من 17 أيلول/ سبتمبر 1970 إلى 17 أيلول/ سبتمبر 1978 وإلى 13 أيلول/ سبتمبر 1993.في صبيحة يوم السابع عشر من أيلول/ سبتمبر 1970، اندفعت قطعان قوات البادية التي أطلقها جلالة الحسين، مليك البلاد المفدى، أو كما عرَّفه عبد الناصر «ابن زين» ونظامه العاهر الفاجر أيضاً بكلمات الرئيس المصري الراحل، تحت غطاء مدفعي كثيف على معظم ضواحي العاصمة عمّان ومقار «العمل الفدائي» كما كان يُعرف، بهدف تصفيته ومنع نشوء حركة وطنية فلسطينية/ أردنية معادية للاستعمار. تلك كانت الطعنة الغادرة الألف بعد الألف العاشرة، في ظهر الشعب الفلسطيني التي وجهتها أنظمة سايكس ـــ بيكو الرجعية المتخلفة، ونظام عمان المتصهين كان رأسها ليس غير. نظام عمان لم يتمكن من دحر «العمل الفدائي» عبر السلاح في تلك الحرب، فاستعان بالأنظمة العربية التي فرضت على القيادة الفلسطينية وقتها اتفاقية القاهرة التي ألغت عملياً «العمل الفدائي» وفصلته عن «الرئة التي يتنفس منها، وفق منطلقات الحركة»، وحولته إلى ميليشيا خاضعة لأموال البترودولار وسياساته.
بعد ذلك بأقل من عقد، وفي اليوم نفسه من عام 1978، وجهت الرجعية العربية الطعنة السامة الثانية في ظهر الشعب الفلسطيني عندما وقّع أنور السادات على اتفاقية الإذعان والذل للعدو الصهيوني، معلناً استسلام نظامه لشروط اتفاقات سايكس ـــ بيكو الاستعمارية، ومانحاً العدو الصهيوني فرصة لنيل الشرعية في وطننا العربي لاغتصاب فلسطين وطرد أهلها، على حساب شعبنا وحقوقنا في وطننا فلسطين. وبعد ذلك استكملت قيادة الحركة القومية الفلسطينية، ممثلة في قيادة حركة «فتح»، مسلسل الانهيار والاستسلام للعدو الصهيوني، بتوقيعها اتفاقات أوسلو التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من خراب.
المهم التذكير بأن إعلان نظام عمان المتصهين الحرب على العمل الفدائي كان تتمة منطقية للسياسات الرسمية العربية عقب فاجعة حزيران/ يونيو 1967، التي استبدلت شعار «إزالة آثار العدوان» بشعار تحرير فلسطين. وللتذكير، إن الرسمية العربية تخلت عن مواجهة العدو الصهيوني، وقد كانت ركيكة صورية لا تستحق حتى الذكر، قبل هزيمة حزيران، وتجلى ذلك في إعلان حركة القوميين العرب تخليها عن التحالف مع جمال عبد الناصر «لأن مصر تخلت عن مواجهة العدو الصهيوني وأهملت قضية فلسطين».
بعد هزيمة حزيران/ يونيو 67 بعض الزعامات العربية المهزومة مدعومة هذه المرة بأنظمة الرجعية العربية وأموال النفط الفاسدة والمفسدة كانت قد تدخلت على نحو غير مسبوق في تقرير من سيقود الحركة الوطنية الفلسطينية المتمثلة في رئاسة «منظمة التحرير» التي رفضت أي تدخل عربي في شؤونها، ووصل الأمر بها إلى المواجهة معها بعد قمة في الخرطوم الاستسلامية، ثم رفض قرارات مؤتمر القمة العربية التي تخلت علانية عن شعار تحرير فلسطين.
تصوروا هذه المهزلة: السعودية وبقية أنظمة الرجعية العربية كانت تريد تحرير فلسطين، يا للعجب! قيادات الهزيمة العربية عملت على إبعاد الراحل أحمد الشقيري عن قيادة المنظمة ووضعت القيادة الحالية مكانه، التي قدمت أوراق اعتمادها للأنظمة الرجعية التي أتت بها عبر تصريح يحيى حمودة التسووي المتخاذل الشهير، والذي أشرنا إليه في مقالة سابقة.
من المعروف أن أهم مبدأ لـ«فتح» لكسب التأييد والشرعية الفلسطينية كان ضرورة أن يمسك الشعب الفلسطيني أموره بيده وألا يعتمد على الأنظمة العربية، لنجد أنفسنا أمام حركة خاضعة عملياً، عبر اعتمادها على أموال البترودولار الفاسد والمفسد، لإملاءات الرجعية العربية، وقد رأينا تجلي ذلك في تبنّي ما سمي كذباً «البرنامج المرحلي» عام 1974، والذي كان بداية «ترويض» اليسار الفلسطيني والعربي وجعله أسير برامج التسوية.
القيادة الفلسطينية اليمينية لم تفرض سياساتها على العمل الوطني الفلسطيني فقط عبر الكذب والخداع والاستقواء بالخارج وقمع المعارضين في «فتح» باستخدام التهديدات والإغراءات المفسدة من مختلف الصنوف والقمع المباشر والسجن والاغتيالات والعبث في مختلف الساحات الفلسطينية والعربية، وعلى نحو خاص في لبنان، واستعداء كل الأطراف التي كان من الممكن كسب حيادها على الأقل، والتحالف مع أنظمة شمولية قمعية دموية استولت على السلطة في بلادها إما عبر الانصياع غير المشروط لاتفاقية سايكس ــ بيكو الاستعمارية، بل إنها لجأت أيضاً إلى استخدام السلاح ضد القوى الفلسطينية المعادية لسياساتها
ملخص القول: إن سياسات الاستسلام للعدو الصهيوني لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج هزائم ألحقها العدو الصهيوني بها. لقد هزمت القيادات اليمينية ليس لأن العدو يمتلك قوى غيبية أسطورية، لكن لأن الأنظمة العربية مهزومة داخلياً، وزعامات الأنظمة لا يهمها سوى الاحتفاظ بالسلطة، مدخلاً للإثراء.
لا تصدقوا أن قيادة ميليشيا رام الله راغبة في تغيير أوضاعنا، أو أنها حتى تفكر في ذلك. هذه زعامات الهزائم، وزعماء الهزيمة ليسو زعماء الانتصارات. زعامات رام الله لن تتخلى عن الانخراط في مشاريع تصفية القضية الفلسطينية القديمة والجديدة، وما صراخها إلا غطاء لاستسلامها المشين. لنتذكر، من يتخلى عن حبة تراب من وطنه، فإنه على استعداد للتخلي عن الوطن كله.