الشيخ جابر مسلماني *لبنان وطن له خصوصيته بمقتضى التركيبة الداخلية لنسيجه المجتمعي، هنا مكمن فرادته ومنبثق رسالته وطناً للتعايش والمحبة والتسامح بكل مكوناته التاريخية الطائفية والمذهبية والإنسانية، ذلك عقده الثقافي الوجودي وعهد هويته التي تشكل ضمانة قيامته واستمراره.

بهذه الصيغة، يمكن لبنانَ الإطلالة على العالم من حوله إقليمياً ودولياً، صيغة نموذجٍ ينبغي للخارج المتداخل معه حمايته والحفاظ عليه وإرساء دعائمه وشدّ أركانه، وصيغته في المحصلة يمكن أن تضاف الى الرصيد الثقافي للعالمين العربي والإسلامي بمقدار ما تشكل أيقونتهما، ومكمن الفرادة الوجودية في سياقيهما.
بعيداً عن التاريخ الدامي الذي عصف بلبنان وعن أسبابه، وفي سياقٍ دموي مأسويٍ آخر قد يكون متصلاً بالإحالة والارتباط العضوي، شكّل الكيان الإسرائيلي المتاخم لحدوده أعظم تهديد وجودي له تراباً وإنساناً وخيراتٍ وثروات، بشكل عام ولرسالته ومواثيقه الحضاريّة وموقعه ودوره ووظيفته بشكل خاص. لم تدركه معظم الأنظمة العربيّة وبعض الداخل اللبناني كما لم يفقهوا أبعاده وتداعياته على لبنان والمنطقة الى لحظتنا القلقة هذه.
إسرائيل شقّت قلب لبنان وصولاً إلى العاصمة، فأثخنت روحه ومزّقت بنية مفاهيمه وأزاحت كرامته عن موقع السيادة ومرّغت سيادته باستفزاز كرامته والتجاوز عليها، وأخذت بتلابيبه على صعيد الوعي والثقافة السياسية وأطوار صياغة القرار فيه ومحدداتها. أسباب كثيرة تقاطعت على التصفيق للاحتلال واعتُبر خلاصاً «مجتمعياً» في حدود، و«وطنياً» في دوائر أخرى وذلك تعبيراً عن عدم إدراك بعض اللبنانيين من البنيتين الاجتماعية والسياسية الخطر الكبير الذي شكله التوغل الإسرائيلي بدباباته في عمق الوطن ... لم يكن الاحتلال يوماً من فصائل الجمعيات الخيرية.
كانت المقاومة، العابرة للمناطق والطوائف، الأكثر إدراكاً بما لا يقاس للمفاعيل المباشرة وغير المباشرة للاحتلال. أما العقل السياسي اللبناني، فقد كان في معزل ذاتياً وتوظيفياً عن وطأة المشهد ومعالمه التي ألقت بظلالها على المديين الوطني والعربي. وكان في طور اللاإدراك، فضلاً عن الحراك، غير قادر على التصور فضلاً عن الفعل. المقاومة حملت على أكتافها عبء الوطن واستجابت لنداءاته المركزيّة، وبتصاعد نضالها وتضحياتها وإصرارها وعزيمتها الصلبة قلبت الموازين وأعادت الوطن إلى موقعه من العنفوان والمجد والتألق رقماً صعباً ومهماً لا يمكن تجاوزه إقليمياً ودولياً في المعادلة الوطنية والعربية.
وهنا يحقّ القول إن طرح فكرة الإجماع على المقاومة لبنانياً كان مجاملة العقد التسعيني من القرن الأخير على سبيل التجاوز ولملمة الصف الوطني وتحشيده حولها وحول المركز الوطني التحتي ونداءات أعماقه. مشى بعض اللبنانيين مع «الإجماع» بعد تشكيك سابقٍ ومعلن، لأن المقاومة غيرت في سياق نضالها التصاعدي من نظراته، والبعض الآخر لاقاه على استحياءٍ، وبقيت بعض التيارات السياسية معلنة للانفصال والطلاق مع سياق المقاومة وفعاليتها ومشروعها إلى لحظتنا هذه، وتشكّل حفلة «الشاي» الذليلة في ثكنة مرجعيون تعبيراً واضحاً عن كل تلك المضمرات والتموضعات السياسية، والأحلام الارتداديّة على الأعقاب الوطنية. في لبنان وحده يمكن الخيانةَ الوطنيّةَ أن تُدرج في مكارم الأخلاق والفضائل، وأن تتحول إلى جسورٍ حيّة وسريعة للتنويب والتوزير والتربع على منصّات الإعلام الوطني والسياسي. هي اتجاهات لم تدرك حتى الآن موقع الجنوب من الوطن ولا موقع المقاومة في الوطن ومجمل الصراع الاستراتيجي المتداخل موضوعياً على مرافقه في حدوده وخارجها، كما أنها خارج اكتناه ومعرفة الأخطار المحيطة بالوطن على الاجتماع الوطني نفسه ومجمل تشكيلاته الثقافيّة والحضاريّة.
