في الأول من أيلول من عام 1920، أعلن الجنرال الفرنسي غورو ولادة لبنان الكبير. ورغم مرور قرن تقريباً، ما زال يشهد لبنان دورة جديدة من الصراع على هويته ودوره وغده. ويخوض حروباً داخلية مستمرة تتخللها هدنات مؤقتة. كذلك يسود حذر مستمر من تجدّد الحرب الأهلية العلنية والصامتة. ويُجاهر البعض بإعلانه نهاية الجمهورية وموت كيان غورو الذي بات اليوم في مهبّ الضم والتقسيم في مشاريع «سايكس ــ بيكو» جديدة. كتب جهاد الزين «أن كثيرين من النخب بدأت تعي موت لبنان الذي تعرفه وتريده» (النهار، 28 كانون الثاني 2014). كل هذا فاقم شعور بعض المسيحيين الذين كانوا يعتبرون أن كيان غورو وُجد لأجلهم فأصبحوا يشعرون بأن دورهم مهمّش، «فأضحوا كمن يتسوَّل» دوراً فقدوه.
لبنان إلى أين؟ باختصار، سأتوقف عند بعض الملامح التي طبعت المرحلة:

1- أزمة هوية ونظام
منذ نشأته، عانى لبنان أزمة هوية ونظام. وما زالت الهوية اللبنانية متشظية بين العروبة الواقعية والخيالية والمصلحية (المرتبطة بدول النفط والبترودولار) بالإضافة إلى الهوية السورية والمشرقية والانعزالية.
سوء إدارة الطبقة السياسية، أدى إلى الانفجارات بسبب تناقضات الهوية وأزمات النظام ومشاكل المنطقة المنعكسة فيه، ما أدى إلى نهاية الجمهورية الأولى وبداية الجمهورية الثانية مع الطائف. لكن استمرار سوء الإدارة والفساد والمحاصصة وترسيخ الطائفية، أوصلت الجمهورية الثانية الآن، إلى أزمة حكومة وحكم ونظام، وقد تصل إلى أزمة كيان.

2-السيادة والتبعية
حتى الآن لا يوجد اتفاق بين اللبنانيين على مفهوم السيادة، ومعظم القوى تابعة لجهات خارجية قريبة أو بعيدة. حدود لبنان الكبير شملت مزارع شبعا والقرى السبع التي تُقدّر مساحتها بـ96 ألف دونم. ترسيم الحدود بين فرنسا وإنكلترا ضمّ قسماً منها إلى فلسطين المحتلة، و«إسرائيل» احتلت الباقي. لكن بعض دعاة السيادة تنكروا لهذه الأجزاء اللبنانية حتى لا ينخرطوا في المطالبة بتحريرها بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. فالسيادة ما زالت سيادة الطوائف والإقطاع السياسي، والتبعية هي استقواء بالخارج على حساب السيادة الوطنية والاستقلال.

3- الدولة الفاشلة
بعد 98 سنة على إعلان لبنان الكبير نشهد الآن انهيار مقومات الدولة وتحوّل لبنان إلى ساحة فتنة وصراع وتصادم مشاريع إقليمية - دولية، ما أدى إلى فوضى دستورية تكرّس فشل الدولة اللبنانية بتوفير الأمن والأمان للمواطنين.
«لبنان دولة فاشلة» بالمرتبة 18 من أصل 60 دولة، أي ضمن الدول ذات «الوضع الحرج» حسب تصنيف قدّمته دراسة عن «الدول الفاشلة»، نشرتها دورية «فورين بوليسي» منذ فترة، وربما الآن وصل إلى مرتبة أسوأ.
قبل إعلان «دولة لبنان الكبير» وبعده، حفل التاريخ بالأحداث التي أثبتت أن لبنان غير قابل لأن يحكم نفسه بنفسه. في كل فترة تُولد أزمة جديدة بين اللبنانيين (مقرونة بارتباطات خارجية)، تنتهي باتفاق و«تبويس شوارب».
هذه الاتفاقات لم تكن يوماً «لبنانية صرفة»، بل كانت دائماً نتاج خلطة دولية ببهارات كلامية معسولة حول «الوحدة الوطنية» و«العيش المشترك» و«إلغاء الطائفية السياسية»، ما يضع لبنان دائماً أمام أزمة وجودية وخوف على الكيان. هل نحن في مناسبة لإعلان موت لبنان-غورو أم مبادرة لتجديد دور لبنان ومعناه؟

