لو أردنا مقاربة الأزمة أو بالأحرى المأزق الراهن الذي وقع فيه سكان المنطقة العربية، وأهل بلاد الشام بوجه خاص، لقلنا باختصار إنه نتيجة صراع يتواجه فيه مذهبان إسلاميان، استطاعت جهة أو جهات أجنبية إقحامهما إلى أتونه لمصالح سياسية، أو أن ظروفاً ذاتية اضطرتهما إلى ذلك. ومن البديهي أنه صراع عبثي، بدائي مردّه الى تخلف العرب ويقظة العصبيات القبلية النائمة في النفوس. بدليل أنه بدأ أثناء خلافة عثمان بن عفان أي في سنة 29 هجرية/ 650 ميلادية، ولم ينته بعد، في سنة 1453 هجرية/ 2014 ميلادية! أعتقد أن هذا المعطى هو في حد ذاته مدعاة للتأمل والتفكير!
بالعودة إلى خلفيات المأزق الخانق الذي نحن بصدده، فإن نقطة الصفر في تأريخه كانت في حزيران 1967، حيث حلت بالدول العربية هزيمة نكراء، أزاحت الستار عن ثغر هائلة واسعة وعميقة، في بناها الاجتماعية والوطنية. فاتضح أن المتغيرات والمتبدلات التي أطنب خطاب السلطة في عرض تفاصيلها لم تكن سوى هباء طيّره عدوان المستعمرين الإسرائيليين. بمعنى أنه لم تطرأ في الفترة بين 1948 و1967 تحولات جذرية في طبيعة السلطة وأساليب الحكم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن أصل المشكلة يكمن في المفارقة في إدراك الوعي الشعبي لحقيقة ما جرى تباعاً، في 1948 ثم في 1967. بمعنى أنه لم يكن بمقدور الفلسطينيين والسوريين والعراقيين والمصريين واللبنانيين والأردنيين في 1948 الحؤول دون حدوث النكبة، التي لم يتنبهوا لها إلا في مراحلها الأخيرة، أي عندما احتاج المستعمرون الإسرائيليون إلى إضفاء ثوب الشرعية الدولية على الجريمة التي ارتكبوها في فلسطين. بكلام أكثر وضوحاً وصراحة، كانت النكبة أمراً محتوماً، لأن الإسرئيليين كانوا قد قطعوا أشواطاً في إنشاء دولتهم وأجهزتها العسكرية والإدارية، بمساعدة المستعمرين البريطانيين، على أسس عصرية. وبالتالي كانت الحرب ضدهم غير متكافئة في جميع المجالات.
لم يدرك الوعي العربي سنة 1948، الأسباب الحقيقية للنكبة، بل اكتفى بتعليلات وتفسيرات لاعقلانية، كمثل إرجاع ما جرى إلى خيانة هذا الأمير أو تنازل ذاك، علماً بأن التسليم بأن الحكام كانوا آنذاك وكلاء يتوقف بقاؤهم في مناصبهم على رضى المستعمرين عن أدائهم، لا يعني على الإطلاق أنهم اضطلعوا بدور أساسي في إنشاء دولة المستعمرين الإسرائيليين، بل ربما كانوا شهود زور ليس أكثر!
إن الهزيمة في حزيران 1967، كشفت كمثل نكبة 1948، عن أن المستعمرين الإسرائيليين فرضوا مرة ثانية، على الدول العربية نفسها التي تصدت لهم سنة 1948، حرباً غير متكافئة، بجميع المعايير، فضلاً عن افتضاح هشاشة هذه الدول، استناداً إلى اعتمادها على الجيش. وانفراط هذا الأخير يؤدي إلى تلاشي السلطة وانتشار الفوضى واضطراب الأمن، وصولاً إلى انفراط الجماعة الوطنية، ما يعني أن الجيش هو أداة للحكم والسلطة العاجزة عن العمل لدمج مكونات الجماعة الوطنية، فأوكل الى الجيش ليحافظ على تماسكها الظاهر والشكلي. لسنا هنا بصدد البحث والتوسع في هذا الموضوع. فمن نافلة القول إن هزيمة حزيران 1967 زعزعت ركائز الكيانات الوطنية في مصر وسوريا. لعل البرهان على الدور الأساسي الذي يؤديه الجيش في فرض مركزية السلطة في ظلّ هشاشة البنى الاجتماعية، نستشفّه من مسارعة القوات الأميركية في العراق إلى حل الجيش، ما أدى سريعاً إلى تفكّك النسيج الاجتماعي العراقي بحسب الانتماء الطائفي والمذهبي والعرقي.
