هي بوادر «صفقة القرن». إن طمسَ القضيّة الفلسطينيّة من الثقافة السياسيّة العربيّة ومن السياسات الرسميّة باتَ لازمةً في عصرِ أبناء الحكّام الخليجيّين. و«صفقةُ القرن» هي تحضيرٌ لسلامٍ تام وشامل مع العدوّ على أساس أقلُّ من حدّ أوسلو المتدنّي. وضخُّ الدعاية الصهيونيّة في الإعلام الخليجي الملتزم بالتطبيع (خصوصاً من قبل أنظمة قطر والإمارات والسعوديّة) ليس جديداً، وهو جزء من ثمن تحالفهم مع الراعي الأميركي. والخلاف الخليجي-الخليجي، إن أدّى إلى شيء، فهو زادَ تقرّب كل الحكومات إلى العدوّ الإسرائيلي وزادَ شهيّة ابتياع السلاح لإرضاء ترامب. والوثائقي الذي بثّته محطة «العربيّة»، هكذا من دون مناسبة، لم يكن مِن إعدادها، كما أوضحت الإعلاميّة الفلسطينيّة روان الضامن، بل كان مستورداً من وثائقي فرنسي-إسرائيلي يحمل اسماً غير الاسم الذي حمله على شاشة وليّ العهد السعودي.يبدأ الوثائقي-الدعائي بالحديث عن قرارِ الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين في تشرين الثاني ١٩٤٧. وهو لم ينقلْ، في شرح ظروف تبنّي القرار، إلا رواية المندوب الصهيوني، أبا إيبان (نراهُ على الشاشة جالساً بقربِ صديقِه، شارل مالك، الذي، بالإضافة إلى مهامه في تمثيل وجهة النظر العربيّة، كان مقرّباً من الصهاينة وزارَ في أيّار ١٩٥٩ الركنَ الإسرائيلي في معرض نيويورك العالمي في بادرة «صداقة») (1). اعتبر الوثائقي أن شهادة أبا إيبان هي الوحيدة، أو أن عنده فقط الخبر اليقين عن تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي. لكن القرار في الحقيقة لم يكن نتيجة قوّة حجّة أو مهارة خطابيّة مِن إيبان بقدر ما كان نتيجة ألعاب قذرة وضغوطاتٍ عنيفة مِن الحكومة الأميركيّة وأجهزة الحزب الديموقراطي. قرارُ التقسيم أتى في سياق تجاهله التقرير الصهيوني بالكامِل.
وكانت الأمم المتحدة قد شكّلت وفداً أمميّاً (من ١١ دولة) أقامَ في فلسطين لمدّة خمسة أسابيع، وعاد أدارجَه في تمّوز ١٩٤٧. والوفد التقى مع الصهاينة وكان شاهداً على إرهابهم لكن العربَ قاطعوه لأنهم لم يروا أن الأمم المتحدة جديّة في إحقاق الحق العربي (وكانوا على حق). وكان أعضاء الوفد مُجمعين في طلبهم في تقريرهم في آب على ضرورة إنهاء الاحتلال البريطاني وتحقيق استقلال فلسطين. وانقسمت اللجنة حول طبيعة الدولة الجديدة: الأكثريّة في اللجنة طالبت بتقسيم فلسطين إلى دولة يهوديّة وأخرى فلسطينيّة على أن تُدوَّل القدس ومحيطها. لكن الأقليّة (إيران ويوغوسلوفيا والهند) طالبت بإنشاء دولة فيدراليّة مستقلة تعطي للفلسطينيّين أكثر مما أعطاهم تقرير الأكثريّة في اللجنة.