من التحديات التي تواجه كيان لبنان الكبير:
1- أطماع «إسرائيل» التوسعية وطبيعتها العنصرية تهدد وجود لبنان التعددي الديمقراطي.
2- القلق من حالة الجوار الجغرافي، خاصة في المشرق الذي يشهد تحولات مصيرية تنعكس على لبنان سلباً وإيجاباً.
3- الخطر من انهيار الدولة الفاشلة وتفكك المجتمع وانتشار عدوانية الفرد.
4- تنامي الحركات التكفيرية الإرهابية التي تسعى إلى إلغاء الآخر المسيحي والإسلامي الذي لا يشاركها الرأي والتفسير.
5- ما زال لبنان في حالة مواجهة بين هويات متنازعة من انعزالية ومشرقية وعروبية قد تغير الكيان من لبنان الملجأ، إلى لبنان المنارة أو الرصيف للهجرة أو الساحة لحروب أهلية تهدد وجوده.
6- الخطر من انزلاق بعض الفئات إلى منطق انعزالي تقسيمي يرتكز على وهْم قيام دويلة أو كانتون يتوافق مع مشاريع تفكيك المنطقة ضمن مشروع أميركي - صهيوني للشرق الأوسط الجديد، قائم على أساس دويلات طائفية، الغرض منه استغلال أزمات الأنظمة وخوف الأقليات من جهة، وتبرير قيام «إسرائيل» دولةً يهودية من جهة أخرى، وذلك من أجل حفظ أمنها على حساب الآخرين. هذا المنطق سبق أن أدى إلى انقسام المسيحيين في ما بينهم وإلى تشرذمهم.
كيف نواجه هذه التحديات التي تهدد وجود لبنان الكبير؟
اللبنانيون اليوم مدعوون إلى تقديم نموذج جديد عبر بناء دولة مدنية ديموقراطية مقاومة لكل ظلم وهيمنة واحتلال، دولة حرة مستقلة ومنارة في المشرق العربي.
هل اللبنانيون قادرون على تجديد دورهم الحضاري بإطلاق نهضة جديدة في إطار إعادة صياغة علاقات التعاون في مشرقهم، وذلك على أساس الاعتراف بحق الاختلاف والموالفة بين البعدين المادي والروحي من خلال بناء إنسان جديد يمتلك العلم والحرية والأخلاق معاً؟
تجسيد هذه القواعد يكون بعقد مؤتمر وطني شعبي يؤسس لنظام جديد للبنان ويقيم جمهورية ثالثة قادرة على صياغة مفهوم لهوية وطنية جامعة، ودولة واحدة وعادلة تضع حداً لمسار التبعية والطائفية وتُجدد معنى لبنان ورسالته، هدفها الإنسان أولاً.
مع اقتراب مئوية إعلان غورو دولة لبنان الكبير، هل يمكننا لبننة هذه المناسبة التي صنعها الفرنسي حتى نستفيد منها من أجل إطلاق مبادرة تأسيسية، لإبداع صيغة جديدة لمعنى لبنان ودوره الرائد كنطاق ضمان للفكر الحر قبل أن يدخل لبنان الكبير في خريف العمر.
فهل نقبل التحدي ونُشكّل طليعة ونخبة معاكسة لبحث تطلعات لبنان عبر لقاءات وندوات ومؤتمرات علّنا نحتفل معاً في عام 2020 بولادة لبنان الجديد؟