ثمة صفحات فارغة كثيرة في تاريخ الحركة القومية (national) الفلسطينية المعاصرة، ولا نعلم سبب إغفال بعض قيادات تلك المرحلة واجبهم الوطني والأخلاقي في ملئها. ومن تلك الصفحات حقيقة الانقسام بين تيارين في حركة «فتح» تجاه برنامج التسوية مع العدو الصهيوني المسمى «البرنامج المرحلي» أو «برنامج النقاط العشر» الذي أقرّه «المجلس الوطني الفلسطيني» في دورته الثانية عشر العام 1974، وجوهره إقامة «سلطنة وطنية»، ولم يعترض عليه سوى مناضِلَين من «فتح» هما الراحلان العزيزان ناجي علوش (أبو إبراهيم) ومحمد داود عودة (أبو داود). وكانت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» صوتت إلى جانب البرنامج، بعد اشتراط إضافة «مقاتلة» إلى «سلطة وطنية». حينها قال رئيس اللجنة التنفيذية ساخراً: «مقاتلة ونفاثة كمان»!أقر البرنامج الذي منح قيادة المنظمة الشرعية للانخراط في التسوية وتأسيس دولة فلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، «حتى على ظهر حمار في أريحا». قال رئيس اللجنة التنفيذية في مجال رده على المعترضين على البرنامج ورؤيته لمسار النضال الفلسطيني: «الدولة في جيبي». حينها طلب الراحل إدوارد سعيد منه أن يريه إياها. مسار النكبة الفلسطينية الثانية معروف وانتهى، وأصبحت تلك السلطة الفلسطينية أداة قمع للشعب الفلسطيني وخط دفاع أول عن العدو الصهيوني، تنافس احتكار نظام عمّان المتصهين في مجاله الذي خُلق لأجله. وقد ظهر متنافسان في الساحة الفلسطينية يدّعي كل منهما أنه هو صاحب فكرة «مشروع السلطة»، وهما نايف حواتمة وفاروق القدومي. الأول وهو رئيس «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين»، المنشقة عن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، تسلّم مئة ألف دولار من جلالة مليك البلاد الحسين حفيد جلالة الملك المؤسس عبد الله الأول، عميل بريطانيا الوفي، وذلك وفق مقابلة أجرتها معه مجلة «نيوزويك» الأميركية. وعندما سُئل عن معاشه السنوي من وكالة الاستخبارات الأميركية، برر ذلك بأنه كان يصرف المال على استخباراته ورجاله، وقدم جزءاً منها (100000 دولار أميركي) إلى نايف حواتمة لينشق عن «الجبهة الشعبية». الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية» يفخر أنه مقترِح برنامج «السلطة الوطنية»، علماً أنه كان هو ونائبه ياسر عبد ربه (المنشق) يروّجان لمقولة «الطبقة العاملة الفلسطينية والطبقة العاملة الإسرائيلية ستتحدان لتحرير فلسطين من الصهيونية». أما فاروق القدومي (أبو لطف) الذي ادعى أنه هو صاحب الفكرة الانهزامية، فقد كان رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير ومفوض العلاقات الخارجية لحركـة «فتح». هذه الحركة التي كنت أحد كوادرها في عمان وبيروت، وكنت نائب مدير مكتب منظمة التحرير في برلين الشرقية. ليس ثمة شرف في أي من الادعاءين، بل تعبير عن انهزامية وتخاذل وإدارة ظهر لكل ما هو وطني فلسطيني، وغباء سياسي لا نظير له وجهل بجوهر الصهيونية وبرامجها هي والغرب الاستعماري الذي صنعها.
بالعودة إلى مسألة اليمين واليسار في «فتح»، عرفت الحركة اتجاهين أحدهما يدعو للصلح مع العدو والآخر متمسك ببرنامج الحركة والميثاق الوطني الفلسطيني الأصلي (لا الحالي) الذي زوّرته مليشيات رام الله في 14 كانون الأول 1998. حينها روّج اليمين لمقولة «لا يمين ولا يسار في فتح، الكل وطني». وكان يرأس هذا الاتجاه عضو اللجنة المركزية للحركة الراحل خالد الحسن، لكنه لم يكن وحيداً في الساحة. وتحت هذا الشعار المضلِّل، تم السير في مجرى التسوية وضبط «منظمة التحرير» و«فتح» وترتيب أوضاعهما الداخلية في هذا الاتجاه التسووي (في ظل مشروع الثورة في عمان، قبل مجازر أيلول، كان مجرد الحديث عن تسوية سلمية يعدّ خيانة وطنية).