وكانت وزارة الخارجيّة الأميركيّة منحازة ضد مشروع التقسيم لكن مستشار ترومان، ديفيد نايلز، حرصَ على تعيين جنرالٍ صهيونيٍّ في الوفد الأميركي في الأمم المتحدة كي يتجاوز وزارة الخارجيّة في تقديم مشورة مباشرة إلى البيت الأبيض. وعندما وافقَت البعثة الأميركيّة في الأمم المتحدة على منح النقب للدولة العربيّة المنشودة، اتصلَ ترومان (الذي كان يصيح حتى مماته أمامَ الجمهور اليهودي: «أنا قورش. أنا قورش») شخصيّاً بالوفد وأمره بالتراجع عن قراره. واعترفَ ترومان (المعروف بكرهه لليهود في الغرف المُغلقة) أنه لم يشهدْ ضغطاً على إدارتِه كما شهد في تلك الفترة: «لم أرَ مثل هذا الضغط والدعاية السياسيّة مُوجّهة إلى البيت الأبيض كما حدث في تلك الفترة». (2) وقد شارك في حملة الضغط على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قضاةُ المحكمة الأميركيّة العليا وأعضاء الكونغرس ونافذون صهاينة. ممثّل الفيليبين، مثلاً، الجنرال كارلوس رومولو، ندّدَ بالظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني وصرّحَ ضدَّ قرار التقسيم. ضغطت الحكومة الأميركيّة على الحكومة الفيليبينيّة (التي كانت محتاجة إلى دعم اقتصادي أميركي)، وفجأة وافقت البعثة الفيليبينيّة على القرار، وتم استدعاء الجنرال رومولو. (3) الجنرال رومولو تحدّثَ بحرقة في مذكّراته عن تلك الأيّام العصيبة، وروى كيف اتصل به عضو كونغرس صهيوني وطالبه بصفاقة بعكس تصويته. استقالَ رومولو بعد أن استجاب رئيسه للضغط الصهيوني. (4) وحدثَ الأمر نفسه مع حكومة سيام (تايلندا في ما بعد): الديبلوماسي الذي عارض التقسيم استُدعي إلى بلاده بعد ممارسة ضغط من الحكومة الأميركيّة على حكومته.
الوثائقي موغلٌ في خدمة الدعاية الصهيونيّة إلى درجة أن الراوي زوّرَ في الاستشهاد بنصّ وعد بلفور


وضغطت شركة «فايرستون» لصناعة المطّاط على حكومة ليبريا، كما أنّ السفير الليبيري اشتكى من تهديد واشنطن بقطعِ المساعدات عن بلاده. (5) ويُرجّح أن التهديد بالعقاب الاقتصادي هو الذي كان أيضاً وراء تصويت هيتي. (6) وقد زار الصهيوني برنارد باروخ (صهيوني من أنصار «الإرغون» وكان نافذاً في الحزب الديموقراطي ومستشاراً لفرانكلن روزفلت) الوفد الفرنسي في الأمم المتحدة وهدّدَ بقطع المساعدات الأميركيّة التي كانت فرنسا بأمسّ الحاجة إليها (وهذا غيّرَ موقف فرنسا، وموقفِ جيرانها، بلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا). الحكومة الكوبيّة اعترفت بتعرّضِها لضغوط لكنّها صوتّت ضد قرار التقسيم. وقد شرّح كيرمت روزفلت (مسؤول المخابرات الأميركيّة ومُخطّط الانقلابات فيها) في مقالة له طبيعة الضغط الأميركي، وكيف انهالت برقيّات واتصالات من أعضاء الكونغرس تأمرُ دولاً صغيرة وكبيرة بالتراجع عن موافقها لمصلحة قرار التقسيم وذلك باسم الحكومة الأميركيّة. (7)
وفي الحديثِ عن ثيودور هرتزل، يزوّر الوثائقي التاريخ ويوحي أن هرتزل في كتابه «دولة اليهود» (وليس «الدولة اليهوديّة» وهي ترجمة غير صحيحة -ومقصودة - لعنوان الكتاب الأصلي بالألمانيّة، الذي أراده الصهاينة أن يكون أكثر يهوديّةً في رسمه الدولة وعنوانها الجغرافي مِما أراد هرتزل نفسه) صمّمَ على إنشاء دولة يهوديّة في فلسطين. ولم يكن ذلك صحيحاً إذ إن عنوان الفصل المعني بالمكان في الكتاب هو «الأرجنتين أم فلسطين؟». لم يكن هرتزل يكترث للمكان بقدر ما كان ينادي بإنشاء دولةٍ لليهود في مكان ما. وليس صحيحاً، كما زعمت الخبيرة الإسرائيليّة في الفيلم أن هرتزل كان صارماً في نقاشه مع المتديّنين اليهود والحاخامات. على العكس من ذلك: إن أشهراً فقط تفصلُ بين إصدار كتاب «دولة اليهود» (عام ١٨٩٦) وبين عقد المؤتمر اليهودي الأوّل في بازل في سويسرا سنة ١٨٩٧، وهذه الأشهر قضاها هرتزل يجولُ بين يهود أوروبا الشرقيّة المحافظين مستجدياً دعمهم لمشروعه، وعندها فقط قرّرَ أن يحسمَ أمر المكان لمصلحة فلسطين المأهولة بالسكّان طمعاً في حضورهم لمؤتمره الصهيوني التأسيسي. وهو طرحَ «مشروع أوغندا» كدولة لليهود في المؤتمر الصهيوني في عام ٢٠٠٣. ولا يكترث الوثائقي لإبراز عنصريّة هرتزل ضد العرب، وهو الذي عبّر عن حماسته للترويج لفكرة الدولة للجمهور الغربي على أساس المنطق العنصري، حيث قال في نفس كتاب «دولة اليهود»: «هناك في فسطين سنكون قطاعاً لجدار أوروبا ضد آسيا، سنلعب دور قلعة الحضارة ضد البربريّة».
