المسألة ليست «قص ولزق»، كما سماها أحد نجوم «التوك شو»، فحتى أعتى عتاة التأثر بالغرب ومدارسه الفكرية والأيديولوجية، لم يخطر بباله أن تكون المسائل بهذا الابتسار والتهافت والردح التلفزيوني. فالعلاقة مع الأفكار هي علاقة بيئية حكماً. وربما هذا وللأسف جعل القص واللزق مستحيلاً، وللأسف مرة أخرى، فليس كل قص ولزق سيئاً، اللهم إلا من باب العنصرية.
وإلا لكان على الجمهرات العربية من عامة ونخبة ونجوم «توك شو» الاستغناء أو التعديل للكثير من منتجات التفكير الغربي، الذي يمكن اعتباره منجزاً عالمياً بالنظر إلى التاريخ الذي سرد لنا تداخل المنجزات الفكرية، في الحقب الزمنية، حيث نكتشف مشاركة جميع أقوام الأرض في صناعة المنجز المعرفي، غربياً كان أم «يابانياً»! واليوم يجري تناول أعتى المواضيع الفكرية تراثيةً، بواسطة مناهج التفكير الغربية. فأدوات التفكير هي تكنولوجيا أيضاً، التي لم يرفض (هذا الشرق) استيرادها واستخدامها، مع وضوح عدم فهمه لها أو تفاهمه معها. لذلك لا تبدو مقولة القص واللزق خارجة منطق الضراير، إذا أحسنّا الظن، فهي متشابهة مع الكثير من منجزات التفكير في هذا الشرق (وحتى المشرق) الحزين، حيث تبدو برعونتها ذاهلة عن حقيقة الاصطفاء الطبيعي، بمعناه الحداثي العولمي، فالعالم يعيش اليوم بسبب الاصطفاء الطبيعي، الفصل الأخير من حكاية انقسامه معرفياً إلى نوعين حضاريين مختلفين تماماً، أو حتى إلى عالمين منفصلين تماماً، بل إلى إنسانين غير متساويين حتى حقوقياً، ليس فيه مكان لصراع الحضارات، فلن تكون الحضارة المعرفية الجديدة لديها الاهتمام بنوع كهذا من الصراع، إنه الاصطفاء الطبيعي، الذي ستظهر نتائجه، عاجلاً أم آجلاً.
عندما تنقطع الطاقة أو الكهرباء تحديداً في مكان ما، انقطاعاً دائماً، فإنه سيعود إلى ما يشبه العصور الحجرية، (طبعاً بالمعايير الحالية)، فالطاقة بشكلها الحالي هي منجز تفكيري متوائم مع غيره من المنجزات ومترافق معها ارتقائياً، كما أنه معادل حقيقي، لا مشابه حقيقي لغيره من المنجزات فقط، فهذا المنجز (الغربي) الذي أخذناه قصاً ولزقاً من الغرب كتكنولوجية، ترافقه وتوازيه وتتفاعل معه كل المنجزات الأخرى، من المجتمع بتعريفه التقني إلى الدولة والحكومة والديمقراطية والحرية الفردية والجماعية، وحقوق الإنسان، وإلى ما هنالك من التنظيمات المجتمعية النشطة، التي لما يزل هذا الشرق يرفض استخدامها، قصاً ولزقاً أو تفاعلاً، وله (ويا للسخرية) آلاف الملاحظات حولها، لدرجة منع تقليد الغرب حتى بالاحتفال بعيد الحب (الذي هو بالمناسبة شرقي زراعي بامتياز). وهنا تبدو المقاربة واضحة، بين انقطاع الكهرباء عن منطقة ما، والانقطاع عن العيش المجتمعي بمعناه التقني الذي تكتنفه «بضع» مظاهر غربية، منها المجتمع والدولة والديمقراطية والمساواة وإلخ، حيث تبدو المسافة بين ما وصل إليه المجتمع كمنتج تفكيري، وما وصل إليه «الشرق»، مسافة شاسعة، ما يجعل الفارق النوعي شاسعاً أيضاً بين الطرفين. وبالتالي هناك فوارق هائلة في الإنتاج التفكيري من حيث دور التكنولوجيا في إعادة إنتاج العيش المجتمعي، فلا يبقى إلا العنف كبوابة جانبية تختصر مسافة عدم التساوي هذه، ويفترض هذا العنف تقليص هذه المسافة مجاناً، ليصبح العنف بأنواعه حلاً تخديرياً، تتمطط