إزاء إخفاق مشروع «فتح» في إنجاز ثورة، التي تحوّلت في بيروت إلى ميليشيا، وجب فتح ملفاتها وملفات الفساد وأبطالها الذين ما زالوا على قيد الحياة ينعمون برغد الحياة في قصورهم والملايين التي نهبوها باسم الشعب الفلسطيني. وإزاء الهزائم المتكررة في لبنان بسبب الفساد المستشري والمدمن في الميليشيات، والمدعوم من القيادة، ازداد الضغط على اليسار الفتحاوي، المتمسك بخيار الكفاح المسلح، مع أن المكلفين بقيادته لم يكونوا مؤمنين به خطاً استراتيجياً. للتاريخ فقط، رئيس «فتح» كان ممسكاً العصا من الوسط، لكنه انحاز إلى اليمين عندما تمردت قيادات وكوادر الصف الثاني في فتح على قراره قبول دخول قوات حفظ السلام الأممية إلى جنوب لبنان عقب عدوان عام 1978، والتي أدت إلى أزمة داخلية حادة انتهت بإعدام بعض الكوادر الفتحاوية. قيادة «فتح» لم تتمكن من إجبار المجلس الثوري للحركة على قبول مبادرة الملك فهد، لأنها تمنح العدو الصهيوني الشرعية. تعليق القيادة على ذلك: «اللي ترفضوه اليوم بشروطكم، حتقبلوه بكرا بشروطهم». وإبان الاجتياح العام 1982، سأل أحد الصحافيين الأجانب الراحل ياسر عرفات إن كان ارتكب أخطاء في مسيرته، فقال : «عندما قبلت وقف إطلاق النار عام 1978»، لكن من السهل الوصول إلى الحكمة بعد فوات الأوان.
الآن، يحق لنا سؤال اليمين الفتحاوي الميليشياوي القابع في رام الله «ينعم» بحماية العدو الصهيوني عما حققه من إنجازات وطنية أو قومية، مهما صغرت، من التنكر لمبادئ الحركة التي منحتها شعبية، وفي مقدمة ذلك التصدي للعدو الصهيوني في معركة الكرامة العام 1968 (الجبهة الشعبية قررت في ذلك الوقت عدم خوض معركة الدفاع عن المواقع بحجة أن «حرب العصابات» تعني مشاغلة صفوف العدو وليس مواجهته دفاعاً عن المواقع) أي الانطلاق من الأيديولوجيا بدلاً من تحديات الواقع وضروراته.
ألم يثبت أن رؤية اليسار الفتحاوي المتمسك بخيار الكفاح المسلح سبيلاً لتحقيق أهدافنا هو الطريق الصحيح والوحيد لاستعادة بلادنا وحقوقنا فيها، وهو أشرف بألف مرة من عقد مؤتمر فتح تحت حماية جيش العدو الصهيوني وتحت نظره في بيت لحم المحتلة؟ ألم يحن الوقت للنظر في تاريخ الحركة وكتابته من منظور الحقائق، وليس تزويرها، كما يجري الآن على يد بعض الغلمان والصبية من حديثي النعمة؟ وثمة الكثير الكثير من الملفات التي وجب فتحها لمواجهة سياسة الاستسلام والتخاذل التي تقودها رام الله وميليشياتها، ولكل شيء وقته.
ملاحظة جانبية:
إجراء الفريق الكروي العراقي مباراة في رام الله مع فريق فلسطين، عمل تطبيعي. ومن الضروري أن يعرف الجميع أن مركز العبور إلى «الضفة الغربية» هو تحت سيطرة العدو الصهيوني، وضباطها متواجدون في خلف الزجاج في المعبر، ومن غير المسموح لأي شخص كان بالعبور من دون موافقة مسبقة من العدو، بل وحتى ومن غير المسموح بتعيين أي فلسطيني في أي منصب كان، حتى لو كان بواباً، تابع للسلطة من دون موافقة العدو. لذلك وجب عدّ الخطوة غير الحميدة لحكومة السيد العبادي بإرسالها الفريق، تحايلاً على محاربة التطبيع ومحاولة التفاف عليه، إرضاء لأصدقائها في واشنطن، المسؤولين مباشرة عن الأوضاع الكارثية في العراق.