من مآخذ بعض أصحاب الاختصاص في فرنسا على السياسة التي تنتهجها حكومة بلادهم في سوريا وبلاد الشام، أنها تغفل معطى أساسياً وضرورياً لفهم المجتمعات في هذه البلاد، ولمعرفة ما هي شروط استقرارها وأولويات اضطرابها. إن ما يميّز المجتمع السوري أو الشامي بوجه عام عن غيره، هو قابليته، ظاهرياً، للتجزؤ. ولكن التصاق أجزائه بعضها ببعض ووجود قنوات اتصال وتبادل مفتوحة، بينها أمران لازمان، ليس فقط لضمان استقراره، بل لضمان بقائه أيضاً. عندما نقول إن فلسطين جزء لا يتجزأ من بلاد الشام، فهذه حقيقة تنبّهت لها نخبة من المفكرين في بدايات القرن الماضي، نذكر منهم ميشال شيحا وأنطون سعادة.

يحسن التذكير في هذا السياق أنّ عملاء المستعمرين اعتقلوا وحاكموا وأعدموا هذا الأخير في أقل من ثمان وأربعين ساعة. عندما نقول أيضاً إن لبنان بلد الطوائف والمذاهب، التي لا يمكن فسخ الروابط بينها، من دون أن يؤدي ذلك إلى كارثة لا تعم لبنان وحده، بل بلاد الشام والعراق ومصر أيضاً، فإن ما يجري في الراهن في هذه البلاد يقطع الشك باليقين! بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك والقول إن القرى اللبنانية التي كان سكانها حتى سبعينيات القرن الماضي، من أتباع ديانات مختلفة، ولم تعد كذلك الآن، فقدت علة وجودها وروحها، فصارت لا معنى لها! لقد وجد «الزعران» أن أفضل الوسائل لممارسة نفوذهم على من هم من طائفتهم أو على مذهبهم هي الانفراد بهم بعد تهجير وترهيب بقية أبناء القرية «على الهوية».
ومن ميزات المجتمع السوري (واللبناني ضمناً) أيضاً غياب التجانس بين الناس.
من المرجح أن يكون مرد ذلك إلى ضعف أو تقصير أو طغيان السلطة المركزية، وبالتالي إلى فقدان الثقة بها. هذا ما حال بحسب رأيي دون أن تصير المدرسة الرسمية الركيزة الأساسية للتربية الوطنية.
لا شك في أن الهجرة ساهمت هي أيضاً في خلخلة البنى الاجتماعية، ولا سيّما أن السلطة كانت منشغلة على الدوام بالدفاع عن بقائها في وجه الذين يتأثرون باستهواء القوى الاستعمارية وبالإغراءات التي تثير الشهية إلى الحكم، ما جعلها تركن عادة إلى ضعفاء النفوس وتحذر ذوي المواهب والكفاءات.
مجمل القول إنّ المجتمع يعج بالناس، الذين لم يتخلقوا بأخلاق الأمة والوطنية. والدليل على ذلك ماثل أمامنا، حيث تعكف «القوى الكبرى» على قضايانا.
وكأن شيئاً لم يتغير منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، واقتسام ثروة «الرجل المريض» العثماني، بين القوتين الاستعماريتين آنذاك، فرنسا وإنكلترا على أساس اتفاقية سايكس بيكو (1916) ووعد بلفور (1917). أو بكلام أكثر وضوحاً وصراحة، أن السياسة التي تنتهجها الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، في بلادنا، هي البرهان القاطع على أن هذه الدول استعمارية امبريالية، كما كانت في السابق. فهي لا تعترف بحق الشعوب في تقرير مصيرها. ينبني عليه أنها عنصرية كمثل دولة المستعمرين الإسرائيليين، هذا من
ناحية.
أما من ناحية ثانية، فإن سلوك حكام العرب، منذ أن انقادوا خلف نواطير آبار النفط، إنما يدل على أنهم جاهلون وعديمو التربية والأخلاق.