فيه الجمهرات البشرية إلى أقصى صبر ممكن، ومن ثم تنفجر الحروب الأهلية، التي يمكن النظر إليها على طريقة النظر إلى الثورة الفرنسية، على أمل التغيير والارتقاء نحو مجتمع ودولة، لكن المنتج التفكيري المحلي لا يتسع إلا للعنف الكارثي، إن كان عن طريق الاستبداد أو عن طريق الطائفية، أو عن طريق ثالث هو الجهل وممارسة الجهالة كحالة معرفية كاملة ومكتملة. وهنا يظهر فعل الاصطفاء الطبيعي، فالأقوام مسؤولة عن قضاياها وانتصار هذه القضايا، ولا ترى للآخر قضية محقة أو صحيحة إلا إذا كان ندّاً تفكيرياً ومعرفياً وإنتاجياً، بحيث يستطيعان التفاعل بالتبادل أو التنافس، حيث لا مكان يذكر للذين لا يملكون إلا أنواع العنف البدائي في هذه العملية، والعنف هنا يبدأ من قصر المُنتج التفكيري المعلوماتي على أداء معرفي متخلف، بمعنى إجبار العلم على القيام بأدوار تعاكس الغاية منه، ولا ينتهي هذا العنف إلا في حفرة التخلف العميقة، بهذا يكون الاصطفاء الطبيعي قد قام بدوره الطبيعي، دون تكلّف أو ظلم أو تلاعب.
الاصطفاء الطبيعي، هو حركة معاكسة لترويض البيئة (الطبيعة جزء منها) لتحقيق مصلحة العيش والاستمرار، وعادة ما يجري هذا الترويض بالتأقلم، أي بتغيير تكنولوجيات مواجهة التحديات المتجددة والمتوسعة، هذه المصلحة تمتلك طريقاً وحيدة للتأقلم هي الارتقاء، ومن محققات هذا الارتقاء، أنه يجب أن تكون ممارسة المفاهيم على نسق، لا على رتل، فهذا الاصطفاء هو نسق متراصف (جبهة) من الأسئلة، يجب التعامل معها على هذا الأساس دون اعتبار للأولويات، إذ لا مجال لاختيار أسئلة محددة، وإلا لاختلّت موازين الممارسة وأصبحت خلبية وتلفيقية، وفقدت مصلحة العيش والاستمرار طريقها الوحيدة. ففي الرتل محاولة للتقسيط والبعثرة وحلّ المسائل واحدة تلو الأخرى مما يستهلك زمن الارتقاء وتختلف الأسئلة برمّتها، فما أن يجد الارتقاء نفسه مضطراً إلى تغيير تقنياته لممارسة مفهوم مستجد، حتى وجب التغيير في كافة المناحي والفعاليات، كأنها على نسق واحد، كي لا يفعل الاصطفاء الطبيعي فعله الطبيعي إذا كان النسق متخلخلاً أو كان على رتل بفتح جبهات متعددة، فالديموقراطية كمثال على أدوات التغيير هي ديمقراطية أولاً ودون محسنات بديعية، عليها أن تنوجد وتظهر وتمارس في كافة مرتسمات الفعل الاجتماعي بكافة مناحيه، بما يعني نسقاً من العيش الديموقراطي، لا مجرد صندوق اقتراع كإجراء إداري خدمي، أو مشروطة بشعارات كالشعبية أو التعبيرية أو الطبقة العاملة، أو بخصوصيات الثقافة التراثية. وكلّها أرتال تتعامل إفرادياً وبالتقسيط الممل مع هذا المفهوم، وخصوصاً أنّ الغاية منها هي القيام بأداء مجتمعي يقوم على المسؤولية لا على الاستبداد المدمّر للتأقلم مع البيئة (على أية حال لم تتوافر تقنية أحسن منها في هذا المجال حتى الآن). فالديمقراطية لا تنتج مستبدين، إلا إذا كان استخدامها من ضمن رتل من المفاهيم، أو بالأحرى التكنولوجيات المتتابعة بفواصل زمنية، بشكل مفرد أو جماعي متوالٍ. وهذا يختلف تماماً عن استخدامها ضمن نسق من المفاهيم والتكنولوجيات المتكاملة، بفعل العلم وممارسة المعرفة، وهنا يبدو الاصطفاء الطبيعي مروّضاً ومتحكّماً فيه، فهو تحت النظر والمراقبة بالنسبة إلى المجتمعات التي تنجب دولة بالمعنى المعاصر.