ومن خلال ذلك، يتبدى جلياً أن القوى اللبنانية المعلنة للحرب جذرياً على المقاومة، ولكونها مُختصرة جداً في تطلعاتها ومكامن نظراتها، لهي خارج تفكير المقاومة وعقلها البنيوي ومناطق اشتغالها واهتمامها ومناطق قلقها، إنّ هذا القول نابع من هذه الفكرة بالذات وبما هو أوسع بكثير من محددات الصراع اللبناني الداخلي السياسي الضيّق. إن الصراعات الكبرى في المنطقة والتي لا تفسح المجال لكوما العقول وكتف الأيدي وحذف القوة وإلغائها، داهمة إلى درجة أن بإمكان هذه الاتجاهات والسياقات الوافدة نسف هيكل الوطن على رؤوس أهله، وتدمير بناه وتفكيك مفاصله، وفتح الباب مجدداً للعدو الإسرائيلي للدخول إليه والتهامه وكامل المنطقة وفرض شروطه المتقاطعة مع شروط الهيمنة المطلقة لأصدقاء العدو عربياً بالتقاطع على الأقل، ودولياً بطبائع إرادات النفوذ والسيطرة والاستحواذ وليّ الأذرع وتدجين الثقافات واستعباد الشعوب، واستبعادها من دوائر سيادتها على نفسها، والاقتدار على صياغة قرارها.
لقد لحق بالمقاومة ظلم كبيرٌ في الوطن الذي كان من المفترض أن يحتفى بها كأعظم إنجازٍ تاريخي وكإبداعٍ مجتمعي ثقافي حراكي شامل بعيداً عن الحدود والفواصل المصطنعه. وإن أشد المظالم عليها اعتبارها مطيّة خارجية وورقة إقليمية، وسلخها عن بعدها الذاتي الوطني، عن كونها مُنتجاً ثقافياً مجتمعياً ووطنيّاً في أطوارها الذاتيّة، وصيرورتها التراكمية المتعاظمة.
إن الكثير ممن وصم المقاومة بالريعية خارج حدودها، بالرغم من إنجازها الضخم من حصادها لجائزة التحرير التي عجز العرب كلهم عن مجرد مقاربته والوجود على ضفاف ميدانه الصعب، وهو وصمٌ قديم وممتد إلى لحظتنا هذه، هم عتّالو خارج بالمجّان، مرتهنون، لا قول لهم ولا فعل من دون إرادات خارجية عربية ودوليّة، لقد فشل مشروعهم بالكامل وأُحبطت أحلامهم، إن لبنان المعاصر لن يكون من دون بصمة المقاومة على سياقاته السياسيه والوطنيّة.
قد تتقاطع الثورات والنهضات مع اتجاهات ومواقع ثقل خارج حدودها وتلك سنّة أممية في تاريخ الثورات، ولكن لا يعني ذلك اعتبارها معطوفة عليها، لا أعتقد أنّ أحداً يقدم ولده شهيداً كرمى لعيون وإرادة أية دولة في العالم. وشعب المقاومة منجم الشهادة. إن المقاومة التاريخية هذه وليدة ثقافة التضحية من أجل الكرامة ووليدة الشهود على أمةٍ استحوذت عليها الأغلال، وكبّلتها العُقد ومرّغتها مركبات النقص على أرض الأحلام العجاف، تأبدت معها في ثقافة الانحطاط والتسلّخ عن ضرورة احتضان الهويات والمدارس القيمية التي صاغت مجدها، وعنفوانها وصوتها وصورتها في أيامٍ خلت.
لقد أُعطيت المقاومة فضيلة القوّة والتواضع معاً، ليس بمقدورك تصور قوة تتجاوز عن المظلومية التي تلحق بها كل يومٍ، وهي تملك ما تملكه المقاومة كما تفعل المقاومة.
افتراءٌ أثيم القول إن المقاومة لا تتيح لغيرها من القوى فرصة الحضور والتعبير عن رأيها حتى المخالف لها والمتباين معها، ها هي المواقف العابرة للطوائف والمناطق تُتلى آناء الليل على شاشات التلفزه وآناء النهار في الصحف، ليس لها وظيفة أخرى إلا التصويب على أنبل ما في لبنان من إبداعات، وأعظم ما فيه من تضحياتٍ، ربما المقاومة وحدها في لبنان من إذا أعطي القوة جمع إليها وعطف عليها الصبر والغفران.
إن ما يعني المقاومة جداً، وتدركه جيداً وتعمل من أجله كهدف تسقط دونه كل الأهداف وتتضاءل، حماية الوطن وتحصينه من كل الجهات. إسرائيل ما تزال موجودة، والمقاومة تعبير عن حركة الدفاع عنه إلى جانب الجيش الوطني والمجتمع اللبناني النابض.
إن لبنان الرسالة مدعوّ ثقافياً واستراتيجياً الى إدراج إجماعي لثقل المقاومة ودورها في كتاب القراءة الطبيعية لصيغة حماية لبنان بالمقاومة، طالما أن غير ذلك خارج عن إطار الممكنات.
* كاتب لبناني