هناك في لبنان مَن يعترض على أيّ نقد مُوجّه إلى الجيش اللبناني أو قيادته، مُذكِّرين بأن القيادة السياسيّة للجيش هي المسؤولة أوّلاً وأخيراً عن قرارات الجيش. صحيح أن القيادة السياسيّة في لبنان، وهي منقسمة ومتضاربة على الدوام، هي التي تتحمّل المسؤوليّة الكبرى عن حالة الجيش وتدخّله وإدباره، وصحيح أيضاً أن انقسامها الطائفي والمِحوري شلّ ويشلّ عمل وقدرة الجيش. لكن للقيادة العسكريّة للجيش دورٌ كبيرٌ: يكبرُ أو يصغرُ الدورُ على مقاسِ شخصيّة وقياديّة القائد. في مرحلة ما قبلَ الحرب الأهليّة، كان لقائد الجيش سطوةٌ يستمدّها من الدور الإمبراطوري لرئيس الجمهوريّة آنذاك، لكن بعد الطائف، كان قادة الجيش اللبناني محكومين بسقف التوازنات السياسيّة والطائفيّة، وإن كان إميل لحوّد وحده - في حقبة قيادته للجيش - تمرّدَ على التوازنات وفرضَ عقيدةً عسكريّةً مناهضة بالفعل والقول للصهيونيّة، وأصرّ على التحام الجيش مع المقاومة. وحالةُ لحوّد في ذلك فريدة. قد يقول قائل (أو قائلة) إن هناك مَن أتى بعد لحّود واعتنق نفس العقيدة، لكن مراجعة التراجعات في الخطاب عند خلفاء لحوّد يشيرُ إلى سمات انتهازيّة يألفُها اللبنانيّون، كما يألفون التناقضات التي تمرّ بها سيرة رجال السياسة في لبنان.نظريّاً، لا تزال عقيدة الجيش اللبناني العسكريّة هي عقيدة مقاومة مناهضة للعدوّ الإسرائيلي، لكن التطبيقَ يرتبطُ بالزمن السياسي الراهن والطابع الشخصي الذي يضفيه كل قائد جيش على المؤسّسة العسكريّة. وحقبة جوزيف عون لا تزال في بداياتها لكنّه سجّلَ ثلاث زيارات عسكريّة إلى واشنطن في مدة قصيرة جداً. كما أن الظهور الإعلامي له، كما خطبه، تساهمُ في رسم صورة لشخصيّته ودوره في المؤسّسة العسكريّة. طبعاً، من الظلم إصدار حكم مبرم على دوره وهو لم يكمل بعد سنتيْن على رأس المؤسّسة لكن هناك ما يكفي لإبداء ملاحظات قلقة على أدائه في القيادة.
ليس الاهتمام الأميركي بالجيش اللبناني بريئاً. وليس التمويلُ والتسليح الأميركي للجيش بريئاً. ولا تخفي الحكومة الأميركيّة، كما الخبراءُ النافذون (الذين يدورون كالعادة في فلك اللوبي الصهيوني)، النيات الأميركيّة الخبيثة من هذا الاندفاع في تبنّي ورعاية قائد جيش لبنان. وقائد الجيش يساهم إراديّاً أو عفواً في خدمة الدعاية السياسيّة الأميركيّة بتعامله والتعبير المستمرّ عن امتنانه للمساعدات العسكريّة الأميركيّة للجيش.
مرَّ الاهتمام الأميركي العسكري بالجيش اللبناني بثلاث مراحل: المرحلة الأولى بعد الاستقلال، لكن هذا الاهتمام لم يتعاظم إلّا بعد صعود المقاومة الفلسطينيّة، عندما كان التحالف الأميركي - الإسرائيلي يحضّرُ الجيش الأردني واللبناني لمهمّة ضرب المقاومة الفلسطينيّة. وكانت الرئاسة اللبنانيّة في مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة تعتنقُ عن إيمان عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة، التي كان مفادها أن لبنانَ يجب أن يبقى ضعيفاً عسكريّاً تحاشياً لغضبة إسرائيل، وأن على الجيش أن يلعب دور «الشرطة المحليّة» والقمع الداخلي فقط. هذا الدورُ تجنّبَ بالكامل أعباء المواجهة الكبرى التي تحمّلها الجيشان السوري والمصري (حتى حرب ١٩٧٣)، لكنه - أي الجيش اللبناني حينها - تواطأ أيضاً مع العدوّ ضد المقاومة الفلسطينيّة (مثله مثل الجيش الأردني)، وهذا بات موثّقاً في ما صدرَ مِن وثائق أميركيّة أُفرجَ عنها في السنوات الماضية.
