كان جمال عبد الناصر في الستينيات يسخر من مظاهر ما سمّاه «نوبة الدين» عند الملك حسين الأردني. الملك الذي لم يُعرف عنه تُقى أو ورع قرّر في مواجهة اشتراكيّة عبد الناصر، ولضرورات خدمة المصالح الأميركيّة في المنطقة العربيّة، أن يبرز في «شعار الواعظين»، على حدّ قول أحمد شوقي. كانت الولايات المتحدة تعسكر حلفائها من الأنظمة الرجعيّة في أحلاف دينيّة إسلاميّة (رجعيّة طبعاً) لمواجهة الشيوعيّة والاشتراكيّة وفكر التنوير بصورة عامّة.
وكان طريفاً يومها أن يكون أمراء آل سعود والملك حسين _ الذين تعرفهم ملاهي ومواخير الغرب أكثر مما تعرفهم زوايا وتكايا العالم العربي _ في رأس حربة الدعوة الدينيّة وضخّ فضيلة الزهد والإرشاد. لكن أميركا تقرّر، وهم ينفّذون، كما جمعتهم أميركا بعد غزو العراق في حلف طائفي من أجل تقويض دعائم تأييد النظام الإيراني لمقاومة العدوّ الإسرائيلي. رضخوا كما يرضخون دوماً (تقول مقالة ديفيد رمنيك الطويلة في مجلّة «نيويوركر» هذا الأسبوع إنّ «أعضاء فريق أوباما يرون أن زعماء إسرائيل ومصر والأردن ودول الخليج متحالفون أكثر من أي وقت مضى»).
لكن هناك بوادر ظواهر ارتفاع وتيرة الدين في كل العالم العربي. لم يكن الإسلام نائماً كي يستفيق (أو كي «يعود» كما عنوَن المُستشرق الخبيث برنارد لويس لمقالة شهيرة له في مجلّة «كومنتري» في عام 1976)، ولم يكن الإسلام بعيداً كي يقترب. والذي نشأ في جيلي في جو إسلامي لم يكن يرى علائم خفوت الدين أو حتى اضطراد العلمانيّة (بالمعنى الاجتماعي الذي أراده ماكس فيبر، من حيث حصر الدين في بوتقته وعدم تسرّبه إلى جوانب حياتيّة أخرى)، لكن الدين كان أقلّ صياحاً وشيوعاً وصراخاً وإعلاناً وجَهْوَرة ونفاقاً وتزمّتاً. تسأل مثلاً عن زبيبة الصلاة الشائعة هذه الأيّام على جباه المؤمنين والساسة. كيف اتفق أنها ظهرت فجأة في الثمانينيات وما بعد؟ أين كانت زبيبة الصلاة عدا في جبهة الرئيس «المؤمن محمد أنور السادات» _ كان السادات يُسقط إسم محمد من إسمه الرسمي في الاستعمال الغربي ربما خشية إقلاق راحتهم _ وجبهة ميخائيل غورباتشوف أيضاً؟ كانت الناس تصلّي لكن من دون هذا الشيوع للزبيبة (وحجم الزبيبة يتعاظم إلى درجة أننا نحتاج إلى فاكهة أكبر حجماً من الزبيبة للتشبيه، مثل الإجاصة أو حتى البطيخة عند بعض متزمّتي السلفيّة). تتساءل: هل بات المؤمنون يطرقون الأرض بجباههم عن قصد من أجل وضع خاتم رسمي مُعلن لإيمانهم وورعهم؟ أم أن هناك أداة ضرب معدنيّة تفي بالغرض، خصوصاً عند الضرورات الانتخابيّة؟
لم يكن الدين بعيداً عن بيروت أو الجنوب (مناطق الأهل التي عرفتها في سنوات الطفولة والحداثة)، لكن كانت الممارسة الدينيّة أكثر تسامحاً وأقلّ تزمّتاً. كانت الناس تصوم وتصلّي لكن كان هناك قبول لتعاطي الخمر وحتى لمخالفة أحكام الدين في الطعام أيضاً. لم تكن سندويشات الـ«جمبون» محرّمة في المناطق الإسلاميّة وكان تعاطي الخمر مقبولاً في العائلات الإسلاميّة. طبعاً، ليس تعاطي الخمر وأكل الـ«جمبون» من ضرورات الحداثة والتقدّم والرقيّ، كما يتخيّل بعض مقلّدي المسيحيّة في لبنان من أبناء الطوائف الإسلاميّة الذين تشرّبوا احتقار الدين الإسلامي مع الحليب _ وهذا الفريق من المسلمين كان دوماً في صف أحزاب اليمين وقد انضم عدد منهم إلى حزب الكتائب اللبنانيّة، قبل أن ينخرط الكثير منهم في صفوف «ثورة (حرّاس) الأرز». لكن كان هناك تراخٍ في مسألة تطبيق الشريعة، مع أن التزاوج بين الأديان والطوائف لم يكن شائعاًً (أقلّ من 18% من الزيجات). لكن شيئاً ما حدث في العالم العربي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات عندما تحدّث الجميع عن «هبّة الدين» أو عن «ريح الشرق»، على حدّ قول أنور عبد الملك (وعنوان الكتاب كان يثير عندنا في أوساط اليسار الكثير من النكات غير المُهذّبة آنذاك).