إذ لا فرق بينهم وبين أسلافهم الذين كانوا يتملقون قادة المستعمرين، هذا يستجدي إمارة وذاك وزارة!
ومهما يكن، فإن ما يقارب القرن من الزمن يفصل بين مؤتمر السلام الذي عقد سنة 1919 في مدينة فرساي الفرنسية ومؤتمر «جنيف 2» الذي بدأت جلساته الأربعاء 22 كانون الثاني 2014 في مدينة مونترو
السويسرية.
رغم طول هذه المدة، لم تتبدل الذهنية العنصرية الإمبريالية لدى قادة الغرب، ولم يتعلم أمراء العرب وحكامهم شيئاً من تجاربهم وهزائمهم. بل إنّ العجب العجاب هو أن التقدم الهائل في وسائل الاتصال، بالإضافة إلى وجود نخبة من المراقبين والمفكرين العرب منتشرين في كل أنحاء العالم، لم يضعا حداً لوقاحة بعض قادة الغرب ولم يلزما نواطير النفط بمراعاة قواعد التهذيب وضرورات الحياء. يظن هؤلاء أنّ الأموال التي جمعوها بطريقة غير شرعية تحلّل لهم ارتكاب الجريمة إشباعاً لغرائزهم. ويعتقد أولئك أنهم الأعلى منزلة في سلّم الأجناس البشرية لأنهم الأقوى عسكرياً.
«كنا قادرين على ضرب سوريا. قليلة هي الدول التي يمكنها أن تظهر هذه السيادة والحرية والقدرة»، القول للرئيس الفرنسي. الذي اعترفت حكومته بجماعة الائتلاف ممثلة شرعية لسوريا. وفي السياق نفسه، منح وزير خارجية آل سعود رئيس جماعة الائتلاف لقب «فخامة الرئيس». بمعنى آخر، يتباهى ويتكبر قادة فرنسا بإظهار قدرتهم على استرجاع مستعمراتهم القديمة. إلى الجحيم، حقوق الإنسان ومبادئ الجمهورية والديموقراطية. يرخص الغالي والنفيس في خدمة الولايات المتحدة الأميركية!
كان مستغرباً أن تتحول إمارة قطر، محجة للرياضيين، بانتظار عام 2022 موعد كأس العالم لكرة القدم، وللمفكرين على شاكلة الفلسطيني عزمي بشارة، ولثوار الربيع العربي من ليبيا إلى مصر فسوريا. والذين لحق بهم حمساويو فلسطين بحجة أن الجهاد في سوريا أفضل من مقاومة المستعمرين الإسرائيليين. نبكي ونتباكي في الراهن على المحاصرين في مخيم اليرموك. لا يهمنا ماذا جرى في سوريا. قالوا إن شعلة الحرية والثورة الديموقراطية العربية خرج بها الأمير من قطر. أين هو الأمير؟! لماذا انتقلت الشعلة إلى أمراء آل سعود؟ ألا يثير الدهشة أن يعيّن أمير من آل سعود بلغ من الكبر عتياً، رئيساً على سوريا في مؤتمر يعقد في مدينة سويسرية؟!
من البديهي أن الائتلاف الذي تبناه الفرنسيون تهافت وما وصل منه إلى سويسرا حطام لا يمثل شيئاً، وأن الرئيس الذي عيّنه الأمير سعود فيصل بن عبد العزيز آل سعود لا يمثل إلا هذا الأخير. أغلب الظن أننا حيال منازعة بين سوريا من جهة ودول الغرب من جهة ثانية، شبيهة بالمنازعة بين إيران ومجموعة خمسة زائد واحد. المشكلة أن آل سعود أرسلوا جهاديي القاعدة إلى سوريا بحجة الدفاع عن المسلمين، هذا من ناحية. أما من ناحية ثانية، فلقد أوكلوا إلى جامعة الدول العربية مهمة استدعاء الحلف الأطلسي لضرب سوريا بحجة الدفاع عن العرب!
* كاتبة لبنانية