لماذا يتحدّث عون عن خطر إسرائيل بالعربيّة في لبنان ولا يتحدّث عنه في واشنطن بالإنكليزيّة؟


أما بعد الاجتياح الإسرائيلي، فإن دورَ الجيش بات مكرَّساً (بقرار أميركي-إسرائيلي-كتائبي مشترك) لوراثة جيش أنطوان لحد بعد دمجه في الجيش اللبناني وفق اتفاقية ١٧ أيّار المشؤومة. ولم تكتفِ الحكومة الأميركيّة بالمساهمة في بناء جيش يكون رديفاً وظهيراً للعدوّ، بل هي نشرت قوّاتِها كي تشارك في معارك أمين الجميّل الداخليّة، ما حوّل الجيش إلى ميلشيا من الميلشيات. لكن الخطة الأميركيّة لم تطلْ بعد انتفاضة ٦ شباط والانقسام الذي حلّ بالجيش، وتمرّدَ عناصر وضبّاط ضد التوجّهات السياسيّة والطائفيّة لقيادة الجيش ولحكم أمين الجميّل.
ولم تكن الحكومة الأميركية مكترثة كثيراً بأمر الجيش في المرحلة التي كان بأمسّ الحاجة إليها للمساعدة، أي في مرحلة الاحتلال الإسرائيلي الواسع للبنان. على العكس، هي أرادت من الجيش أن يسعفَ العدوّ الإسرائيلي في خططه، وهذا ما ظهر واضحاً في محاضر اجتماعات بشير الجميّل مع أرئيل شارون (التي نشرها مستشار الجميّل، جورج فريحة). ومرحلة بناء الجيش على أسس وطنيّة لا طائفيّة، وتوحيده بعد عقود من الانقسام جرت بتجاهل - إن لم يكن بعداء - من الحكومة الأميركيّة. لكن الاهتمامَ الأميركي الفائق بالجيش اللبناني تبدّى بعد اغتيال رفيق الحريري، ومراجعة أرقام المساعدات الأميركيّة للجيش قبلَ وبعدَ اغتيال تكفي للحكم على مخطّط واضح باستعمال الجيش لأغراض إسرائيليّة. لماذا وكيف قرّرت الحكومة الأميركيّة أن الجيش باتَ - هكذا فجأةً -يحتاج إلى مساعدات عاجلة، فيما كانت المساعدات قبل عاميْ ٢٠٠٥ و٢٠٠٦ شبه معدومة (زادت المساعدات الأميركيّة للجيش، من أقلّ من مليون دولار واحد في ما بين ٢٠٠٠ و٢٠٠٤ إلى أن أصبحت أكثر من ٤ ملايين في ٢٠٠٦ وأكثر من ٢٢٥ مليوناً في ٢٠٠٧)؟ ولماذا زادت المساعدات أكثر فأكثر بعد عدوان تمّوز الذي قهرت فيه قوى المقاومة المتطوّعة أعتى جيش في منطقة الشرق الأوسط؟ ولماذا هذا الدعم المُفاجئ للجيش عندها؟
هناك دائماً دورٌ إسرائيليٌّ مباشر وغير مباشر في قرارات التسليح الأميركيّة. الحكومة الأميركيّة من تلقاء نفسها تعتنق مبدأ التفوّق النوعي العسكري والاستراتيجي لدولة العدوّ كي تكون (الأخيرة) قادرة على هزيمة - ليس جيش عربي واحد وإنما - مجموعة من الجيوش أو الأخطار العربيّة أو الإيرانيّة، أي إن حكومة أميركا تضعُ المصلحة الإسرائيليّة نصبَ عينيها في تقرير أمر المساعدات العسكريّة والاقتصاديّة لأي دولة عربيّة. لكن يحدث أحياناً اختلاف في وجهة النظر بين الحكومة الأميركيّة وحكومة العدوّ، وأحياناً تنتصر حكومة العدوّ عبر اللوبي الإسرائيلي في واشنطن. وأحياناً - هذه من النوادر - يمكن للحكومة الأميركيّة أن نتنصر على اللوبي، كما حدث في إدارة ريغان عام ١٩٨١ في صفقة «أواكس» إلى السعوديّة. لكن حجّة الإدارة يومها كرّرت مقولة أن بيعَ طائرات «أواكس» سيفيدُ مصلحة أميركا وإسرائيل معاً. لكن الاعتراضات الإسرائيليّة على بيع السلاح الأميركي لأنظمة الخليج تبخّرت بعد ١٩٩١، عندما زال الدعم الخليجي لمنظمّة التحرير، وتنامى التواصل والتلاقي بين كل أنظمة الخليج ودولة الاحتلال. ورغم وثوق العلاقة بين الحكومة الأميركيّة وأنظمة الخليج، ورغم إعلانات موسميّة عن صفقات تسليح عملاقة لمصلحة أنظمة الخليج (ولمصلحة الخزينة الأميركيّة)، فإن السلاح والتكنولوجيا العسكريّة التي تتلقّاها إسرائيل تبقى متفوّقة (كمّاً ونوعاً) على السلاح الذي تتلقّاه أنظمة الخليج. والحكومة الأميركيّة تحافظ، عبر خبراء ومستشارين مزروعين في المؤسّسات العسكريّة في دول الخليج، على رقابة صارمة على وجهة وطرق استعمال السلاح الأميركي فيها.