لكن الدين كان في حالة من الارتداد والدفاع عن النفس. صحيح أنّ جمال عبد الناصر (رمز تلك المرحلة، شاءت أبواق آل سعود ذلك أم لم تشأ) كان متديّناً وكان يقيم الشعائر وكان يصلّي مرتدياً جوارب لم تكن تتناسق على ما كانت الناس تلاحظ. وهو لم يشرب الخمر ويصوم وكان يحجّ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. لكن عبد الناصر نجح في التمييز بين نوعين من التديّن: التديّن الشعبي الفطري الذي ينشأ عليه معظم المسلمين والمسلمات، والتديّن الرجعي المُتزمّت الذي يستعدي المرأة والفقراء، والذي تروّج له لأسباب سياسيّة حركة الإخوان المسلمين وحلفاء أميركا في أنظمة الخليج والأردن والمغرب. نجح عبد الناصر في السخرية من دور رجل الدين الرجعي الذي يمالئ الاستعمار والسلطات الرجعيّة المُتنفّذة. وكانت الأفلام المصريّة في العهد الناصري (كم كان الفنّ آنذاك متفوّقاً على «فن» حقبة كامب ديفيد) تسخر باستمرار من دور رجل الدين _ أو المأذون _ الذي ينتظر انتهاء عقد الزواج على أحرّ من الجمر من أجل الحصول على البقشيش. لم تحط شخصيّة رجل الدين هالة من التدقيس آنذاك. كان ذلك قبل عهد الديماغوجي التلفزيوني الشيخ الشعراوي، الذي كان دوره من ضرورات التحضير للسلام مع العدوّ الإسرائيلي.
إذا لم يكن الإسلام غائباً فيكف عاد؟ إن الجواب عن هذا السؤال يتعلّق بالطبيعة المُتغيّرة للثقافة الشعبيّة في العالم العربي في القرن العشرين. أسقط العالِم مارشل هدجسون في كتابه الموسوعي: «مشروع الإسلام» بأجزائه الثلاثة مصطلح «الإسلاموي» ليشير إلى المُتغيّرات في الثقافة السائدة في العالم الإسلامي. أراد هدجسون أن يدحض فكرة ما سمّاه مكسيم رودنسون بـ«ثيولوجو سنتريزم» (في كتابه «الافتنان بالإسلام»، والذي تضمّن ردّاً على كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق)، أي النزوع الغربي الكسول لنسب كل ما هناك من ظواهر في العالم الإسلامي إلى الدين أو العقيدة الدينيّة. لاحظ هدجسون بديهيّة أن هناك جوانب من الحياة عند المسلمين لا يمكن أن تُعزى إلى الإسلام. لكن هدجسون رأى أن التغيير في الثقافة السائدة أو انحسار دور الإسلام عن جوانب معيّنة يعود كلّه إلى تأثير الاستعمار الغربي، وكأن المُستعَمر لا يحيد عن درب الدين القويم أو غير القويم من تلقاء نفسه.
