لم تعد سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاقتصادية خلط الأوراق على صعيد أنماط التبادل التجاري القائمة فحسب، بل أفضت أيضاً إلى مزيد من الاستقطاب بين الشمال والجنوب، على الرغم من خروج هذا المصطلح جزئياً من التداول بعد دخول الصين بقوة نادي الدول الرأسمالية. الاستقطاب لم ينشأ بفعل سياسات الحماية التجارية وفرض الرسوم الجمركية وحدها، بل بفضل اقترانها بسياسة العقوبات، حيث تنشأ بسبب هذه الأخيرة وحدة عضوية في المصالح بين دول الغرب، ويجري التعامل لاحقاً مع الدول الناشئة وفقاً لاستجابتها من عدمها لهذه المصالح. ارتباط منشأ العقوبات السياسي بأثرها الاقتصادي هو الذي يسمح بتكريس تبعية هذه الدول للغرب، على اعتبار أن لا تبعية سياسية ممكنة خارج سياق التبعية الاقتصادية في إطار العولمة القائمة.
أثر العقوبات قبل ترامب
سياسة العقوبات لم تأت مع ترامب، لكنها أخذت زخماً إضافياً بعد مجيئه، ليس فقط بسبب تمحورها حول النيل من دول مثل إيران وروسيا، بل لأنها اقترنت بمقاربة مختلفة للعولمة وطريقة هيمنة الولايات المتحدة اقتصادياً على العالم. قبل ذلك، كانت العقوبات تفرض على هذه الدول بسبب سياساتها المناهضة للولايات المتحدة والتوسع العسكري الغربي، لكن تأثيرها على الاقتصاد كان قليلاً، ليس بسبب محدودية أثرها فقط بل لأن السياق الذي أتت فيه لم يكن يفرض على دولة مثل روسيا إعادة التفكير في طريقة اندماجها في الاقتصاد العالمي. معظم هذه الحكومات تخلّت عن الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن دور الدولة فيها بقي أساسياً، فلم تتأثر كثيراً بسياسة العقوبات نظراً إلى قدرة الدولة على التحكم بحركة الرساميل. لكن في المقابل، وبسبب طابع العقوبات السياسي، لم تفكر في الحدّ من أثر التبعية الاقتصادية للولايات المتحدة، فظلت تحتكم إلى الدولار في تبادلاتها التجارية، ولم تسعَ حتى إلى إيجاد فضاء إقليمي يكون بمثابة تنويع لمسارات التنمية بدلاً من حصرها في التبادل مع الغرب فحسب. حتى عندما نشأت فضاءات إقليمية بديلة على أثر تشديد الغرب سياسته تجاه روسيا بعد أزمتَي جورجيا وأوكرانيا ــــ مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ــــ لم يكن على رأس أولوياتها إيجاد بديل من الاندماج الكامل في السوق الدولية، وهو ما تكرر أيضاً وبالطريقة نفسها مع اقتراح الصين مشروعها الاقتصادي العملاق: حزام واحد ــــ طريق واحد.

تأثير عامل الحمائية
الرغبة في تنويع مسارات التنمية لم تترافق في أيّ من هذه المشاريع مع اقتراحات واضحة للحد من الاعتماد على أسواق المال الدولية التي يديرها الغرب، أو يحتفظ باليد الطولى للوصول إليها. ولم يحصل تغيير يذكر على هذا المسار إلا حين أتى ترامب بسياسة لإدارة العولمة بطريقة مختلفة. عدم القدرة على الاستفادة من ثمار العولمة كما يجب، بسبب القيود التي فرضها الرئيس الأميركي على التجارة الدولية، أجبر الدول الناشئة على جعل مشاريعها الإقليمية البديلة متناسبة مع هذا التطور، بحيث لا يكون الدولار هو العملة الرئيسة في التبادلات التجارية، كما كانت عليه الحال سابقاً. حتى الدول التي لم تتأثر بسياسة العقوبات بسبب حجم اقتصادها الكبير وإمكانية وصولها إلى معظم أسواق العالم ــــ مثل الصين ــــ أصبحت بفضل سياسات ترامب مقتنعة بأولوية الاعتماد على العملات المحلية في التبادل مع الدول التي تتشارك وإياها فضاءات إقليمية معينة.
يحدث تقارب روسي ــــ صيني مع الاتحاد الأوروبي جراء سياسات ترامب الحمائية


ترامب تسبب في فوضى حقيقية للتجارة الدولية، وبفضل هذه الفوضى انكفأت العولمة قليلاً، وتبيّن للدول النامية التي كانت قد انخرطت فيها في التسعينيات عبر أطر مثل منظمة التجارة الدولية وسواها أن هذا الانخراط سيصبح إقليمياً أكثر فأكثر، وخصوصاً مع ميل ترامب إلى إبرام معاهدات إقليمية ثنائية على حساب المعاهدات الدولية المتعددة الأطراف. في هذه المرحلة، بدأ يحدث تقارب روسي ــــ صيني مع الاتحاد الأوروبي على خلفية الموقف المشترك من سياسات ترامب الحمائية، لكنه لم يتطور إلى حد التنسيق مع أوروبا على مجابهة هذه السياسة. صحيح أن الاستفادة المشتركة من العولمة تجمع الأطراف الثلاثة، لكن السياسة غالباً ما تفرّقها، فضلاً عن كونها لا تشكل معاً فضاءً إقليمياً مشتركاً يمكن الاستفادة منه على صعيد التبادل التجاري. التقاطع بهذا المعنى لا يتيح إمكانيةً لنشوء تكتل تجاري لحماية العولمة والتجارة الحرة من آثار الحمائية التي يتبعها ترامب. ومع تصعيد سياسة العقوبات تجاه روسيا وعدم إمكانية التفريق بينها وبين الصين سياسياً، يصبح من الصعب التعويل على مضيّ هذا التقاطع في المصالح قدماً.

إشكالية دور الصين
الاستغناء عن الدولار في التبادلات التجارية بين الدول الناشئة قد يساعد على تحقيق تنمية غير مرتبطة بالغرب أو غير معتمدة على أسواقه، لكنه يتناقض مع رغبة هذه الدول نفسها في حماية التجارة الحرة من آثار الحمائية التي يقودها ترامب. تأثير العقوبات السياسية والاقتصادية على اقتصاداتها سيصبح أقل مع فك الارتباط مع العملة الأميركية، لكن الارتباط بمنظومة التجارة الدولية سيتزايد مع رغبة الصين وألمانيا في الحلول محل الولايات المتحدة في قيادة العولمة. تراجع الولايات المتحدة عن القيادة أو تآكل هيمنتها الاقتصادية على العالم لا يعني حدوث تغيير أساسي في نمط التراكم الرأسمالي، وإنما تعديل الوجهة بحيث لا تكون القيادة فقط لها، بل تصبح مشتركة أو لا تكون لها الإمكانية أو القدرة على تحديد المسار الرئيسي لعملية التراكم. في الحالتين، ليس ثمّة بديل بالمعنى الفعلي، بل انتقال التراكم شرقاً (وليس جنوباً)، وبالتالي تركز الأسواق وحركة الرساميل في منطقة لا تستطيع الولايات المتحدة الاستحواذ عليها وحدها.
لا تحضر دول الجنوب أو الدول الناشئة التي فرِضت عليها عقوبات في هذه الخريطة بوضوح، إلا إذا اعتبرنا الصين هي الممثل الوحيد لها. المشكلة هنا أن بكين لا تحضر بهذه الصفة، بل بكونها القيادة الجديدة للعولمة (إلى جانب ألمانيا) بدلاً من الولايات المتحدة.