تبنّت الحكومة الأميركيّة الجيش اللبناني بعد عدوان تمّوز، وذلك من أجل تقويض حجّة المقاومة في الدفاع عن لبنان (أدبيّات الصهيانة في واشنطن تصرّح بذلك). والحكومة الأميركيّة لا تخفي نيّاتها من وراء الدعم، وتكرّر أنها تفعل ذلك من أجل نزع شرعيّة المقاومة وتطبيق القرار ١٥٥٩ و١٧٠١ (مع تبنيّ الخروق الإسرائيليّة للقرار الأخير). وهناك نقاشات بين الصهاينة في الكونغرس وخارج الكونغرس - كل النقاشات حول الشرق الأوسط في المؤسّسات النافذة، الرسميّة وغير الرسميّة، هي نقاشات بين صهاينة - حول صوابيّة دعم الجيش.
وجوزيف عون لا يختلف عن ميشال سليمان وجان قهوجي في ترحيبه واحتفاله المفرط بالسلاح الأميركي. والإنفاق العسكري اللبناني على الجيش لا يزال متدنيّاً رغم حماسة الساسة في لبنان في كلامهم عن الجيش ودوره. والإنفاق يعاني من خلل في الاعتمادات إذ إن نحو ٨٠٪ من الميزانيّة تُنفق على المرتّبات. هذا الخلل يزيد حاجة الجيش إلى المساعدات الخارجيّة التي تعطي المانحَ حظوة ونفوذاً في داخل المؤسّسة. لكن المؤسّسة العسكريّة تحت قيادة عون تبالغ كثيراً في إعلانات الترحيب الرسميّة بالمساعدات العسكريّة، خصوصاً تلك التي تأتي من الولايات المتحدة. وأصبحت إعلانات الجيش التي تساهم فيها السفارة الأميركيّة في بيروت على مواقع التواصل الاجتماعي مدعاة للسخرية، إذ إن كل مساعدة، حتى لو كانت بسيطة، تتضمّن معدّات عسكريّة فرديّة، تُصاحَب باحتفال رسمي يتمثّل فيه قائد الجيش اللبناني بنفسه، مُسبغاً الشكر والعرفان لحكومة الدولة التي وفّرت الدعم المطلق للعدوّ في عدوان تمّوز، وفي كل اجتياح واحتلال إسرائيلي سابق عبر العقود (قائد الجيش أرسل ممثّلاً عنه في احتفال رسمي مع قوّات «اليونيفيل» قبل أسابيع لشكرهم على أدوات مستعملة بما فيها «قطع غيار لمولّدات» وهبتها للجيش. لعلّ الأخيرة تستبدل صواريخ المقاومة وتصبح هي رادعة العدوّ).