ويستعينُ الوثائقي بشهادة سري نسيبة كأنه مؤرّخٌ للصراع، وهو يفاخر بصداقته لأموس عوز ولغيره من الإسرائيليّين. ونسيبة هذا، في كتابٍ له، يلومُ الشعب الفلسطيني، لا بل يلومُ والديه لأنهم لم يتثقّفوا بما فيه الكفاية عن المحرقة النازيّة ضد اليهود. وهو يعتقد أن عدم «تخيّل» كل طرفٍ لمعاناة الآخر هو في صلب الصراع العربي-الإسرائيلي. لم يعد الاحتلال هو المشكلة، بل انعدام الخيال. (8) ويقول نسيبة في شهادته إنه لا يجوز إنكار الوجود اليهودي في فلسطين، وإنه كانت لهم ثقافة ومؤسّسات. طبعاً، بالغ نسيبة كثيراً في وصف الوجود اليهودي في فلسطين. والأهم أن الشعبَ الفلسطيني لم ينكر في تاريخ صراعه الوجود اليهودي على أرض فلسطين، وكانت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى في أوائل القرن العشرين موجّهة ضد المهاجرين الجدد الذين لم يكن لهم وجود من قبل على أرض فلسطين.
والمؤرّخة الإسرائيليّة أنيتا شابيرا وصفت المهاجرين اليهود الجدد بـ«المثاليّين»، كأن المثاليّة هي حكر لليهود فقط، وكأن فرض الإرادة الصهيونيّة بالقوّة (منذ البداية) تدخل في حيّز المثاليّة. لكن وصف المثاليّة لاحقَ السرديّة التي وصفت «الكيبوتز» بـ«المثاليّة» هي أيضاً. كان ينقص لو أن المجازر الصهيونيّة ضد العرب قد وُصفت هي الأخرى بـ«المثاليّة». ويستعين الوثائقي بالكذبة التقليديّة عن تحويل الصهاينة أرضاً جرداء إلى أراض زراعيّة بالجدّ والجهد، كأن الشعب الفلسطيني لم يعرف الزراعة من قبل. وكان جبل نابلس في أوائل القرن التاسع عشر أكبر مُنتجٍ للقطن في الهلال الخصيب، كما يقول المؤرّخ بشارة دوماني. (9)
والوثائقي لا يصوّر حقيقة منع العرب من العمل في المنشآت اليهوديّة، إذ يقول مؤرّخ في الفيلم إنه لم يُسمح لـ«العمّال العرب المحليّين في بناء المستوطنات منذ البداية». لا، لم يكن المنع فقط في المستوطنات، هي طاولت المدن أيضاً حيث فرض الصهاينة ما أسموه «العمل العبري»، أي حظر توظيف العرب بالمطلق. ولا يزال المؤرّخون الصهاينة يجدون أعذاراً في هذا الفصل العنصري المؤسِّس في عمل المستوطنين اليهود عبر الإشارة إلى حب العمل والكدّ عند اليهود (10) (على أساس أن العرب كسالى). وكان العرب يطلقون وصف «المقاطعة اليهوديّة للعمّال العرب» (11)، وهو الوصف الدقيق للسياسة الصهيونيّة.
