يعتقد العديد من المراقبين، المنشغلين بمتابعة حركة وزير الخارجية الأميركي الدؤوبة باتجاه منطقتنا العربية طوال الأشهر الستة المنصرمة، أن كيري والطاقم المكلف معه بمتابعة قضية الصراع العربي/ الصهيوني، قد تفرغوا تماماً لتحقيق اختراق/ إنجاز، حقيقي، على هذا الصعيد. للمرة العاشرة، يتحرك الوزير وطاقمه في حركة مكوكية متسارعة بين القدس ورام الله المحتلتين.
اعتادت أجواء منطقتنا حركة طائرة الوزير، فما تكاد تغيب حتى تعود مجدداً للهبوط على مدرجات مطار اللد المحتلة. بالتأكيد، لسنا هنا أمام «رحالة/ سائح» يكتشف معالم المنطقة الأثرية، بل نحن أمام رجل دولة وضع نصب عينيه ضرورة تحقيق إنجاز للمهمة التي كلف بها _ عرفت لاحقاً بخطة كيري _، والتي حددت مدتها الإدارة الأميركية بتسعة أشهر _ انقضى منها خمسة أشهر _ لتضع طرفي الصراع أمام مهلة زمنية لتحقيق اتفاق على حل قضايا الصراع المزمن!

برنامج الاستقبال الجديد

لم تشذّ حكومة العدو كعادتها عن إجراءات التمهيد لاستقبال الوفد الأميركي. فعطاءات بناء الوحدات السكنية في المستعمرات لم تتوقف، وحملات الاعتقال زادت وتيرتها، وقطعان المستعمرين طورت من أشكال اندفاعها _ بحماية القوات العسكرية المحتلة _ داخل باحات المسجد الأقصى، والأراضي المزروعة بأشجار الزيتون. لكن اللافت للنظر، كان الحديث الصاخب، سياسياً وإعلامياً، عن مشروع القانون بضم منطقة غور الأردن إلى كيان الغزو والاحتلال، المترافق مع نعيق بوم العنصرية والفاشية، وزير الخارجية ليبرمان بضرورة أن تشمل عملية تبادل الأراضي، التي تتضمنها خطة كيري، إلحاق منطقة «المثلث ووادي عارة» المحتلتين منذ عام 1948 _ أرضاً وسكانا ً_ بـ«الدولة الفلسطينية العتيدة».
على أثر مصادقة لجنة وزارية مصغرة في حكومة العدو على مشروع القانون القاضي بضم الغور _ والذي يحتاج إلى قراءات ثلاث في الكنيست تنقله إلى حيز التنفيذ في حال جاءت نتائج القراءات بالموافقة _ صرح وزير داخلية حكومة الكيان جدعون ساعر «إنه يجب الإبقاء على الوجود العسكري الإسرائيلي في غور الأردن لأجيال قادمة، ولا يمكن القيام بذلك من دون وجود التجمعات السكنية اليهودية»، مضيفاً «إنه إذا لم تصر إسرائيل على موضوع غور الأردن، فستكون دولة من دون عمق استراتيجي». وأشار إلى «أنه في أي مكان لا توجد فيه تجمعات سكنية إسرائيلية لا توجد أيضاً قوات عسكرية، وفي أي مكان لا توجد فيه قوات عسكرية تقع اعتداءات إرهابية»، مشدداً على «أن المكان الذي نوجد فيه يعبر عن المعضلة حيال مسألة أين ستمر الحدود الشرقية لإسرائيل، وهل ستمر في نهر الأردن أو، لا قدر الله، قرب نتانيا أو كفار سابا وهما مدينتان في وسط الكيان». تشكل منطقة الغور ما يقارب من 30% من مساحة الضفة الغربية المحتلة، ويمكن اعتبارها «سلة غذاء» لها، لأن نسبة 55% من الأراضي الزراعية المروية في الضفة تقع ضمن أراضي الأغوار الفلسطينية، وأكثر من 60% من إنتاج الخضروات تقدمه هذه المنطقة، وما يقارب 45% من الحمضيات والإنتاج الكلي للموز.
كذلك، تعتبر أراضي منطقة الأغوار من أفضل الأراضي الزراعية في الضفة الغربية، وتقدر المساحة القابلة للري والزراعة بحوالى 550 ألف دونم تمتد معظمها بمحاذاة مجرى نهر الأردن، لذلك تم إغلاقها بالكامل من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني ولم يتبقّ بأيدي المزارعين الفلسطينيين سوى الأراضي الزراعية الواقعة داخل المدن والبلدات والقرى وفي محيطها، أي داخل ما يسمى المنطقة «أ» والمنطقة «ب»، وبما لا تزيد مساحته الحالية على 45 ألف دونم.