لكن هناك ما هو نافر في زيارات قائد الجيش اللبناني إلى واشنطن. الزيارات، طبعاً، لا تحظى بتغطية من الصحافة الأميركيّة. التغطية تتركّز في الصحافة اللبنانيّة والإسرائيليّة، وفي منشورات مراكز الأبحاث الصهيونيّة التي تتابع بدقّة متناهية العلاقات العسكريّة بين الحكومة الأميركيّة وبين الحكومات العربيّة. وفي كل خطب وكلمات وتصريحات عون في واشنطن يحرص على عدم ذكر إسرائيل واحتلالها وعدوانها المستمرّ على لبنان بكلمة واحدة. كل كلام عون في واشنطن يتركّز على محاربة الإرهاب، كأن «الإرهاب» (وعون مثله مثل الحليف الأميركي لا يشمل إرهاب العدوّ الذي كان أوّل من أدخل ممارسات الإرهاب إلى منطقة الشرق الأوسط برمّتها) بات الخطر الأكبر على لبنان. ليس الإرهاب هو الذي احتلّ لبنان وعرّضه لاجتياحات وعدوان وغارات، خصوصاً عندما يُفرَّغ هذا «الإرهاب» (بالتعريف الأميركي - الإسرائيلي) من المضمون الإسرائيلي.
إن مهمّة الجيش الأساسيّة هي الدفاع عن أرض لبنان وتحرير ما تبقّى من أراضيه المحتلّة من قبل إسرائيل. هل كان يمكن مثلاً لو أن الجنرال شارل ديغول عندما كان يجول في العالم، بعد أن وقعت فرنسا تحت الاحتلال النازي، أن يتحدّث عن الخطر الشيوعي وينسى خطر الإرهاب النازي الجاثم على أرضه؟ لكن عون في زياراته الثلاث لا يذكر احتلال وعدوان إسرائيل، ما يوحي أنه - وإن لم يقصد ذلك - يُطمئِن الصهاينة في الحكومة إلى أنه يشاركهم تعريفاتهم ومصطلحاته ومنطلقاتهم. لماذا يتحدّث عون باللغة العربيّة في لبنان عن خطر إسرائيل (لكنه يتحدّث عن هذا الخطر أقل من الذي سبقه في المنصب) ولا يتحدّث عن هذا الخطر في واشنطن بالإنكليزيّة؟
ثم هناك الحرب الأميركيّة المعلنة ضد حزب الله. ويجب أن نضع حرب أميركا ضد الحزب في سياق تاريخ طويل من الحروب الأميركيّة ضد كل منظمّة حملت السلاح ضد إسرائيل: تنظيمات دينيّة ويمينيّة ويساريّة علمانيّة كلّها وقعت في تصنيف الإرهاب الأميركي. بعضها والى حكومات علمانيّة مثلما أن حزب الله يوالي اليوم الحكومة الإيرانيّة، أي إن حرب أميركا لا تتعلّق بأيديولوجيا الحزب أو حتى بارتباطاته بالنظام الإيراني بقدر ما تتعلّق بخوضه القتال المسلّح ضد العدوّ الإسرائيلي. لكن ألم يكن من واجب قائد الجيش أن يدافع عن الذين صدّوا عدوان إسرائيل في ٢٠٠٦ وأذلّوه وهزموه - كما لم يهزَم في تاريخ صراعه مع الجيوش العربيّة - وكان عليه أن يفعل ذلك في واشنطن بالذات؟ ألا يستحق الذين استبسلوا في الدفاع عن لبنان، فيما كانت قوى عسكريّة رسميّة تقوم بـ«واجب» الضيافة مع المحتلّ، دفاعاً مِن قائد الجيش؟
وموضوع استغلال الجيش لغايات وأغراض ليست في مصلحة لبنان تدخل في صلب السياسة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط. والمسؤول عن ملف الشرق الأوسط في هذه الإدارة هو ديفيد شنكر، وهو ليس ديبلوماسيّاً وليس أكاديميّاً لكنه خرّيج الذراع الفكريّة للوبي الإسرائيلي، أي «مؤسّسة واشنطن» التي أصبحت محجّة للزائرين العرب (يُفرض على كل الوفود الصحافيّة العربيّة التي تحظى بجولات مرعيّة من وزارة الخارجيّة زيارة «مؤسّسة واشنطن» والاستماع لمواعظ من خبرائها). وشنكر من المؤمنين بدور الجيش اللبناني ويبدو أنه يتولّى لعبة دعم ونفخ الجيش لخدمة الغرض الإسرائيلي.

