لا يمكن تلخيص دواعي الأزمة التي تفاقمت بين الرياض وأوتاوا في الاحتجاج الكندي على اعتقال ناشطات سعوديات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة. ولا يمكن تفسير الأزمة التي تكاد تخنق الاقتصاد التركي بالعقوبات الأميركية على خلفية توقيف قس متهم بالتجسّس ودعم الإرهاب؛ في الأزمتين أجواء عصبية فوق طاقة الأسباب المباشرة، وكان يمكن تطويقهما بالوسائل الدبلوماسية والمقايضات المعتادة بين الدول، من دون كلفة سياسية كبيرة. لماذا خرجت الأزمتان عن أي سيطرة؟ ما الأسباب الحقيقية والرسائل الضمنية في كلتيهما؟ وإلى أيّ حدّ تؤثر التداعيات المحتملة في حسابات الإقليم وتحالفاته وموازينه السياسية؟الأولى: كاشفة لمأزق السياسات على جبهات عدة من سوريا واليمن إلى مستقبل الحكم وطبيعته، أمّا الثانية: فمنذرة بأوضاع عدم استقرار قد تطول في دولة جوهرية في الإقليم تؤثر بالضرورة على تحالفاتها ومستقبل حكمها. لم يكن هناك ما يستدعي تصعيد الأزمة بين الرياض وأوتاوا إلى تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي وتجميد التعاملات التجارية والاستثمارية وإلغاء برامج التبادل التعليمي والمنح الدراسية لأكثر من 15 ألف طالب وسحب المرضى من المستشفيات الكندية وإيقاف رحلات الطيران.
هذه لم تكن المرة الأولى التي تنتقد فيها دولة غربية سجل حقوق الإنسان والحريات العامة في السعودية. قبل فترة دخلت السعودية أزمتين مماثلتين مع السويد وألمانيا، على خلفية انتقادات لسجلها الحقوقي، من دون أن تصل إلى هذه الدرجة من التصعيد. كما أن إدانات عديدة في السجل نفسه تضمنتها بيانات لوزارة الخارجية الأميركية والاتحاد الأوروبي والمجلس الأممي لحقوق الإنسان، من دون أن تلحقها أزمات بهذا الحجم. لماذا كندا؟
قد يقال إن سفارتها تجاوزت حدود أدوارها الدبلوماسية بمخاطبة الرأي العام الداخلي في السعودية عبر تغريدة على موقع «تويتر»، تبدى قلقها إزاء اعتقال ناشطين في المجتمع المدني. وقد يقال إن إعادة إنتاجها من وزارة الخارجية الكندية في تغريدة أخرى كان أمراً استفزازياً، خاصة أن لغتها بدت أقرب إلى الإملاء، كطلب «الإفراج الفوري»، وهذا وضع محرج للسلطة السعودية أمام رأيها العام في ظل أزمات متراكمة.
بقوة حقائق العصر، فإن لقضية حقوق الإنسان مكانة خاصة لا يمكن إنكارها في الأدبيات والمواثيق الدولية. وبقوة المصالح، فإن دولاً غربية عديدة مستعدة أن تغضّ الطرف عن أيّ انتهاكات. ما أرادته السعودية ــ بالضبط ــ من تصعيد الأزمة مع كندا أن تضع خطاً أحمر في الهواء ــ المصالح المالية مقابل عدم الانتقاد. وكانت هذه رسالة للآخرين منخفضة التكاليف السياسية. الأميركيون والبريطانيون لم يدعموا الموقف الكندي، وتركوا أوتاوا وحيدة تقريباً. وأقصى ما طلبه الاتحاد الأوروبي الالتزام بالتحقيقات الشفافة والعادلة مع الموقوفين السعوديين.
المصالح المالية حدّدت نطاق الحركة الأوروبية، فيما بدا البيت الأبيض في وضع ارتياح شبه معلن على خلفية مشاحناته مع الحكومة الكندية بشأن الموقف من الاتفاقيات التجارية الدولية. الحكومة الكندية نفسها تطلب التهدئة مع الرياض خشية خسارة صفقة بقيمة 15 مليار دولار تبيع بمقتضاها مركبات مدرعة لقمع التظاهرات السلمية. هل هذه ازدواجية معايير؟ باليقين: نعم.
رغم ذلك كله، كانت الخسارة السعودية فادحة في الميديا الغربية والمنظمات الحقوقية والأوساط الأكاديمية، وهذه لا يستهان بها في حسابات السياسة والصور. كادت تتقوّض صورة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كرجل إصلاحي تبنّى قضية قيادة المرأة للسيارات وسمح بحفلات موسيقية وسينمائية في مجتمع مغلق. لاحقته صورة المستبد الذي يعتقل الناشطات اللاتي يطالبن بحقوق المرأة، ويصادر حريات التعبير رغم اتساع الطبقة الوسطى السعودية التي حصل بعض أبنائها على تعليم متقدم في الجامعات الغربية.
