باستقلال، ولا أحد سيرجع الساعة الى الوراء. الأدبيات كلّها في الغرب تفصّل في تاريخ الاستيطان الاستعماري في «العالم الجديد»، وابادة السكّان الأصليين، وتراث العبودية واستغلال الأفارقة، ولكن هذا لم يصنع أيّ فارقٍ بالنسبة الى بقايا الهنود الحمر وأحفاد العبيد. بل إنّه أصبح في وسع مؤرّخ صهيوني مثل بيني موريس أن يعترف بحصول التهجير وجريمة النكبة، ثمّ يضيف ببساطةٍِ أنّ هذا التطهير العرقي كان ضرورياً، بل إنّه كان «ناقصاً»، فلو اكتملت ابادة «السكان الأصليين»، لما كان هناك اليوم صراع عربي ــــ اسرائيلي.
أكثر من ذلك، ففي هذا «الاعتراف»، حين يأتي من المؤسسة الغربيّة، جانبٌ مكرب: في التقليد الأكاديمي الحديث، الأمم تتحدّث عن «خطاياها» الماضية بعد أن تطمئنّ الى أنّ الاعتراف لن تكون له قيمةٌ. أي أنّه، من وجهة نظر حركة تحرّرٍ وطني، حين يبدأ «الآخر» بالتعاطف معك، فهذا ليس أمراً يدعو الى الإطمئنان. كان صديقٌ يقول لي ما معناه إنّه من «الطبيعي» للأمم القويّة أن ترتكب جرائم وفظائع خلال صعودها، تجاه أهل الداخل وتجاه الآخرين. ولكن من «الطبيعي» ايضاً، بالمقابل، أن يعترف أحفاد هؤلاء بما جرى، ويكتبوا رسائل بحثية عن تاريخهم، ويشعروا بوخز الذنب ــــ حين لا يعود لذلك من نتائج عمليّة (أمّا أن تنكر «خطيئتك الأصلية» بعد مرور الزمن وتوالي الأجيال، وتكابر، فهذه تصبح وقاحة).
بل إنّ جوّ السّماح الليبرالي هذا يعطي شرعيّةً، في حالاتٍ كثيرة، للمؤسسة الاستعمارية ذاتها؛ فيتفاخر بيني موريس (في مقالٍ نشره في «نيو ريببلك» منذ سنوات، يهاجم فيه ايلان بابيه) بأنّ كثرة من الاساتذة في أقسام العلوم الاجتماعية في اسرائيل هم اليوم «بعد صهيونيين» ويختلفون مع الايديولوجيا المؤسسة ولا يضيرهم ذلك بشيء (ولكن موريس يعترف بأنّ الحال لم تكن كذلك في الستينيات والسبعينيات. وفي وسعنا أن نضيف أنّه، حين يعود التهديد الوجودي ليحوم فوق الكيان، فسوف يختفي هذا «التسامح» من جديد).
الجزء الثاني من المشكلة يتعلّق بإخراج الصراع مع الصهيونية على أنّه محض خلاف على الأرض بين مستوطنين وبين «سكان أصليين»، هم العرب الذين كانوا يقطنون أرض فلسطين عشية النكبة. هذه النظرة هي التي أوصلت الى وهم «حلّ الدولتين» (والى وهمٍ أخطر، لدى نخبٍ عربية، بأنّ اسرائيل قد تعطي بالفعل دولة مستقلة للفلسطينيين)، وهي لا تستجيب الى المظهر الأهمّ للصهيونيّة. لشرح هذه النقطة فلنفترض، كتمرينٍ ذهنيّ، أنّ اسرائيل قد عقدت، بالمعنى القانوني والدبلوماسي، سلاماً مع الفلسطينيين، وأصبحت لهم دولة الى جانب الكيان الصهيوني. هذا شبه مستحيل لأسباب «بنيوية»»، ولكن فلنأخذه كافتراض: أن اسرائيل قد نجحت في فرض اتفاقٍ على النخب الفلسطينية، وقمعت حركات المقاومة والاعتراض، وحصل «سلام» وحلّ «النزاع». فهل هذا سيعني نهاية مشكلتنا مع الصهيونية؟