إذا كانت جهوزيّة الجيش معدومة في ٢٠٠٦، فما الذي تغيّر اليوم؟


لكن شنكر يتابع الوضع اللبناني عن كثب (زار لبنان والتقى مع قادة «ثوّار» الأرز (والبقدونس) خصوصاً عندما عمل في وزارة الدفاع الأميركيّة في عهد دبليو بوش) وكتب مرّة في ٢٠١٠، في نشرة «المؤسّسة»، عن سخرية اللبنانيّين من نوعيّة السلاح الذي يتلقّاه الجيش اللبناني من الحكومة الأميركيّة. لهذا إن نوعيّة طائرات رشّ المبيدات تتطوّر وتحاول الحكومة الأميركيّة في دعايتها الجديدة عن المساعدات أن توحي أنها تسلّح «سلاح الجو» في الجيش اللبناني كأن طائرات رشّ المبيدات تفي لتكوين سلاح جوّ. وشنكر في كتاباته عن الجيش اللبناني بالغ الصراحة ويقول إن الشعب اللبناني مخطئ إذا ظنّ أن أميركا تدعم الجيش لـ«ردع قصف إسرائيل أو لحماية لبنان منها». لا، هو شدّدَ أن ذلك الهدف لن يكون يوماً هدفاً أميركيّاً. الهدف بالتعريف الأميركي هو لخيارات «القدرات الداخليّة» (أي قدرات الجندرمة» التي تصلح في حرب على المخيّمات أو في حروب ضد الإرهاب تأذن لها واشنطن وتل أبيب). والحدود التي تشغل بال شنكر هي الحدود اللبنانيّة - السوريّة لا الحدود اللبنانيّة مع فلسطين.
لقد بلغت المساعدات الأميركيّة للجيش منذ ٢٠٠٦ نحو ١.٦ مليار. طبعاً، المساعدات ليست إلا تراكم تسليح قوّات الشرطة مع تضخيم في نوعيّة السلاح (حيث تصبح عربة نقل الجند «دبّابات» وتصبح طائرات رش المبيدات «طائرات مقاتلة» وتصبح طوّافات نقل الجند «طوّافات مقاتلة»، وهلم جرّاً). والزيارة الأخيرة لقائد الجيش كانت برعاية روبرت كارم، وهو مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي (خرّيج المدرسة الصهيونيّة الجمهوريّة في الكونغرس الأميركي). والإعلان الأميركي الرسمي عن الزيارة نوّه بدور الجيش في «طرد» «القاعدة» و«داعش» من لبنان. وهذا التنويه بات لازمة في الدعاية السياسيّة للسفارات الغربيّة في لبنان. لكن هل هناك مَن باتَ يصدّق في قيادة الجيش أن الجيش هو بالفعل مَن طَرد عناصر «القاعدة» و«داعش» من لبنان (كان وجود التنظيميْن على مدى عدة سنوات شبه مرعي من الحكومة الأميركيّة والإسرائيليّة ودول الخليج التي كانت تعوّل عليهم لإسقاط النظام السوري والقضاء على حزب الله في آن). لا بدّ أن الخبراء العسكريّين في الجيش يعلمون علم اليقين أن حزب الله وحلفاءه على الطرف الآخر من الحدود هم الذين طردوا تلك العناصر، وإن ساهم الجيش فيها في ساعاتها الأخيرة وذلك من أجل أن يقطف ثمار ما جرى على مدى سنوات. رفع المعنويّات ليس ضارّاً والجيش يحتاج إليها لكن ليس على حساب الحقيقة والواقع الميداني، وليس عندما تكون في سياق مخطّط غربي - إسرائيلي خبيث.
ولا ينفكّ قائد الجيش يتحدّث عن جهوزيّة الجيش في مواجهة عدوان إسرائيل (يقول ذلك بالعربيّة وفي لبنان فقط). لكن، ما هي عناصر هذه الجهوزيّة؟ إن كلامَ قائد الجيش يتطابق مع الكلام الذي قاله ميشال سليمان وإلياس المرّ في الأشهر والساعات التي سبقت حرب تمّوز. لكن كليْهما اختفيا من الصورة بعد اندلاع المعارك (فيما كان المرّ يقدّم النصح الطائفي والعسكري للعدوّ كما ظهر في وثائق «ويكليكس»). وإذا كانت جهوزيّة الجيش معدومة في ٢٠٠٦ عندما اعتمد لبنان على متطوّعين نجحوا في صدّ العدوان وإذلال العدوّ، فما الذي تغيّر اليوم؟ للجهوزيّة مقوّمات عسكريّة وماديّة كي لا تكون كلاماً إنشائيّاً مثل الكلام الذي قاله إلياس المرّ عندما هدّد قبل بدء العدوان أنه سيعلّم العدوّ «درساً لن ينساه»؟ هذه التصريحات العنتريّة والخطب الفضفاضة تسيء إلى الجيش وسمعته ومعنويّات ضبّاطه وجيوشه، إلّا إذا أراد لبنان العودة إلى بعكور مجيد أرسلان للدفاع عن لبنان.