وبتقديرات حقوقية دولية، فإن الهدف السعودي من التصعيد المبالغ فيه مع كندا وقف الضغوط عليها لإجراء تحقيقات نزيهة وشفافة وعادلة في جرائم الحرب في اليمن، وآخرها مقتل 29 طفلاً على الأقل في قصف جوي استهدف حافلة. هكذا، فإن ذرائع الأزمة لا تلخصها ولا تفي بحقائقها الأساسية... الأمر نفسه في الأزمة التركية.
تكاد الأعصاب تتلف تماماً تحت ضغط انهيار عملتها الوطنية، التي خسرت نصف قيمتها في غضون نصف عام. لا يعقل ــ بأي منطق طبيعي ــ إرجاع ذلك الانهيار إلى تدوينة كتبها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن توجّهه لمضاعفة الرسوم الجمركية على الصادرات التركية من الحديد والألومنيوم. مشاكل الاقتصاد التركي بنيوية وسياساته المالية أوصلته إلى نقطة الانهيار. والعقوبات الأميركية كاشفة وليست منشئة للأزمة. والاقتصاد الذي يهتز بتدوينة فهو عليل ومنكشف.
للأزمة مقدمات، من بينها الارتفاع المطّرد في العجز التجاري، وزيادة نسب التضخم، والنظرة السلبية لوكالات التصنيف الائتماني إلى المصارف التركية، وسوء الأداء الذي يتحمّله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحده، بالنظر إلى حجم تدخله المفرط في إدارة السياستين الاقتصادية والنقدية، وتغوّله على الحياة العامة ومصادرة التنوّع فيها.
بافتراض أن تركيا لم تصعّد الأزمة مع البيت الأبيض، لم يكن ممكناً تجنّب انهيار الليرة ودخول اقتصادها النفق المعتم. ذلك لا ينفي تداخل السياسي مع الاقتصادي في رسم المشهد التركي المستجد. لم يكن الإفراج عن القس الأميركي الموقوف صلب الأزمة بين ترامب وأردوغان، لكنه الذريعة التي استخدمت لتأديبه وتطويعه لمقتضى ما هو مطلوب منه.
وكان أول ما هو مطلوب أن تنضم أنقرة، أحد أهم الشركاء التجاريين لطهران، إلى جهود الإدارة الأميركية في إحكام الحصار الاقتصادي عليها، بما يساعد على خفض صادراتها النفطية وإرباك ناتجها المحلي الإجمالي علي المديين المنظور والمتوسط. الرهان الأميركي على الحصار بسلاح العقوبات هو تفجير إيران من الداخل، أو دفعها بالضغوط إلى تقديم تنازلات في ملفّي مشروعها الصاروخي الباليستي وأدوارها الإقليمية المتزايدة، وفق ما تطلبه وتلحّ عليه إسرائيل. هذا يستحيل أن تقبله إيران؛ فقبوله إعلان هزيمة مجانية. كذلك يصعب على تركيا قطع صلاتها الإيرانية بالنظر إلي شكوكها العميقة في نيّات وتوجّهات إدارة ترامب بشأن القضية الكردية ومستقبلها كدولة موحدة. وثاني ما هو مطلوب خفض مستوى التحالفات الميدانية مع روسيا وإيران في الملف السوري. وهذه مسألة حساسة أخرى، فالدور الأميركي متراجع في الإقليم، وكل ما يعنيه إسرائيل وأمن إسرائيل وحسابات إسرائيل، ولا شيء آخر.
بحقائق القوة، بدأت إسرائيل نفسها تنسج علاقات تفاهم مع اللاعب الروسي، ولا يتصور عاقل أن تنسحب تركيا من مثل هذه العلاقة هكذا من دون بديل. وثالث ما هو مطلوب وقف شراء منظومة «إس 400» الروسية الصاروخية، ووصلت الضغوط إلي حد إلغاء صفقات سلاح أميركية متفق عليها مع أنقرة. هناك سيناريوان محتملان: أوّلهما أن يحاول أردوغان البحث عن شركاء تجاريين جدد مثل الروس والصينيين وبناء تحالف أقوى مع طهران تجارياً وعسكريا. وذلك سوف يكون انقلاباً استراتيجياً في الإقليم ومسارح صراعاته، وثانيهما أن يعود تحت ضغط الأزمة إلى بيت الطاعة حيث المصالح التقليدية المشتركة، فتركيا جزء من استراتيجية «الناتو» في مواجهة الدب الروسي، وخسارتها لا تعوّض، وتضرّر الاقتصادات الأوروبية مخاوفه ماثلة.
بقدر ما تكشفه الأزمتان من حقائق مستجدة، فإن صورة المستقبل في أكثر أقاليم العالم اشتعالاً في النيران قابلة لكل السيناريوات والاحتمالات.
* كاتب وصحافي مصري