مجمل القول، إنه بعكس 1948، وعت النخبة بعد هزيمة حزيران 1967، أن المسؤولية لا تقع على عاتق الأشخاص فقط وإنما هي في صميم نظام الحكم في بلاد العرب. أي بصريح العبارة، إن الدولة العربية هي دولة فاشلة، أو قل هي شبه دولة أو أنها شكل هزلي من أشكال الدولة لا يستحق الاحترام ولا يستوجب التقيد بقوانينه!
تمثل هذا الوعي بظهور حركة تحرير فلسطين والتفاف الحركات الوطنية والتقدمية في بلاد العرب حولها. لم يرق الأمر نظمَ الحكم. فاجتمع الحكام على ضرورة شراء الوعي وإعمائه، بكل ما لديهم من وسائل، غير عابئين بما سيترتب على فعْلتهم من نتائج، معرضين عن البحث في أسباب الهزيمة التي أسقطت هيبتهم، وهيبة جيوشهم. فابتدأ الصراع منذ ذلك الحين بالتلازم مع تفكك الجماعة الوطنية.
كالعادة، تبدو خلفية المشهد العربي بوضوح أكبر في لبنان. إذ كان المأمول أن تساعد حركة التحرر العربية التي انتشرت فصائلها في بعض مناطقه على انصهار الطوائف والعائلات اللبنانية واختلاطها لتشكل أمة وطنية متجانسة. هذا لم يحدث، كما لا يخفى. وانخرطت المقاومة الفلسطينيّة مع الأنظمة، بل سايرت نهجها، ما ساهم في إخفاقها والقوى الوطنية في تغيير المفاهيم البالية، وأدى بالتالي الى اضطرابات أمنية وحروب أسهمت في إبقاء الوضع على ما هو عليه من افتقار للوحدة الوطنية، سواء في الأردن أو لبنان. وانتهى الأمر بفشل لحركة التحرر العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً. فكيف لمن أخفقوا في الأردن، ثم في لبنان، أن يقنعوا الإسرائيليين بضرورة التخلي عن ذهنية المستعمرين وإرساء السلام على أساس المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، على قاعدة «لكل فرد صوت واحد»؟!
حركة التحرر العربية، والحركة الوطنية اللبنانية، وفصائل المقاومة الفلسطينية، أخفقت جميعاً في صهر اللبنانيين في كتلة وطنية، رغم أن الدولة في لبنان انهارت نهائياً. فصار المستعمرون الإسرائيليون يسرحون ويمرحون في الجنوب اللبناني. فأوجب ذلك مقاومتهم. لم يكن يوجد خيار غير المشترك الديني والمذهبي. إن تمذهب المقاومة اللبنانية حقيقة، ولكنه تمذهب لمواجهة العدوان وليس ضد المذاهب الأخرى. بمعنى أن المقاومة غايتها تمكين الناس من ردع المستعمرين عن العدوان وردع العملاء عن إعاقتها من القيام بهذه المهمة.
هنا ينهض السؤال عن مبررات تمذهب الآخرين وإشهارهم العداوة للمقاومة، ومحاولة جر هذه الأخيرة إلى استئناف الحرب المذهبية التي بدأت في السنة 29 هجرية! تلاشت الدولة في لبنان لأنها خضعت لإملاءات زعماء الطوائف على حساب بناء شعب وأمة في لبنان، وأخفقت الحركة الوطنية في تحقيق ما قصّرت الدولة عنه. لماذا تتحشد بقايا الدولة وأتباع آل سعود ضد حزب الله الذي نجح في إقناع فئة من اللبنانيين بأن معتقدهم الديني يوجب عليهم الاتحاد والتصدي للمستعمرين الإسرائيليين؟ هل مقاطعة حزب الله مقدمة لحصار الجنوب تمهيداً لفصله عن لبنان، كما فصل المستعمرون قطاع غزة عن فلسطين؟
* كاتبة لبنانية