لو تحقق هذا السيناريو، فإن ما سيحصل مباشرةً بعده سهل التنبؤ، وهو أنّ اسرائيل ستلتفت الى المنطقة، هي واميركا والسعودية وباقي «الحلفاء»، وسيكملون سوية سياستهم الحالية في سحق الشعوب، في ساحات حربها في اليمن والعراق وسوريا وغيرها، وفي ابقاء ملايين آخرين من العرب الفقراء تحت حكم أنظمةٍ تابعة. سنعود، بالضبط، الى مكاننا الحالي. انحيازك الى الفلسطينيين سيصطدم سريعاً بـ«سقفٍ سياسي» إن لم يكن جزءاً من موقفٍ ضدّ الصهيونية وأخواتها. ولهذا السبب ايضاً، لا يمكن أن تكون هناك، يوماً ما، دولة فلسطينية من دون أن تكون دولةً «مقاومة». نحن كلّنا، في الجنوب العالمي، «سكان أصليّون»؛ نحن الشعوب التي نجت، وإن جزئياً، من موجة التوسّع الاوروبي التي انطلقت في القرن السادس عشر ــــ فكثير من الشعوب أبيدت، وقارات كاملة أفرغت من أهلها. نحن البلاد التي لم تمتلك يوماً سيادة، وحظيت بالموقع الاسوأ في النظام العالمي، ولم يتح لها حتّى أن تصبح بلاداً حقيقية. الجذرية هنا هي أن نواجه واقعنا كما هو.

الجذرية كضرورة
مثلما يكرّر آلان باديو باستمرار، فإنّ الجذريّة ليست في المزايدة والكلام الصاخب والمواقف المتطرّفة، الجذرية الحقيقية هي أن تظلّ وفيّاً لأصل الأشياء؛ أن تحافظ على الأساس الفلسفي لشعاراتٍ مثل «التحرير» أو «الاشتراكية» وتبقيها نصب عينيك. ومن الأساسيات التي تمّ تغييبها ــــ أو أصبح الحفاظ عليها صعباً ومكلفاً خلال عقود الهيمنة ــــ هي قاعدة أنّه يستحيل لحركة تحرّرٍ وطني أن تقوم وهي على وفاقٍ مع القوى الرجعيّة، وأنّك يمكن أن تحارب اسرائيل وتتلقّى دعماً خليجياً في الوقت نفسه، وأن تتحدّى اميركا وتكون علاقاتك سائرة مع الرّياض. هذه الفرضيّة نشأت بعد التنازلات التي أعقبت الهزيمة عام 1967، وتعمّقت لاحقاً ومارستها، بنتائج مأسوية، حركة «فتح» وغيرها؛ بل نشأ قاموسٌ كاملٌ لتبرير هذه التناقضات تحت مسمّى «المصلحة» و«الاضطرار».
حين بدأ الجناح اليميني داخل الدّولة الصينية بالانقلاب على الارث الماوي في السبعينيات، يروي الباحث ويليام هِنتون، فإنّه لم يفعل ذلك صراحة تحت راية تفكيك الاشتراكيّة. على العكس تماماً، هم زعموا على طول الخطّ أنّهم مخلصون للاشتراكية ويريدون تعميقها. الشعار الذي طبع تلك المرحلة بأكملها، وسهّل الانقلاب ــــ بحسب هِنتون ــــ كان العبارة الشهيرة لدِنغ شياوبِنغ «لا يهمّ أن يكون القطّ أبيض أو اسود طالما أنّه يصيد الفئران» (في الأصل الصيني يقول «ابيض أو اصفر»). هذا الشعار «العملي»، الذي تحوّل الى ايديولوجيا واستخدم في كلّ موقع، هو مثل شعار «المصلحة» و«الاضطرار»، ليست له حدودٌ واضحة ويسمح بتبرير أيّ شيء، بما في ذلك الانقلاب على الاشتراكية نفسها ــــ تماماً مثلما أوصلت «الواقعية» الى «اوسلو».