لكن الدين تعرّض لحروب من عقائد نبتت وبرزت في أوساط المسلمين والمسيحيّين على حدّ سواء. سألت مرّة محمد حسين فضل الله في الثمانينيات إذا كان قد قرأ بعضاً من التراث الماركسي. أجابني، وهو الذي نشأ في النجف حيث كان والده يعلّم هناك، أن الكل في الحوزات العلميّة كانوا يضطرّون للاطلاع على بعض من الكتابات الماركسيّة من أجل مناقشة الشيوعيّين الذين كانوا في أوج شعبيّتهم. وكان الحزب الشيوعي في بداياته في العراق (خلافاً للحزب الشيوعي في لبنان وسوريا الذي لم يكن يوماً ثوريّاً أو جسوراً أو تصادميّاً خصوصاً إزاء المراجع الدينيّة أو في نشر فكر الماديّة التاريخيّة) يجاهر بالإلحاد مع أنه عاد وخفّف من جرعة المجاهرة. ولم ينج رجال الدين أنفسهم من انتشار الشيوعيّة في النصف الأوّل من القرن العشرين: فقد أوردت جريدة «المقطّم» في ربيع 1925 أن «الحكومة (المصريّة) قبضت على سبعة عشر شيوعيّاً في القاهرة والإسكندريّة وفتشت منازلهم وصادرت جميع الأوراق التي وجدتها. وبين المقبوض عليهم... الشيخ شاكر عبد الحليم من مشايخ الأزهر. وتقول «المقطّم» إن المقبوض عليهم قد صرّحوا بأنهم شيوعيّون وأنهم عاملون على بثّ الدعوة الشيوعيّة في مصر لأنها من الأركان القويّة التي تقوم عليها سعادة الجمعيّة البشريّة» (أنظر جريدة «الإنسانيّة»، العدد 4 السنة الأولى، 7 أيار 1925).
والهبّة أو الفورة الدينيّة ظهرت أوّل ما ظهرت على القادة العرب، قبل غيرهم من العامّة. فجأة حوّل أنور السادات إسمه (الذي عرفناه على مرّ السنوات في الحقبة الناصريّة) إلى «الرئيس المؤمن، محمد أنور السادات». الملك فهد أضاف لقباً آخر على منصبه الموروث من الاستعمار البريطاني: أصبح بسحر ساحر: «خادم الحرمين الشريفيْن» (بالإضافة إلى خدمة القواعد العسكريّة حول العالم، طبعاً). الملك المغربي، الحسن الثاني، أصبح فجأة مسؤولاً عن «لجنة القدس» فيما كان يستضيف في قصره قادة العدوّ الإسرائيلي لتسهيل التنازلات العربيّة في القدس وفي غيرها من الأراضي المحتلّة. كما أن هذا الملك فرض ضريبة لم يُستشر شعبه فيها لتشييد أعلى مئذنة في العالم _ أو هكذا قال. قادة البعث في سوريا والعراق أصيبوا هم أيضاً بـ«نوبة الدين» ونسوا المقالة شبه الجاهليّة في علمانيّتها لميشال عفلق عن مولد الرسول العربي (من الأربعينيات ومن منبر جامعة دمشق). وكبر منصب المفتي في سوريا، كما أن صدّام بات يواظب على الصلاة (التلفزيونيّة طبعاً حتى وإن كان مُنتعلاً) مع أن أحاديثه في كتاب فؤاد مطر عنه (وقد صدر في السبعينيات) نمّت عن عقليّة علمانيّة لا مكان للدين فيها. علمانيّة البعث ماتت في أوائل الثمانينيات، واضطر ميشال عفلق لمجاراة الجوّ الحزبي العام حوله عندما اعتنق الإسلام، أو هكذا قيل لنا بعد وفاته. الملك حسين كان يوفّق بين حياة لا دين فيها في الغرب، وبين حياة تلفزيونيّة ملؤهها التُقى والورع _ مُوجّهة إلى الجمهور الأردني. جعفر النميري الذي كان يقود تجربة اشتراكيّة في السودان أصيب هو الآخر بنوبة الدين. هذه الحقبة شهدت منافسة قاسية بين القادة العرب لبناء الجوامع (وكأن ليس هناك إلا دين واحد في العالم العربي) ونشر الدعوة، كأن الدين بُعث من جديد. الملك السعودي بدأ بالحديث عن فتح أبواب الجهاد، لكنه كان يقصد مدّ العون لبن لادن وإخوانه (ورعاته الأميركيّين) في أفغانستان، فقط لأن الجهاد عند السلفيّين لا ينطبق على الصراع مع العدوّ الإسرائيلي. السادات أطلق شعار «العلم والإيمان». أما الحج والعمرة فأصبحت طقوساً تلفزيونيّة للقادة العرب بصورة دوريّة.
