التغيُّرات المناخية الكبيرة التي يشهدها العالم لم تترافق حتى الآن مع وعيٍ مصاحبٍ لها على المستوى السياسي. الدعوات التي تصدر من هنا وهناك، وغالباً عن أحزاب لها باعٌ طويل في التوعية بقضايا البيئة والاحتباس الحراري، لا تزال تصطدم بمصالح الكارتيلات الصناعية التي تقود التراكم الرأسمالي على مستوى العالم. وهذه المصالح تتركّز بقوّة في الولايات المتحدة والصين، حيث لا توجد معارَضة كبيرة لمخلَّفات النشاط الصناعي الكثيف، وإذا وُجِدت لا يكون عملها منسَّقاً ومترابطاً مع الدوائر الأخرى التي تقود المعارَضة على مستوى العالم. حالياً، يتركّز نشاط القوى التي تقود مواجهة الاحتباس الحراري في أوروبا، حيث ثمّة وجودٌ قويٌّ لأحزاب الخضر داخل الحكومات، ولكن نشاطها لا يُعَدّ مركزياً كفاية، ولا يمثل تياراً أساسياً داخل المجتمع كما كانت عليه الحال قبل عقد من الزمن. التراجعُ تزامَنَ مع خفوت موجة المعارَضة للعولمة إثر «هزيمة» تجمُّعاتها في سياتل وبورتو اليغري، التي كانت قضية الاحتباس الحراري في محور اهتماماتها. ومع تراجُعِها لم يشهد العالم بروز موجة بديلة أو تيارات تحمل على عاتقها همّ الدفاع عن الكوكب في مواجهة الكارتيلات الصناعية التي يقود نشاطها إلى تدميره، واكتفت الحركات التي ورثت طروحات مناهضي العولمة بمعارَضة سياسة التراكم الرأسمالي على طريقة مجموعات «احتلّوا»، من دون أن يكون لمعارَضتها أيُّ أثر على مخلّفات النشاط الصناعي في الدول الرأسمالية، ومن دون الربط الذي يقيمه اليسار الأيكولوجي عادةً بين التراكم الرأسمالي وتدمير البيئة.
الافتقار إلى مرجعية بيئية
الحراك الذي شهدته ميادين العالم ابتداءً من عام 2011 على خلفية رفض سياسات التراكم الرأسمالي، لم يبدُ معنياً بهذا الربط، وانحصر تركيزه، سواء في الولايات المتحدة أو في إسبانيا واليونان لاحقاً، على نقد تركُّز الثروة في يد الأقلّية على حساب الأكثرية المفقرة أو المهمَّشة. الحساسية الطبقية التي طَغَت على اهتمامه أتت على حساب الترابط الذي حرصت مجموعات مناهضة العولمة سابقاً على أن يكون محورياً في معارضتها للعولَمة أو لـ«الكوكبة» كما كانت تسمّيها في أدبياتها أحياناً. الوعي بهذا البعد في النضال ضدّ سياسات «الترسمل» لم يكن فقط بسبب التنوُّع الذي كان موجوداً في هذه التجمُّعات، بل لأنها كانت تدرك أنها عبر حماية البيئة الذي يجري النشاط الصناعي في مواجهتها إنما تحمي البعد الطبقي في نضالها، وتوفّر له الأرضية والأساس للاستمرار والفاعلية لاحقاً. وهو تقريباً الطرح الذي اعتمدت عليه الكاتبة اليسارية والناشطة السياسية الكندية نعومي كلاين، حين أصدرت قبل سنوات كتابها الخاص بتغيُّر المناخ: «هذا يغيّر كلّ شيء: الرأسمالية في مواجهة تغيّر المناخ». ثمّة في الكتاب تأكيد لأهمية أن يخوض اليسار نضاله ضدّ الرأسمالية، انطلاقاً من مرجعيات متعدِّدة، لأن ذلك يوسِّع له آفاق المواجهة، بدلاً من حصرها في البعد الطبقي فحسب. تقول كلاين في كتابها: إننا إزاء خطر تغيُّر المناخ لا نخوض صراعاً طبقياً فحسب، بل نتعرَّض لخطر وجودي مصدره السياسات الرأسمالية نفسها التي نعارضها، ولكن معارضتنا لها لم تعد تحمينا منها، لأنّ النشاط الرأسمالي تحوَّل في ضوء تغيُّر المناخ إلى خطر على الكوكب برمَّته، وليس فقط على الطبقات العاملة والفقيرة في العالم. وهي إذ تؤكِّد هذه الفكرة، تعرف من خلال تجربتها ومساهماتها المتعدِّدة في حراك اليسار عبر العالم أن المواجهة أصبحت تقتضي بالفعل الخروج من هذه «القوقعة»، عبر معاودة صياغة تحالفات تضع القضية البيئية في صلب اهتمام اليسار، على أمل أن يقود ذلك إلى تفعيل نشاطه، ليس في مواجهة سياسات التراكم فحسب، بل في احتواء آثارها المدمِّرة على الكوكب أيضاً.