والوثائقي موغلٌ في خدمة الدعاية الصهيونيّة إلى درجة أن الراوي زوّرَ في الاستشهاد بنصّ وعد بلفور وزعمَ أنه لحظَ عدم الإخلال بـ«حقوق المجتمعات غير اليهوديّة». وهذا ما لم يردْ في الوعد. الوعدُ المشؤوم ألحقَ في جملة وعد إقامة «منزل قومي للشعب اليهودي» ذيلاً عن أن ذلك لا يعني «الإخلال بالحقوق المدنيّة والدينيّة للمجموعات غير اليهوديّة الموجودة في فلسطين». والعبارة هذه لما فيها مِن مهانة لأكثريّة السكّان ذهبت مثلاً في العقليّة الاستعماريّة، إذ إن تعريف أكثر من ٩٠٪ من السكّان آنذاك كان عبر وصفهم بما ليسوا هم فيه (أي «غير اليهود») وليس ما هم فيه (أي عرب) تعبير عن عقليّة عنصريّة لم تعترف بإنسانيّة العرب مقابل اليهود. والوعد اعترف بحقوق مدنيّة ودينيّة للعرب، فيما اعترف بالحقوق السياسيّة حصراً باليهود.
وبلغت صفاقة التقرير أن وصفَ الاحتجاجات العربيّة ضد الغزاة الصهاينة بـ«المظاهرات المعادية للسامية»، ونسبَها إلى ظهور القوميّة العربيّة. وهذا الوصف (وهو لازمة في السرديّات الصهيونيّة) سخيفٌ لأنه يوحي أن الشعب الفلسطيني كان سيكون مضيافاً لو أن الغزاة كانوا من البوذيّين أو الهندوس، مثلاً. الشعب الفلسطيني كان يحتجّ على فرض مشروع قومي على أرض يقطنها هو عبر قرون من الزمن، وبالتعايش (في الغالب) مع السكّان اليهود. وليس استمرار الوجود اليهودي التاريخي -وإن بأعداد صغيرة - إلا شهادة على التعايش بين اليهود والعرب في فلسطين على مرّ التاريخ. وفي الحديث عن المواجهات بين العرب، وبين اليهود والاستعمار البريطاني، فإن الوثائقي يُدرج الاحتجاج العربي تحت خانة الأعمال المعادية للسامية، مع أن الوجهة السياسة المعادية للصهيونيّة، منذ الاحتجاج الأوّل في احتفالات النبي موسى في ١٩٢٠، كانت واضحة في معاداتها للصهيونيّة (كما يورد المؤرّخ الأميركي في كتابه الشائع الاستعمال في الجامعات الأميركيّة، شارل دي سميث). (12) وشرارة العنف الأوّل غير واضحة المعالم لكن الاستفزازات الصهيونيّة لم تكن غائبة، خصوصاً أن الميليشيا التابعة لفلاديمير جابوتنسكي (التي كانت تُجري تدريبات ميليشاويّة عسكريّة يوميّة - وعلنيّة - وكانت تُعدّ بستمئة عنصر) بدأت الاستفزازات قبل الاحتفالات. وشهادة القنصل الفرنسي آنذاك تورد أن فتياناً يهود كانوا يقفون قرب بوابة يافا اعتدوا على بعض العرب بعض خطبة ألقاها محمد درويش من النادي العربي (كان النادي من فروع الجمعيّات المسيحيّة-المسلمة التي أنشأها الشعب الفلسطيني لصدّ محاولات الصهاينة لإحداث الفرقة بينهم وللتعبير غير الديني عن الوطنيّة الفلسطينيّة والقوميّة العربيّة). وسبق هذا الاعتداء دفع شاب يهودي شاباً عربياً كان يحمل علماً وطنيّاً. (13) و«العربيّة» أوردت عدد القتلى موحية بصراحة أن كلّهم كانوا من اليهود، وأنهم سقطوا ضحايا للكراهية العربيّة ضد اليهود. لكن ما وصفه الوثائقي باحتجاجات معادية للسامية كان اشتباكات بين متخاصمين خصوصاً أن فريقاً منهم كان يتبجّح بقوّته وجبروته مستفيداً من تغطية الاستعمار البريطاني له. ما لم يذكره الوثائقي أن أربعة من العرب سقطوا ضحايا فيما قُتِل ٥ من اليهود.