على التوازي يتلطى الاصطفاء الطبيعي كامنا لمجتمعات (عدم القص واللزق) كي ينقض عليها على مفترق اسمه المساواة. فالمساواة الحقوقية ليست ترفاً أخلاقياً، بل هي مقوّم من أهمّ مقوّمات تجانس المجتمعات واجتماعها، يتيح لها فرصة إنتاج دولة على مسافة واحدة من الجميع، في جميع الحقوق والواجبات دون أدنى استثناء أو مواربة. وهذا ليس منة، لا من أكثرية سياسية أو غير سياسية، ولا من سلطة تحتكر العنف، فالمساواة مسألة حاسمة في التأسيس الاجتماعي، وهي مسألة دنيوية بالكامل، وأيضاً دون مواربة أو تلفيق، فإما أن تؤسس التجمعات البشرية مجتمعات تولّد دولة أو تواجه الاصطفاء الطبيعي، أو يضعها هذا الاصطفاء في مكانها الذي تستحقه، أيّ في حضارة أخرى، ولا يهم هنا إن كانت هذه الحضارة أرقى أو أحط من الحضارة الموجودة. فعدم المساواة قيمة غير قابلة للمعايرة، تقود إلى العنف بكافة أشكاله، ولعل الحروب الطائفية بكافة أشكالها ومظاهرها، تعبير حقيقي عن عدم المساواة. لذلك من الجزافي النظر في وجود دولة من عدمه، أو في وجود منجز تفكيري يتأقلم مع البيئة المعاصرة، ولعل الحروب الطائفية، كمثال على المنتج التفكيري المفضي إلى عدم المساواة، هي ذاتها اصطفاء طبيعي، ولأنها ليست من النوع التغييري على نمط الثورة الفرنسية، بل من النوع الكوارثي الذي يحل لآلاف السنين متأقلماً مع اللامساوة مؤسّساً لثقافة حقوقية متوالدة استنساخاً، تبرّر لهذا العطب تسببه بتعطيل ولادة المجتمع التعاقدي المعاصر لبيئته، فهل سيعفيها الاصطفاء الطبيعي من عدم مقدرتها على التأقلم مع المعطيات الجديدة للبيئة؟! وهو البارد المحايد الذي لا يأبه لمبررات أو أعذار أو ذرائع؟
لكل حلم بالتغيير أنموذجه الناجح الذي يعمل على تحقيقه، والمنجزات التفكيرية في هذه الكرة الأرضية أصبحت في مكان آخر وبعيد عن هذا الشرق الحزين والفخور، بحيث يبدو أن هناك استحالة لتبني حلم أو أنموذج ناجح، يستطيع هذا الشرق احتمال مستحقاته.
إن المتأمل لهذه التطورات الهائلة التي تحتاج إلى لغة وذهنية قادرة على التجريد كي يجري تخيلها وربما استيعابها، يوقن وعبر المقارنة أن البشرية قد أصبحت نوعين، لذلك يبدو تثريب (القص واللزق) الذي فاتنا، كدعوة يائسة إلى الانتحار شرط أن تكون على الطريقة التراثية، كي نستطيع أن نفخر ونقول (بيدي لا بيدك يا عمر) فكلّ من عليها فان.
* سيناريست سوري