لكن هذا لا يعني أن الدين شاع أو تفجّر _ بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة _ عند القادة وبقيت الشعوب في منأى عنه. لكن هناك ضرورة لوضع دراسات عن الأسباب غير الدينيّة لـ«عودة» الدين إلى العالم العربي. بمعنى آخر، إن هناك أسباباً سياسيّة واقتصاديّة وحتى عسكريّة لصعود عامل الدين عند العامّة في العالم العربي. وهذا الصعود لم يكن عفويّاً أو فطريّاً أو تلقائيّاً: لم يزدهر موسم الحلّ الإسلامي إلا بعد إنفاق المليارات على الترويج للحلول الإسلاميّة كي تحلّ مكان الحلول غير الإسلاميّة بعد خيبة الجماهير منها. والحديث عن «الزي الإسلامي» و«الطبخ الإسلامي» و«الرياضة الإسلاميّة» و«الفن الإسلامي» أتى كانتفاضة على التدرّج العلماني في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة. هناك مواقع حنين مصريّة وأفغانيّة وإيرانيّة (في مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً) تدلّل على تقدّم العلمانيّة في تلك البلدان في الستينيات، خصوصاً بالنسبة إلى وضع المرأة (طبعاً، لا يجوز هنا الخلط بين تلك البلدان لأن ظروفها كانت مختلفة، لكن عبد الناصر والشيوعيّة الأفغانيّة فرضا مستوى من تقدّم وضع المرأة لم تعرفها مجتمعات أخرى. أما الوضع في الحكم الشاهنشاهي الرجعي فكان مختلفاً لأن الطاغية كان يسترشد بالاستعمار وبعقليّة رجعيّة عن المرأة من مخلّفات القرون الوسطى).
إن صعود الحل الإسلامي أو الدين بحدّ ذاته هو في جانب منه جزء من الصراع الأميركي الأيديولوجي ضد الشيوعيّة في الحرب الباردة. فرضت الحكومة الأميركيّة على الأنظمة الرجعيّة العربيّة (لم يُكتب بعد تاريخ «الحرب الثقافيّة خلال الحرب الباردة في العالم العربي»، ولم تفرج الولايات المتحدة عن وثائق تلك الحقبة بعد لأن السلالات الحاكمة التي تحرص على خلودها هي هي) نشر وبث عقيدة دينيّة محافظة في مواجهة الفكر التنويري الاشتراكي التحرّري الذي كان سائداً. أنفقت دول الخليج المليارات لنشر الكتب والمجلات والصحف التي روجّت لفكرها الديني الرجعي. وبوفاة جمال عبد الناصر (لا تنفك صحف أمراء آل سعود عن تطمين نفسها أن عبد الناصر مات، حقاً مات) خلت الساحة العربيّة لثقافة النفط والغاز الدينيّة.
لكن هناك أسباباً أخرى ذاتيّة لسقوط الفكر المُواجه للفكر الديني. تحوّلت الأنظمة العلمانيّة (والاصطلاح هذا الذي يعني حياد الدولة في مسألة الإيمان أو عدمه، بالاضافة إلى الحياد البديهي نحو الأديان، وهذا لم يكن متوافراً في العالم العربي) إلى نماذج تسلّط لم تجذب إليها تأييداً. كما أن هزيمة 1967 قضت على آخر ما تبقّى من تصديق شعبي لوعود تلك الأنظمة بالنصر ضد العدوّ الإسرائيلي. في هذا السياق بالذات، أتى دور أنور السادات (مع حليفه الوثيق في مملكة القهر السعوديّة)، وبالنيابة عن المشروع الأميركي للمنطقة العربيّة، من أجل تقويض الفكر التقدّمي التنويري في كل العالم العربي. هنا بدأ دور رجال الدين الذين كانوا مهمّشين لعقود طويلة، وخصوصاً أن فكرهم المحافظ اهتمّ بزي المرأة والتحذير من الخطر العميم للعورات أكثر بكثير من توزيع الثروة ومقارعة الاستعمار وتحرير فلسطين. لكن السادات كان فعّالاً جداً (من دون أن نلاحظ في حينه) في تعبئة الجمهور المصري (وحتى العربي) وراء شعارات الدين والتديّن (الرجعي المُتزمّت طبعاً). لم يمت اليسار في العالم العربي ميتة طبيعيّة: أطلقت أميركا وحلفائها العرب الرصاص الغزير عليه أكثر من مرّة، كما أن الاتحاد السوفياتي تحفّظ في الدفاع عن حلفائه وأولَى مصلحة تحالفاته مع الأنظمة العربيّة على مصلحة العقيدة الشيوعيّة.