المفارقة أن حكومة الاستعمار البريطاني كانت أقل تحاملاً ومعاداة ضد العرب من تقرير «العربيّة»


لكن الدوافع الحقيقيّة للاحتجاج العربي لم تخفَ عن التقرير الرسمي للاستعمار البريطاني الذي تحدّث عن نقمة عربيّة ضد نقض حقوق العربي في وعد بلفور والإصرار العربي على تحقيق الاستقلال. (14) لكن وصف التقرير لما حدث في ما أسماه «الفلسطينيّون» «ثورة البراق»، فكان أكثر صفاقة في صهيونيّته. أصرّ السردُ على فصل صهيوني مألوف بين المسلمين والمسيحيّين، مع أن الشعب الفلسطيني وعى مبكراً للخطط الصهيونيّة المبكرة لإحداث الشقاق بين المسيحيّين والمسلمين. ففي ١٩٢٠، أي قبل «ثورة البراق»، زار حاييم وايزمن فلسطين، وطلب من مكتب استخبارات الحركة الصهيونيّة وضع خطة شاملة لمواجهة الرفض العربي للصهيونيّة (لم يقل تقريره «الرفض العربي لليهوديّة» على طريقة الوثائق الصهيوني المذكور)، وجاء في البند السادس من الخطة (بعد وضعها) ما يلي: «العمل على إثارة الشقاق بين المسلمين والمسيحيّين». (15)
غاب السياق السياسي الذي حدثت فيه الاشتباكات بين العرب واليهود. هو اكتفى بالحديث عن «مجازر ضد نساء وأطفال» ارتكبها عربٌ ضد يهود، واستعان بما أسماه «تقرير بريطاني» لتأكيد أن الدافع كان كراهية العرب لليهود. وأورد التقرير عدد الضحايا من اليهود من دون الإشارة إلى عدد الضحايا من العرب، كأنه لم يكن لهم ضحايا. لكن إذا كان ما حدث هو مجازر عربيّة موغلة في الكراهية ضد اليهود، فكيف يمكن سقوط ضحايا عرب؟ قُتل في الاشتباكات التي استمرّت أسبوعاً ١١٦ عربيّاً فيما قُتل لليهود ١٣٣. وقد كان اليهود يبالغون في استفزاز العرب نتيجة التغطية البريطانيّة، وتعبيراً عن شعور بالقوّة استمدّوه من زيادة أعدادهم عبر الهجرة المتنامية. وقد شاع التوتّر حول «البراق» («حائط المبكى» عند اليهود) منذ عام ١٩٢٨ عندما أدخل اليهود ستاراً للفصل بين المتعبّدين الذكور والنساء، وكان ذلك إخلالاً باتفاق تاريخي بين العرب واليهود على عدم تغيير معالم المكان. وتدخّلت حكومة الاستعمار البريطانيّة لإزالة الستار، لكن ذلك أدّى إلى حملة صهيونيّة عالميّة اتهمت المسلمين بارتكاب مجازر على طريقة «البوغروم» في روسيا. والمفارقة أنه لم يكن هناك أي دور للمسلمين في إزالة الستار في ذلك اليوم. وتلى ذلك مطالبة اليهود الرسميّة بوضع الحائط تحت سيطرتهم. أما رد الزعيم الصهيوني، حاييم وايزمن، فكان في الحسم بأن السيطرة على الحائط تحتاج إلى «دلق مزيد من اليهود في فلسطين» من أجل إحكام السيطرة الصهيونيّة السياسيّة على أرض فلسطين. لم يؤدِّ ذلك إلّا إلى تعزيز شكوك العرب. وفيما كان العرب يصمّمون على حماية الحائط، ردّ أتباع جابوتنسكي (الذي كتب أن الردّ على العرب يكون بإنشاء «جدار حديدي»، والذي ربط بين القوميّة اليهوديّة وبين «الوصفة العرقيّة» التي اعتبرها التعبير الأبلغ عن الأمّة) بتشكيل لجنة لحماية الجدار. وطالبت جريدة صهيونيّة يمينيّة ببناء الهيكل عن جديد (أي تهديم الأقصى). والشرارة لِما حدث في «ثورة البراق» لم تكن من صنع عربي: في ١٥ آب ١٩٢٩، مشى أتباع «البيتار» (منظمّة الشبيبة للحركة المتطرّفة التابعة لجابوتنسكي-وليس من معتدلين في الحركة الصهيونيّة، كما خَبِرنا) نحو الجدار، ورفعوا العلم الصهيوني وغنّوا النشيد القومي الصهيوني. لم يتحرّك العرب إلّا في اليوم التالي، ردّاً على مسيرة «البيتار». وكان هناك نشر لصور ورسوم تضمّنت وضع العلم الصهيوني فوق ما كان واضحاً انه الأقصى. (16) ولا شك أن قتل الأبرياء من الطرفيْن شاب تلك الحوادث، كما أن الطرفيْن اعتديا على أماكن دينيّة (قلّما تذكر المراجع اعتداء اليهود في تلك الاشتباكات على مسجد النبي عكاشة، مثلاً).