حرائق العولمة
الحرائق المندلِعة حالياً في الولايات المتحدة واليونان، بالإضافة إلى الأمطار الغزيرة والفيضانات في أنحاء مختلفة من أوروبا، أكبر دليل على عقم سياسة المواجهة حين تقتصر على معارضة جانب واحد فقط من جوانب عملية التراكم. النشاط الصناعي الكثيف في هذه الدول لم يتراجع تحت ضغط المعارضة اليسارية المتعاظمة له، لا بل اكتسب زخماً إضافياً مع مجيء إدارة دونالد ترامب بأجندة حمائية تفترض تدخُّلاً أقلَّ من المنظَّمات التجارية الدولية في النشاط الصناعي الخاصّ بكل دولة من الدول الرأسمالية. صحيح أنّ العولمة قد سرّعت من وتيرة التراكم، لكنها بسبب حاجتها إلى إطار متعدِّد ومشروعية أكبر لنشاطها قيّدت هذا التراكم، وربطت استمراره برقابات متعدِّدة، من ضمنها الرقابة البيئية التي كانت تضمنها اتفاقية تغيُّر المناخ الموقَّعة في باريس في عام 2015. التصوُّر الذي يحمله ترامب للنشاط الصناعي داخل الولايات المتحدة وخارجها يتعارَض مع الإطار المتعدِّد الذي تفرضه العولمة، وهذا يعني التخلّي عن الرقابة الجزئية التي فُرِضَت على عملية التراكم لقاءَ استمرارها، لمصلحة وتيرة أكبر في النشاط الملوِّث للبيئة، وهذه المرّة بقيادة إدارة يهمُّهما تعديل الميزان التجاري لمصلحة الولايات المتحدة أكثر بكثير من حماية الأرض والإبقاء على حزامها الأخضر. لكن قبل مجيء ترامب بأجندة لتكثيف النشاط الصناعي وحمايته بتشريعات داخلية، كانت الكارثة قد وقعت. الحمائية التي يمثّلها الرجل هي نتيجة لسياسات التراكم وليست سبباً لها، وتحميلُها المسؤولية عما تتعرَّض له الأرض حالياً على خلفية انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، فيه الكثير من النفاق، ليس لأنَّ الرجل لا يتحمل بالفعل مسؤولية، بل لأنّ المسؤولية عن ذلك مشتركة إن لم تكن متساوية بين إدارته وباقي الدول التي تقود منظومة العولمة.

خاتمة
ثمّة حاجة الآن لمعارَضة لا تكتفي بمجابَهة العولمة على خلفية آثارها المدمِّرة على البيئة فحسب. حصلت مواجهة من هذا القبيل قبل عقدين تقريباً من الزمن، ولم تُفضِ إلى الكثير، وأحياناً سبَّبت نزع التسييس عن الصراع لمصلحة أطرٍ لم تستمرَّ كثيراً، وإن أحدثت قدراً من التراكم. في المقابل، حصلت ردّة فعل «سياسوية» داخل اليسار قادت إلى تغليب الصراع الطبقي على ما عداه. لكنها اصطدمت هي الأخرى بالتحوُّلات التي تطرأ على عمل الرأسمالية كلَّ فترة، والتي تجعل منها خصماً يصعب إن لم يكن «يستحيل هزيمته». آخرُ هذه التحوُّلات هو الحمائية التي يقودها ترامب والتي تدفع سياسة التراكم إلى ذروة جديدة، ولكنها في الوقت ذاته تضع اليسار في موقعٍ متغيِّر، لكونها تسمح له، سواء كان في دول المركز الرأسمالي أو خارجها، باختبار قدرته على تطوير أدواته في مواجهتها. الاقتراح الذي قدّمته نعومي كلاين في كتابها، إحدى هذه الأدوات، وهو على الأرجح يوفِّر مخرجاً لليسار من أزماته العديدة، ويضعه أمام تحدٍّ فعليّ لمعاودة النهوض و«اكتساب الشرعية».
* كاتب سوري