من أهمّ صفات المعركة في اليمن اليوم جذريّتها، وأنّ اليمنيين المقاتلين قد وجدوا أنفسهم (بلا خيارٍ منهم)، في وجه السعودية واميركا واسرائيل في آن. وإن كان هناك ما يميّز «أنصار الله» عن أكثر الحركات التي عرفتها المنطقة، فهو هذا الموقف الحاسم في الداخل والخارج، تجاه النظام القديم وتجاه القوى الاقليميّة. كان أحد الأصدقاء يلاحظ أنّ جمال عبد النّاصر قد اضطرّ الى القبول بعناصر رجعيّة ضمن نظامه، والتأقلم مع أنظمة رجعية خارجه. الثورة في ايران ضمّت مروحة واسعة من المصالح والقوى الاجتماعية (وهذا أحد أسس الاستراتيجية الغربية ضد ايران). وحزب الله في لبنان اضطرّ الى التّأقلم مع قوى كثيرة لا تشبهه. ولكنّ ظروف اليمن قد صنعت حسماً حقيقياً، تجاه الداخل والخارج؛ ولهذا السّبب فإنّ «أنصار الله»، إن فشلت اميركا والسعودية في سحقهم (وهي تفشل) سيكون لهم شأنٌ في مستقبل اقليمنا. على الهامش: المعارضة العنيفة لـ«أنصار الله» من قبل كلّ النخب اليمنيّة والمثقفين في البلد تقريباً، مقابل حجم الدّعم الشّعبي، والانقسام العنيف بين أنصارهم وأعدائهم، هو مؤشّرٌ ايجابيّ هنا (تذكّروا ماذا كان المثقفون والإعلام يقولون عن حزب الله في بداياته وكيف كان يوصّف).

خلل السياسة: لماذا لن تحدث ثورة في لبنان؟
أمّا لمن يريد التغيير عبر السياسة، وللناشطين من أبناء الطبقة الوسطى، وللمنظّمات الغربية التي تبحث عن تنشيط تيار «ليبرالي» في بلادنا، فالأمر الوحيد الذي يمكن أن يُقال لهم هو ما قاله ماو تسي تونغ للبرجوازيين الوطنيين في الصين في الثلاثينيات. في أوج صعود الوطنيين، تنبّأ ماو بأنّهم لن يتمكنوا من قيادة تغيير في المجتمع، وهذا له أسبابٌ واضحة، تنطبق بشكلٍ كامل اليوم على النخب العربية ومشاريع التغيير «السائدة»، من لبنان الى العراق الى مصر. مهما كانت نواياكم حسنة فأنتم في النهاية تمثّلون جزءاً من الطبقة الوسطى في بلدٍ كولونيالي متخلّف، قال ماو، ونسبتكم في المجتمع ووزنكم قليل؛ انتم لستم كالبرجوازية الاوروبية في القرن التاسع عشر وليست لكم القدرة على قيادة ثورة أو استبدال التحالف الحاكم. حتى تقودوا التغيير اذاً، انتم تحتاجون لأن يكون عامّة الشعب الى جانبكم، تحتاجون الى غالبية الفقراء والعمال والفلاحين، وهم غالباً بلا تنظيمٍ ولا وعيٍ سياسي. في الوقت ذاته انت، حتّى ينضمّ هذا الفقير اليك، عليك أن تقدّم له شيئاً حقيقياً، أقلّه وعدٌ بأن تتغيّر حياته بشكلٍ ملموس. وهذا يستلزم اجراءات مثل توزيع الثروة أو إعطاء الأراضي للفلاحين أو استرجاع الثروة الوطنيّة، وهذه كلّها لا يمكن أن تحصل ضمن «الطريق الرأسمالي». نخبة الطبقة الوسطى، في الوقت ذاته، مرتبطةٌ برأس المال في الداخل والخارج بشكلٍ لا يسمح لها بتحدّي هذا «الطريق الرأسمالي» وتخيّل مشروعٍ من خارجه.