المفارقة من وراء مشاهدة التقرير أن حكومة الاستعمار البريطاني كانت أقل تحاملاً ومعاداة ضد العرب من تقرير محطة «العربيّة». في تقرير «شاو» الذي أصدرته الحكومة البريطانيّة عام ١٩٣٠، حدّدَ الهجرة اليهوديّة وشراء الأراضي كالأسباب التي أشعلت أحداث ١٩٢٩. وأورد التقرير البريطاني أن «طبقة من المُعدمين الناقمين» تنشأ، وطالبَ بالحدّ من نقل ملكيّة الأراضي إلى غير العرب. وأضاف التقرير بالحرف: «السبب الجوهري (لاندلاع الاشتباكات) هو الشعور العربي بالنقمة والعداء ضد اليهود (في فلسطين) نتيجة إحباط آمالهم السياسيّة والوطنيّة والخوف من المستقبل الاقتصادي. والشعور، كما هو اليوم، مبني على خوف مزدوج عند العرب من أن الهجرة اليهوديّة وشراء الأراضي يمكن أن تؤدّي إلى فقدانهم مصادر عيشهم ووضعهم تحت سيطرة اليهود الاقتصاديّة». (17)
(يتبع)

المراجع
(1) لم تعترضْ الحكومة اللبنانيّة كثيراً يومها، وقال رشيد كرامي إن الزيارة لن تؤثّر في سياسة لبنان نحو القضيّة الفلسطينيّة.
(2) راجع دبليو روجر لويس، «الإمبراطوريّة البريطانيّة في الشرق الأوسط: ١٩٤٥-١٩٥١»، ص. ٤٨٥.
(3) راجع كتاب فيلس بينيس، «قبل وبعد»: «السياسة الخارجيّة الأميركيّة وأزمة ١١ أيلول»، ص ٣٣.
(4) كارلوس رومولو، «مشيتُ مع أبطال»، ص. ٢٨٨.
(5) جون كويغلي، «فسطين وإسرائيل: تحدّي العدل»، ص. ٣٧.
(6) جيهان الطهري وأهارون برغمان، «حرب الخمسين سنة: إسرائيل والعرب»، ص. ٢٥.
(7) كيرمت روزفلت، «تقسيم فلسطين: درس في سياسة الضغط»، «ميدل إيست جورنال»، ص. ١٦.
(8) سري نسيبة، «كان هناك بلد: حياة فلسطينيّة»، ص. ١٢.
(9) بشارة دوماني، «إعادة اكتشاف فلسطين: التجّار والفلّاحون في جبل نابلس، ١٧٠٠-١٩٠٠»، ص. ١٣.
(10) راجع مثلاً غرشون شافير، «الأرض والعمل وجذور الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، ١٨٨٢-١٩١٤»، ص.٨١.
(11) راجع أطروحة الدكتوراه في التاريخ في جامعة جورجتاون عام ١٩٩١ لستيفن غلايزر بعنوان: «الدعاية وإعلانات العمل العبري المرعيّة من «الهستدروت»، ١٩٢٧-١٩٣٦».
(12) تشارلز دي سميث، «فلسطين والصراع العربي - الإسرائيلي»، ص. ١١٢.
(13) راجع مثلاً «العنف المديني في الشرق الأوسط»، تحرير ألريك فريتاغ وآخرين، ص. ١٨٨.
(14) راجع كتاب سامي هداوي، «الحصاد المرّ»، ص. ٤٦. ولا يزال هذا الكتاب الموضوع بالإنكليزيّة من أفضل الكتب المرجعيّة عن القضيّة الفلسطينيّة، لكنه لم يُترجَم بعد إلى العربيّة.
(15) راجع كتاب «جيش من الظلال»، لهيلي كوهين، ص. ١٧.
(16) راجع رواية توم سيغيف، «فلسطين واحدة، كاملة»، ص ٣٠٤.
(17) جون مارلو، «موق بيلاطس: رواية الانتداب البريطاني»، ص. ١١٧.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)