بالطبل والمزمار استقبله وليد جنبلاط. أبى إلّا أن يعرضَ له الكشّاف التقدّمي باللباس الرسمي المزركش. ولو كانت ميليشيا الحزب التقدّمي ما زالت موجودة (قبل أن تسلّمَ سلاحها الثقيل للنظام السوري) لكانت قد أطلقت مدافعها ترحيباً بالضيف العزيز. هبّت جموع الزعيم في المختارة (وضواحيها) كي ترحّب بالضيف الكبير. ها قد أطلّ نيكولا ساركوزي، عدوّ الإسلام والمسلمين وصديق الصهيونيّة الأوّل في فرنسا، في ربوع بلد الأرز. فخرٌ وأي فخرٍ للمستقبلين المُبتهجين وزعيمهم. وكان مهرجان بيت الدين قد دعا كارلا بروني للغناء —إذا كان يمكن تصنيف ما تقوم به بروني على المسرح في خانة غناءً— أمام الجمهور اللبناني. وحضر هذا الحفل الغنائي ميشال سليمان، الذي قطع مشاوراته بعد أن شكّل أكبر كتلة نيابيّة في التاريخ اللبناني المعاصر.والضيف ساركوزي، رحّب بفكرة المجيء إلى لبنان. فهو منبوذٌ ومحتقرٌ ومُهانٌ في بلاده، بعد أن راكمَ فضائح فساد تضمّنت تلقّي رشىً من الطاغية الليبي. وهو رمزٌ بغيضٌ للمسلمين في فرنسا بعد أن جاهر بعنصريّته منذ أن خطّط للطموح السياسي الأكبر بعد أن شغل منصب وزير الداخليّة، عندما وصف المهاجرين الفقراء بـ«الحثالة». وهو كان قد وقّع أخيراً على عريضة صفيقة تطالب المسلمين بتعديل قرآنهم بما يتلاءم مع مصالح دول الغرب ودولة الاحتلال الإسرائيلي. لكن هذه ديدن لبنان: يصبح ملاذاً للهاربين والمنبوذين والمطرودين والفنّانين المتقاعدين. يشعر لبنان بالاعتزاز كلّما زاره غربيُّ ما، مهما كان هذا الغربي.
وفيما كان زعيم المختارة يتلو خطبته العصماء، كان الضيفُ الفرنسي الكبير يجلسُ واضعاً الساق على الساق، في وضع يصعبُ أن يكون معكوساً مع المُضيف. لو أن لبنانيّاً جلسَ في الوضعيّة نفسها التي جلس فيها ساركوزي في حضرة جنبلاط، لكانَ جنبلاط قد استدعى «أمنه الخاص» لطرده على أعقابه. بدا سركوزي ضجراً وهو يستمع إلى خطبة جنبلاط في مديحه. وصفه جنبلاط بـ«الشخصيّة المرموقة»، لكن نسي أن يُشير إلى مشاكله القضائيّة المرموقة. وجنبلاط تجاوز تكريم ساركوزي ليكرِّم من خلاله الاستعمار الفرنسي برمّته. قال جنبلاط (بالحرف): «عرفتِ المختارة منذ أكثر من مئة عام علاقات مميّزة مع فرنسا، حتى في أيّام الانتداب الفرنسي». طبعاً، كان يمكن جنبلاط أن يشير إلى علاقات المختارة المميّزة مع بريطانيا (قبل المرحلة الفرنسيّة)، أو مع النظام السوري والدول الغربيّة والحكومة الأميركيّة (بعد المرحلة الفرنسيّة). لا، وسجَّلَ جنبلاط عن حقّ أن المختارة نجحت في تجاهل «الثورة الكبرى في سوريا» ضد الاستعمار الفرنسي، وقال: «نظيرة جنبلاط استطاعت بحنكتها قبل أن يتسلّم كمال جنبلاط زمام الأمور أن تبقى منطقة الشوف بأمان» في حقبة الثورة العربيّة الكبرى. هو يقصد الأمان للاستعمار الفرنسي، وليس للشعب العربي في سوريا ولبنان. المهم أن قيادة المختارة (قبل أن تصبح «تقدميّة» و«اشتراكيّة») حمت الاستعمار من غضبة الشعب. جنبلاط الذي دافع عن تنظيم «القاعدة» في سوريا باسم التضامن مع جبل العرب، يفاخر أمام المُستعمر بعدم التضامن مع جبل العرب في زمن الاستعمار. والاعتداد بمؤازرة الاستعمار سمة من سمات زعامات الإقطاع الطائفي، خصوصاً عندما ينطق الزعيم باسم نحو ٧٠٪ من ٥٪ من سكّان لبنان.
جنبلاط يزهو أمام جمهوره بأن المختارة (ماذا ينفع خلق أحزاب في زعامات طائفيّة إقطاعيّة لا تنفي صلتها بالتاريخ؟) حمت الانتداب الفرنسي وأخلصت له، وأن «ثورة» جبل العرب لم تعنِ المختارة قَطّ. وقد مرَّ ضيوف كُثر في المختارة في ضيافة جنبلاط، مِن كل أقطاب النظام السوري ومخابراته إلى النظام السعودي وسفراء أميركا والدول الغربيّة الواحد تلو الآخر، ومروراً بشمعون بيريز —كي لا ننسى عشاء بيريز في المختارة فيما كان العدوّ الإسرائيلي يُمعن قتلاً وقصفاً وتدميراً في كلّ لبنان (سهّل مروان حمادة بعد اللقاء إرسال سيّارة السفير الأميركي كي تقلَّ جنبلاط إلى بيروت، حيث أمرَ بحلّ الحركة الوطنيّة اللبنانيّة بعد أن أكملت مهمتها على أكمل وجه).
وذكَّر جنبلاط ضيفه العزيز بأنه رفع العلم الفرنسي في المختارة في عام ٢٠٠٤. أيُّ زعيم وطني يزهو برفع علم أجنبي في بلاده؟ وأيُّ زعيم وطني يزهو برفع علم الدولة التي استعمرت بلاده من قبل؟ لكن جنبلاط — الحقُّ يقال — مخلصٌ في تحالفاته. وفي حقبة تسليم سلاح الميليشيات، أصرّ على تسليم سلاحه لجيش النظام السوري، لأنه قال إنه يثق به أكثر من الجيش اللبناني. وهو أخلص للنظام السوري على مدى عقود طويلة، كما أخلص للنظام السعودي على مدى عقود طويلة، وأخلص منذ ما قبل «ثورة الأرز» لدول الغرب.
حسناً فعل جنبلاط باستقبال ساركوزي في فترة إعداد الخليفة، تيمور جنبلاط. وقد يأتي يوم، يستقبل فيه تيمور زعيماً أجنبيّاً آخر (بعد تقاعده ونبذه من الحياة السياسيّة في بلاده)، حيث سيلقي هو الآخر خطبةً يذكّر فيها بأمجاد المختارة في التهليل لهذه الدولة أو تلك أو لهذا النظام المخابراتي أو ذاك، أو لذلك الأمير أو لذلك الشيخ. هذا هو تراث المختارة الذي منحه جنبلاط لابنه، بكثير من الديموقراطية وكثير من الاشتراكيّة والقليل من السلاليّة.