لا، لا يتحمّل قائد الجيش المسؤوليّة عن عدم تسليح الجيش، لكن بمستطاعه مصارحة الشعب اللبناني بالقول إن أميركا (وإسرائيل من ورائها ومن أمامها) هي التي تمنع مدّ لبنان بالسلاح الفعّال ضد إسرائيل، وهي التي تمنع دولاً أخرى من مدّ لبنان بهذا السلاح. لا، وهي تضغط (منذ السبعينيات) على الدولة اللبنانيّة كي ترفض أي مساعدات تعرضها أي دولة على الجيش. إن نقصان تسليح الجيش ليس سهواً بل هو نتيجة خطة إسرائيليّة محكمة منذ السبعينيات من القرن الماضي، عندما كانت الدولة اللبنانيّة ترفض عروضاً من دول عربيّة لمد الجيش بسلاح رادع من صواريخ أرض جو إلى سلاح جوّي فعال. والمخطّط لا يزار سارياً، لكن لماذا التستّر عليه، ولماذا المشاركة في حفلات ومهرجانات وكرنفالات التسليح الأميركي التي تهدف إلى تلميع صورة أميركا وجرّ الجيش في مخططات للفتنة الداخليّة.
تسعى واشنطن حثيثاً إلى استيعاب الجيش ورعاية قائده (هو تخرّج من دورات صاعقة في الجيش السوري في سنوات مرحلة ماضية). والجيش يستضيف في لبنان نحو ١٥٠ خبيراً عسكرياً أميركياً، وذلك «بطلب من الجيش اللبناني» وفق الحكومة الأميركيّة. لكن ما هي الاتفاقات التي تحكم عمل هؤلاء الخبراء؟ هل هناك معاهدة أو اتفاقيّة وافق عليها مجلس الوزراء واطلع عليها مجلس النواب (مع أن الدستور الطائفي - من الطائِف - يخوّل الحكومة حجبَ معلومات عن مجلس النوّاب «لمصلحة البلاد وسلامة الدولة»؛ المادة ٥٢ من الدستور). طبعاً، الذريعة في الاستعانة بالأميركيّين هي تدريب الجيش في عمليّات مكافحة الإرهاب. لكن بات معلوماً أن التدريب الأميركي في العراق وأفغانستان كان فاشلاً جداً، والذين درّبتهم واشنطن هربوا أمام عناصر داعش في العراق، و«طالبان» في أفغانستان في تقدّم مستمرّ أمام جيش سلّحته ودرّبته أميركا.
يقول الخبير الإسرائيلي في شأن الجيش اللبناني في دولة الاحتلال، إلداد شافيت (خرّيج المؤسّسة الاستخباراتيّة وعمل في مكتب رئيس الوزراء قبل أن يصبح باحثاً في «مؤسّسة دراسات الأمن القومي)، إن التعويل الأميركي على الجيش اللبناني ومدّه بالسلاح ينبع من تفريق بين عناصره ومكوّناته، وإن هناك فيه عناصر تعادي سياسات حزب الله، أي إن الحكومة الأميركيّة تعترف بصفاقة في إثارته للفتنة والانقسام في صفوف الجيش. ما هي عقوبة هذه التهمة في القانون اللبناني لو غرّدَ بها لبناني ما؟ وكيف يفوتُ هذا المقصد عن أبحاث قائد الجيش في واشنطن؟ ثم إن الحكومة الأميركيّة في شهادات متوالية في لجان الكونغرس تؤكّد أن هناك «ضمانات» من أجل منع استعمال أي سلاح أو ذخيرة أميركيّة ضد العدوّ. ما هي هذه الضمانات ولماذا لا يفصح الجيش اللبناني عنها خصوصاً أنها خرق فاضح للسيادة اللبنانيّة التي لم يعرْها العدوّ الإسرائيلي اعتباراً منذ تأسيس الكيان؟ ونذكر كيف ثارت ثائرة الكونغرس عندما أطلقَ رشق رصاص واحد ضد العدوّ (واعتبر العقل العسكري الفذ، ميشال سليمان، أن رشق الرصاص هذا يصلح لاستراتيجيّة دفاعيّة لبنان). إن المقاومة هي رادع إسرائيل الوحيد وهي الحامي الأوّل والأخير عن لبنان، وكل إنكار لذلك يدخل في سياسة أعداء لبنان.
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)