أزاحت أزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول ملفات دولية أكثر أهمية وخطورة من صدارة نشرات الأخبار، تطوراتها تجري أمام الكاميرات وتسريباتها تشد الاهتمام الدولي على نحو غير مسبوق. بدت الأزمة ـ بذاتها ـ كأنها اختبار أخلاقي وسياسي لا مفر من الإجابة عليه. لماذا؟هذا سؤال تتداخل في ظلاله قضية حرية الصحافة وما تمثله من قداسة في الخطاب الإنساني المعاصر وحجم الإثارة في القصة نفسها، بما تحتويه من بشاعة في تفاصيلها التي تتكشف يوماً بعد آخر، والعالم يتابع مذهولاً وقدر المصالح الماثلة في مقايضات الكواليس لحصد المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية على حساب أية قيمة إنسانية.
موضوع الاختبار هو مدى الالتزام بالقيم الإنسانية الحديثة وكشف الحقيقة كاملة وعقاب المتورطين في جريمة القنصلية، بغض النظر عن حسابات المصالح. ما يحدث في الكواليس، وبعضه يتسرب، من ضغوطات وصفقات تجعل الاختبار الأخلاقي عسيراً، كما هي العادة في العلاقات الدولية. لماذا حدث ما حدث؟ وكيف؟ وبأي تفكير؟
هذا سؤال ثان معلق في فراغ التسريبات والصفقات والتوظيفات السياسية للحادث يتجاوز ما هو جنائي بشع إلى ما هو سياسي أبشع. لا يوجد مبرر واحد مقنع يفسّر الإقدام على ذلك الاغتيال الوحشي لصحافي لا يملك غير رأيه ولا يصف نفسه بأنه معارض وسجله طويل في العمل بالقرب من صناعة القرار. بتعبير لافت لوزير الطاقة السعودي خالد الفالح فإن «الحادث مقيت ولا يمكن تبريره»، وأنه وضع بلاده في أزمة. ما توصيف الأزمة وحدودها وما قد يترتب عليها من تحولات في بنية الحكم؟ هذا سؤال ثالث حساس ومفتوح على أوسع نطاق دولي الآن.
أسوأ قراءة ممكنة في الأزمة وطبيعتها وتداعياتها حصرها في جانبها الجنائي، فالنظر السياسي أخطر وأفدح. على رغم أهمية ما هو جنائي في إضاءة المشهد العام إلا أن ما هو سياسي له الكلمة الأخيرة في مدى ما تصل إليه القضية وما يترتب عليها من تداعيات تشمل ـ بالضرورة ـ الإقليم بأزماته المشتعلة في سوريا والدور التركي فيها، وفلسطين المحتلة وما تتعرض له من سيناريوات تحملها «صفقة القرن»، واليمن وما يشهده من مآس إنسانية تفوق بشاعتها أية قدرة على الوصف، وإيران واحتمالات تفكك التحالف المقترح لحصارها الذي تتصدره السعودية.
بحسابات المصالح الاستراتيجية لا بالاعتبارات الأخلاقية بدا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان براغماتياً تماماً في إدارة الأزمة. تابع البدايات عبر أجهزته الاستخباراتية، لكنه لم يتدخل لوقف الجريمة أو القبض على فريق الاغتيال قبل أن يغادر مطار إسطنبول في اليوم نفسه (بحسب اتهام معلن لزعيم أكبر حزب تركي معارض، حزب الشعب الجمهوري، كمال كيليتشدار أوغلو). قد يكون من أسبابه ما يلزمه القانون الدولي من إجراءات، أو خشية أن يقع في محظور تهمة التنصت على القنصلية السعودية. وقد يكون من أسبابه أنه وجد أمامه فرصة سانحة للاستثمار السياسي فيما لا يمكن نفيه، أو التهرب من استحقاقاته. تعمد ألا تصدر كلمة رسمية واحدة في الحادث لكنه أفسح المجال أمام إعلامه لكي يسرب المعلومات وأطلع المراكز الدولية المؤثرة وأجهزة استخباراتها بما توافر له من أدلة وقرائن وصور وتسجيلات حتى يدوّل ـ من دون إعلان ـ الأزمة ويحول دون أن تكون تركية ــ سعودية. قبل يومين من خطابه أمام الكتلة البرلمانية لحزبه «العدالة والتنمية» الثلاثاء الماضي، أعلن أنه سوف «يعرّي» كل الحقائق ويكشف كل الأسرار في قضية خاشقجي، لكنه لم يفعل واحتفظ بأوراقه لوقت آخر، يجيء أو لا يجيء. اعتبارات المصالح غلبت نزعته الشعبوية.
