الانتشار الجيو سياسي المثير للشيعة على تخوم سوريا من جهة الشرق، وعلى حدود فلسطين من جهة الجنوب، جعلهم دوماً داخل شبكة التفاعلات الإقليمية، وفي قلب الصراعات الكبرى المحتدمة على قضايا المنطقة الأساسية. لا يمكن لهذه الجماعة المشبَّعَة بأيديولوجيا ثورية اتقاء النزاعات التي تدور رحاها على ضفاف جغرافيتها أو داخل ميادينها بالعزلة أو الاعتزال.
البنية الثقافية المؤسِسة للجماعة الشيعية لا تقبل استراتيجية التنحي والمدار المغلق، حتى لو تقدم مبدأ السيادة على مبدأ الفعالية في ظرف من الظروف. الشيعة يسكنون في أحشاء الآخر وهمومه وتطلعاته بما يجعل فكرة الحياديّة أقرب إلى فعل الخيانة أو هو كذلك. بيد أنّ ذلك لا يعني انخراطاً بريئاً ينفي حدود الوعي بالأهداف والمخاطر، حتى ليبدو الأمر كله كأنّه تهافت ساذج على التضحية بدوافع عاطفية، بل هو يجري وفق رؤية رسالية، استراتيجية، براغماتية، صارمة، من شأنها تحديد نوعية الموقف السياسي والخيار الأمني، اللذين يخضعان للتوسع أو الانكماش على ضوء التهديدات والتطورات التي يُتبصر فيها بطريقة متحركة منهجية. إذ ليس اليوم الالتحام العلني المكشوف في دائرتين صراعيتين، الصراع من أجل تحرير فلسطين، والصراع دفاعاً عن وحدة سوريا وخطها المقاوم، إلا تعبيراً عن حركة الاختلاجات الأخلاقية والسياسية، التي تتفاعل داخل نسيج هذه الجماعة، وما تنطوي عليه من ديناميات مفتوحة تنقلها من القيم وحيثيات الالتزام والتكليف إلى فعل تجسّدها في الأشياء أي ما تستوي عليه موازين القوى.
في الحقيقة فإنّ موقف الجماعة الشيعية في لبنان ممثلة اليوم بركنها الأقوى حزب الله لم يتأت من الخصال المقصورة على مكونات الذات فقط، وخصوصاً أنّ هذه المكونات موجودة لدى الجماعة نفسها في بلاد أخرى، وإنما من عوامل متضافرة سياسية واجتماعية وثقافية غير متوافرة بشروطها الكاملة لدى مثيلاتها. نذكر منها على سبيل المثال: تراجع سيادة الدول، تقدم فكرة الأمن الإنساني على الأمن القومي، تكسر مبدأ شرعية الحدود التي اصطنعها الاستعمار، هشاشة الدولة اللبنانية الطائفية، فشل الدولة القومية، وجود الكيان الإسرائيلي العدواني كعامل تمزيق للبنى الاجتماعية في العالم العربي، الكوزموبوليتانية وتأثيرها على البيئة الثقافية اللبنانية التي تعاني وهن مزمن، سياسات القوى العظمى التدّخلية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي يُنظر إليها كشرطي العالم، وكمتلاعب يجيد تنظيم إمكاناته واحتقار الأنظمة والقوانين في سبيل أهدافه التوسعية. كل ذلك وأكثر، جعل العالم أقل تماسكاً وأكثر هولاً، وجعل المنطقة تسير نحو الهلاك في ظل انعدام البدائل الحمائية والوقائية لتحقيق الأمن والاستقرار. في لبنان لا تدابير تعاونية حقيقية بين الطوائف للجم المخاطر الإسرائيلية والتكفيرية. الطوائف متوجسة من الأوضاع المتفجرة في سوريا، لكن لا تفعل شيئاً مهمّاً سوى جعل الدولة تتوارى أكثر خلف ضعفها وتفككها. فهي تُقدم بكل سذاجة هروبها من مواجهة التحديات على أنّه مصلحة الوطن الأكيدة، فيما تعاود نخبها السياسية إنتاج ما أنتجته من نظريات لا تسمن ولا تغني من جوع، أو بصورة أكثر فجاجة، بناء نظام ليس هو نظام الحماية للبنان وإنما نظام حماية لمصالح الآخر. كان الأمر قديماً أن يبني هؤلاء للبنان علائقه على الضعف، والقوة إذا ما وجدت هي للخارج يستحوذ منها على نصيب أوفى. لا تذمر ولا سخط من مزاج اللامسؤولية ولو انتهى الأمر إلى خطر جلي وحاسم على الكيان برمته. مفارقة هؤلاء هي بالفعل جد غريبة، من دون ما يقوم به حزب الله لا يمكن حفظ الكيان وهم داخله مصونو الامتيازات، ومن دون التقاطع مع أعدائه (حزب الله) لا يمكن الحصول على وظيفة مرموقة في ملعب التنازع الطائفي. إشكالية هؤلاء الحقيقية مع حزب الله ترتبط بحركة الانزياح في مركز ثقل القوة الداخلية بحيث ما عاد لبنان يسعه البقاء على توازناته الماضية، وهذا الأمر لن يخلو من نوازع المضض ومشاعر الخصومة غير النبيلة. والكبار من الفاعلين الدوليين يشدهم الانتباه إلى هذه الجماعة التي رفعتها الأحداث المتراكمة والموقع الجيوسياسي الخطير من عمق الصيغة اللبنانية إلى عمق البيئة الإقليمية. ولأنه ليس هناك، كما يقال، فراغ في التاريخ ولا استراحة للجغرافيا، كانت هذه الجماعة جاهزة لإنجاز بداية تاريخ لطائفة لا تزال حتى الساعة تثير دفقاً من التساؤلات والتحفظات التي تمثل بما لا يقبل المنازعة الشاهد الرئيس على تحلل التوازنات الداخلية، وتهشم الجغرافيات الإقليمية!

* كاتب وأستاذ جامعي