ايّاك أن تعتبر هنا أنّ بلادنا، لأنّها متخلّفة وريعيّة ومقسمة الى جماعات وطوائف، فهي خارج هذه الحسابات ولا تنطبق عليها «قواعد السّوق» وقوانين الرأسمالية. من ينطلق من فكرة أنّ الرأسماليّة تتحقق فقط في «النموذج المثالي» الذي يكتب عنه الاقتصاديّون الماركسيّون، حيث لا يوجد الّا الفرد وقوّة عمله والسّوق الباردة، فهو لن يجدها في أيّ مكان، لأنه يبحث عن نموذجٍ نظريّ لم يتحقّق في التاريخ. في كلّ مكان في العالم, بما في ذلك أكثر الدول تقدّماً، هناك عناصر «غير رأسمالية»هي في قلب الاقتصاد والمجتمع: عنصريّة بحسب اللون أو الأصل، وعلاقات عائلية، و«واسطة» واحتكارات وريع وفساد. من السهل للرأسمالية أن تعمل عبر الطائفية والريع و«التقاليد»، ولا تتنافر معها. بل كما تقول ليندا مطر وعلي القادري في كتابٍ جديدٍ عن الحرب السورية، فإنّ تفكيك الدّول وتعزيز الانتماءات الفرعيّة وهوياتها أمرٌ يناسب المنظومة الرأسمالية المعولمة، ويسهّل لها العمل بحريّةٍ في بلادنا. حين يتنظّم النّاس على أساسٍ وطني وقوميّ، أو حتى طبقيّ، فإنّهم يسعون في العادة الى حفظ الثروة الوطنيّة وتحقيق سيادةٍ سياسية تدافع عنها؛ أمّا «فدراليات الطوائف» فهي دولٌ لا تمتلك أي مقاومة تجاه الاختراق الخارجي (الدّين العام في لبنان مثال، لو نظرت الى النظام المالي اللبناني من وجهة نظرٍ وطنية وجماعية ومنحازة الى الفقراء، فأنت لن تجد سبباً لكي يستمر هذا النظام يوماً واحداً. ولكن حين ترى المسألة من عين الطائفة وكيانها السياسي وتوازناتها، يصبح احتمال الاصلاح أصعب، وهو ليس في يدك وحدك؛ والتنافس الأساسي هو مع باقي النخب الطائفية، ما يلهيك عن التفكير الجماعي والأفكار الخطيرة).
ولأنّ أكثر من يدعو الى التغيير في مجتمعنا، ولديه قدرٌ من التعليم والعلاقات ووقت الفراغ، يشبه الطبقة الوسطى الصينية التي تحدّث عنها ماو، فإنّ آفاق التغيير تبدو له ضيّقة، ويسهل عليه الانزلاق الى النقاشات الثقافوية وصراع الهويّات أو الحكم بأنّ شعوبنا «ميؤوسٌ منها». السكّان الأصليّون، حين يعانون ويُقهرون ويقاومون، لا يشكّلون دوماً مشهداً جميلاً، ولا ضرورة لأن تصنع رومانسية حول شعبك حتى تلتزم بقضاياه. النّاس أبناء بيئتهم، وسياقنا هو سياقٌ بائس، وشعوبنا فقيرة، مهزومة، لا تملك قدرةً ولا تنظيماً، ومن المستحيل أن تخرج من مكانٍ كهذا سياسةُ «راقية» وأن تشهد حولك «مكارم الأخلاق»، بل سترى البؤس والخسّة والشراسة. الفكرة الأساس من «التحرّر» هي أن تأخذ هؤلاء الناس الى مكانٍ أفضل، والهدف الأصلي للسياسة هو أن تحضّر لواقعٍ مختلف يعيش فيه أهلك، حتّى يخرج منه الانسان الجديد. في وسعك، من ناحيةٍ أخرى، أن تتخلّى عن هؤلاء «السكان الأصليين» وعن قضيتهم، ونحن في دنيا معولمة سائلة، تسمح لك، إن كنت متعلّماً ولديك استعداد، بأن تنسلخ عن «شعبك» وواقعه، وأن ترتبط بنخبةٍ خارجية بسهولةٍ نسبياً (حتّى وانت تعيش داخل بلدك). ولكن، إن فعلت ذلك وقرّرت بأنّ تنجو بنفسك، وعلّلت بأنّ أهلك لا يستحقّون السيادة والقوة والحريّة، فالرجاء الوحيد في هذه المرحلة هو أن لا تتظاهر بأنّك تفعل ما تفعل لأجل صالحهم.