ما الذي حدث بالضبط في المسافة الزمنية القصيرة بين «حديث التعرية» و«حديث الدبلوماسية» الذي نفي فيه صلب الرواية السعودية من أن حادث الاغتيال جرى بمشاجرة داخل القنصلية، مؤكداً بلا إسهاب أنه كان مدبّراً، وجرى التجهيز له من دون أن يذكر أية معلومات جديدة، أو يشر إلى أسماء بعينها في أعلى هرم السلطة تورطت في الجريمة وتتحمل مسؤوليتها السياسية؟ باليقين فإن اتصالات الغرف المغلقة ومقايضات الكواليس خصوصاً مع الإدارة الأميركية ومديرة استخباراتها المركزية جينا هاسبل أفضت إلى ذلك الأداء المتحسب لكل حرف. التلميح من بعيد غير الاتهام المباشر.
الأول لا يقطع الطريق على أية مصالح اقتصادية تحتاجها تركيا المأزومة في ليرتها والتي يعاني اقتصادها تبعات عقوبات أميركية، كما قد يساعد الضغط بالتلميح في رفع سقف أية تفاهمات محتملة بين البلدين في ملفي الأزمتين الخليجية والسورية. والثاني موضوع صدام يصعب معرفة حدوده إذا لم يكن واثقاً من المدى الذي تتوقف عنده أية ضغوطات أميركية محتملة. لم تكن مصادفة توقيت إفراج أردوغان عن القس الأميركي أندرو برونسون المحتجز على خلفية اتهامه بالإرهاب ودعم جماعة فتح الله غولن في ذروة أزمة مقتل خاشقجي. وقد كان ذلك سبباً مباشراً للصدام مع البيت الأبيض وفرض عقوبات اقتصادية عليه. كأنه لم يعتبر احتجاز القس الأميركي مسألة كرامة وطنية وأن العقوبات عليه مؤامرة دولية، تخلص من صداع برونسون باحثاً عن الفرص المتاحة أمامه في أزمة خاشقجي. من ناحية عملية أحال جانباً كبيراً من مسؤولية إدارة الأزمة إلى البيت الأبيض من دون أن يفرط بما لديه من أوراق.
في كلمته شبه الباهتة، التي انتظرها العالم من دون أن يجد فيها ما توقعه، طرح أردوغان سلسلة من الأسئلة الجنائية لكن خلفياتها السياسية لا يمكن تغافلها مثل: من أمر بالعملية؟ وأين الجثة؟ وما اسم المتعاون المحلي الذي تكفل بإخفائها؟
بلهجة دبلوماسية طالب العاهل السعودي بتقبّل محاكمة المتهمين في إسطنبول حيث جرت الجريمة، وهو يعرف أن طلبه لن يجاب، وألمح إلى تحقيق دولي شفاف يدخل القضية في مسار آخر، وهذا سيناريو غير مستبعد بالنظر إلى حجم الضغوطات الدولية المتصاعدة، كأنه يُذكر بما يحتفظ به من أوراق. بدرجة أخرى من البراغماتية تشوبها عشوائية ظاهرة بدت الأزمة اختباراً قاسياً على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تصريحاته وتدويناته تناقض بعضها. وصف خطاب أردوغان، الذي بدا مريحاً إلى حد ما للسعودية، بأنه «كان قاسياً جداً عليها». بالجملة نفسها وصف المعالجة السعودية بأنها «أسوأ تستّر على الإطلاق». اضطراب تصريحات ترامب انعكاس لحجم الضغوطات الإعلامية والسياسية عليه خصوصاً من دوائر مؤيديه داخل الكونغرس، التي تدخل في أسبابها خشية خسارة انتخابات التجديد النصفي التي اقتربت مواعيدها.
ترامب كأردوغان لا تعنيه قضية حرية الصحافة، لكن الولايات المتحدة ليست تركيا. تحت ضغط الصحافة جرى بناء موقف إنساني لا يمكن تحديه. هكذا وجد ترامب نفسه أمام معضلة، فهو لا يريد أن يبدو كمن يتستر على جريمة تناثرت في شأنها تسريبات بشعة، كما لا يريد أن يخسر رهانه على استثمارات وصفقات سلاح مع السعودية تصل ـ كما صرح مرة بعد أخرى ـ 450 مليار دولار. أمام معضلته ارتبكت تصريحاته، لكن الخط العام احتفظ بقوامه الرئيسي وهو تطويق الأزمة عند مستوى لا تتجاوزه يجيب على الأسئلة المعلقة بقدر ما هو ممكن من دون أن يقلب قواعد اللعبة.
تحاول السعودية أن تماشي أجواء الأسئلة وأن تؤكد بصيغ متعددة تعهدها بمحاسبة المتورطين «كائناً من كان»، بحسب بيان أخير لمجلس وزرائها. الصياغة ـ بذاتها ـ لافتة لكن إلى أي حد ومتى وكيف؟ في مثل هذه القضايا هناك دائماً أقوال أخرى بقدر ما تتكشف من أسرار وما تتبدى من صفقات.
* كاتب وصحافي مصري