هاجس الوجود العربي

لم تكن المادة المنشورة في صحيفة «معاريف» الصهيونية في عددها الصادر في اليوم الأول من العام الحالي، مجرد «سبق صحفي» حينما أعلنت أن «الحكومة تسعى إلى تسليم مناطق من المثلث ذات الأغلبية العربية للسلطة الفلسطينية، مقابل احتفاظها بالتجمعات الاستيطانية في الضفة الغربية». وأضافت الصحيفة «إن فكرة نقل هذه المناطق التي يعيش فيها حوالى 300 ألف فلسطيني إلى السلطة الفلسطينية، تأتي في إطار فكرة تبادل الأراضي بين الطرفين، بالإضافة الى الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة العبرية». كما أشارت «معاريف» الى «أن هذه الإمكانية طُرحت في إطار النقاشات التي تجريها إسرائيل مع الولايات المتحدة حول فكرة تبادل الأراضي»، وفقاً لما ذكره مصدر مقرّب من المفاوضات للصحيفة.
من جهته، شدد ليبرمان على أنه «من دون تبادل أراض وسكان لن أدعم أي اتفاق سلام. هذا هو شرطي الأساسي، وقد أوضحت ذلك للأسرة الدولية»، مضيفاً «عندما أتحدث عن تبادل أراض وسكان، أقصد المثلث ووادي عارة ... هذا ليس ترانسفير. لن يطرد أحد أو ينهب، لكن الحدود ستنتقل إلى منطقة أخرى».
تضم منطقة المثلث ووادي عارة ما يقارب من 12% من المواطنين العرب، أصحاب الأرض الأصليين، في المناطق المحتلة منذ عام 1948. وتعتبر مدن «أم الفحم والطيبة وباقة الغربية والطيرة» أهم التجمعات العربية في المنطقة. أما كتل المستعمرات الكبيرة التي يتوقع الغزاة المحتلون بأن تنضم الى كيانهم من أراضي الضفة المحتلة فهي «أريئيل وغوش عتصيون ومعاليه أدوميم وغفعات زئيف». على الرغم من التأكيد الوطني والشعبي على رفض فكرة التبادل، وتجريم أي طرف يدعو إليها، وينفذها، فإن محاولات البعض تقزيم قضية المواجهة والمقاومة والتحرير بالذهاب إلى نقاش ينطبق عليه وصف «المضحك/ المبكي» لقبول «مبدأ المساواة في القيمة والمساحة» على أنها «انتصار وإنجاز وطني كبير»! تبدو أكثر من «تضليل وانحراف».

قضايا خلافية

جاءت جولة كيري الأخيرة لتدفع القضايا الخلافية حول «القدس، اللاجئين، المستعمرات، الأمن، الممر الآمن للتواصل مع غزة ...» نحو إيجاد مساحة من المقاربات. ولهذا كانت «المهمة صعبة» كما وصفها زعيم الدبلوماسية الأميركية، وخاصة في محاولاته المتكررة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، من خلال تقديم اقتراحات تستند إلى خطة بيل كلينتون حول «القدس الكبرى»، واللاجئين. في زيارته المكوكية العاشرة، تناول الأطراف الثلاثة قضيتين هامتين: «حدود 1967، ويهودية الدولة». في الأولى، برزت الخلافات بين المفاوض الفلسطيني، والصهيوني الذي يرفض اعتبار حدود 67 أساساً للمفاوضات. كما برز التعارض بين وجهة نظر حكومة العدو، والوفد الأميركي، الذي يصرّ على إيرادها في الاتفاق. الأميركيون، يعملون على تضمين الاتفاق بنداً يتحدث عن حدود الـ 67، مع تبادل للأراضي، ويؤكدون على أن «هذا هو الموقف الأميركي الثابت»، وخاصة أنه قد ظهر في كل الوثائق السابقة خلال المفاوضات بين الطرفين خلال السنوات العشرين الماضية، وتحديداً، ما جاء في خريطة الطريق في أبريل/ نيسان 2003. كما برز خلاف بين قوى ائتلاف حكومة العدو، من تلك القضية، وبالتحديد نواب ووزراء «البيت اليهودي».
في مسألة يهودية الدولة، يتطابق موقف كيري ونتنياهو، وهو ما زاد من ضغوط الإدارة الأميركية على الوفد الفلسطيني. الرفض الشعبي الواسع للاعتراف بيهودية الدولة ينطلق من ثوابت حركة التحرر الوطني، وهذا ما أكد عليه عضو وفد المفاوضات «المستقيل» محمد اشتيه (إن إسرائيل تريد من الاعتراف بيهودية الدولة تسوية ثلاثة حسابات مع الفلسطينيين، هي: حساب المستقبل بمنع عودة اللاجئين، وحساب الحاضر بتهجير فلسطينيي العام 48، وحساب التاريخ بفرض الرواية التوراتية لفلسطين وإلغاء الرواية المسيحية والإسلامية ... هذا لن يتم أبداً). أمام هذا الموقف، وصل كيري لبضع ساعات إلى كل من عمّان والرياض، قبل أن يعود مجدداً إلى الأراضي المحتلة، في محاولة جديدة للحصول على دعم قادة البلدين، وعلى دورهم في ممارسة الضغط على الجانب الفلسطيني من أجل إمرار القضايا المستعصية، وعلى تهيئة أجواء لقائه المقبل في باريس مع عدد من وزراء الخارجية العرب. رغم ضآلة ما رشح عن نتائج الزيارتين، فإن ما تضمنه المقال الافتتاحي لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية في الثامن من الشهر الحالي، بقلم ايتان هابر يضيء على الهدف من الزيارتين: «التأييد لماذا بالضبط؟ لتربية الأسماك في البحر الميت، على حدّ قول أحد ما في التلفزيون؟».

المجد للمقاومة

لن تهدأ طائرة كيري في الهبوط والإقلاع قبل الوصول إلى محطة الوقوف «اتفاق الإطار» الذي يحمل لشعبنا وأمتنا صفقة كارثية جديدة، ربما تحمل أسوأ مما تضمنه «اتفاق إعلان المبادئ» أو كما يقول الكاتب نداف إيال في «معاريف» (3/1/2014): «ليس اتفاقاً وليس إطاراً، بل تصريح أميركي أشبه بخريطة طريق جورج بوش الابن».
إنها ملامح مواجهة جديدة مع الغزاة وداعميهم، فهل تنهض قوى شعبنا الحية، للتصدي للمؤامرة؟
* كاتب فلسطيني