لكن هناك عوامل أخرى: صحيح أن دول النفط أنفقت المليارات للتأثير على هوى الشباب والشيوخ في المنطقة، وصحيح أيضاً أن خسارة 1967، التي لا تعوّض، دفعت بالكثيرين إلى وضع الآمال الكبار في «حل إسلامي» غير محدّد المعالم، (لكن الحلّ الإسلامي بالنسبة للجهاد في فلسطين توضّح بعد وصول الإخوان إلى الحكم، وتبيّن أن الجهاد _ ضد العدوّ الإسرائيلي _ ما هو إلا سلام ووئام وغرام بالاضافة إلى اعتناق كل اتفاقات السلام مع العدوّ)، لكن الخيبة من شعارات القوميّة العربيّة والاشتراكيّة (في أنساقها العربيّة) تعممّت. ظنّ كثيرون أن دخول معادلة الإسلام على ساحة المعركة ستعيد إحياء زهو انتصارات بدر، وأن الدين يحقّق جنات عدن على الأرض.
لكن الثورة الإسلاميّة في إيران عزّزت الدين هي أيضاً بطريقتين: الطريقة المباشرة عبر الإنفاق على أحزاب دينيّة للترويج لمشروع الجمهوريّة الإسلاميّة، والطريقة غير المباشرة التي تولّدت من السباق بين مملكة القهر السعوديّة (وحليفاتها في المنطقة) للتنافس في الاستيلاء على الدين، مع الحكم الإيراني. أي أن الصراع بين المنظومتين أنتج المزيد من الدين ومن الحركات الدينيّة.
ليس الإسلام هو الحلّ، كما أن إلغاء الإسلام لا يشكّل حلاً. لم يقدّم العلمانيّون العرب حلاً بعد، والعلمانيّة _ مثلها مثل الديموقراطيّة _ لا تقدّم حلولاً لمشاكل الفقر والاستعمار والغزوات الإسرائيليّة والأميركيّة. لكن عامل الدين والتديّن، ليس عنصراً دائماً ومطلقاً في الثقافة السياسيّة. هو عامل ظرفي، أو عامل مُتغيّر، يخضع لتأثيرات التغيير من حوله. ومشاهد النساء الحاسرات في جامعات القاهرة أو كابول في الستينيات قد يعود، من دون أن تعني العودة نصراً مظفّراً في كل المجالات. لكن هذا الهوس الديني يسود في العالم العربي، حيث تؤدّي إهانة (صحيحة أو مفتعلة) لرمز ديني أو لمزار إلى ردّات فعل شعبيّة تفوق الردّ على استمرار احتلال أرض فلسطين. لماذا يكون حريق المسجد الأقصى أدهى وأخطر من قتل الشعب الفلسطيني المُستمر، على أهميّة كل ما تحتويه أرض فلسطين من أبنية دينيّة وغير دينيّة؟
إن الهوس من الخطر الديني هو مثل الهوس من الخطر الشيوعي، يعزل كل القضايا المُلحّة، أو يؤجّل حلّها. إن الترويج المهووس بضرورة الحلّ الإسلامي فقد بريقه في وقت قصير بعد انطلاق الانتفاضات العربيّة. لم تعِ الجماهير العربيّة أن الحل الإسلامي غير جذّاب. هي وعت أن لا حلّ أسلامياً على الإطلاق. الحلول _ على الأقل في هذا الكوكب _ غير دينيّة، مع أن الدين يصلح كي يشوّش رؤية مَن يبحث عن الحلول، خصوصاً من قبل مطابخ السلالات العربيّة الحاكمة.
* كاتب عربي