لقد أدّت هزيمة حزيران إلى تخلّي الأنظمة العربية علانية عن فلسطين لصالح مشاريعهم التسووية، لكن نمو العمل الفدائي في شرق الأردن عطّل لبعض الوقت من هيمنة المعسكر الرجعي العربي على القرار الوطني الفلسطيني، خصوصاً بعد معركة الكرامة التي أكسبته تعاطفاً فلسطينياً غير مسبوق فانضم الآلاف من الفلسطينيين إلى حركة فتح التي قادت التصدي للعدو الصهيوني في مخيّم الكرامة. ومع أن العدو نجح في تدمير المخيّم وسقط العشرات من المناضلين الأبطال في المعركة، إلا أن اضطراره للانسحاب وترك آلياته وجثامين مرتزقته في ساحة المعركة، منح العمل الفدائي، كما كان يعرف حينذاك، شرعية شعبية لم يكن نظام عمان المتصهين قادراً على مواجهتها، ما سمح بتمدد الفدائيين إلى عمان وإربد والزرقا وإلى مخيمات اللاجئين في تلك المدن، إضافة إلى مخيم البقعة وهو أكبر تجمع فلسطيني (للاجئين) خارج فلسطين (الانتداب).«صبر» الرجعية العربية على العمل الثوري لم يطل حيث بدأ نظام عمان باختلاق معارك مع الفدائيين في مختلف أنحاء شرق الأردن، وتوّج ذلك بأيلول الأسود والذي انتهى إلى قرارات مؤتمر القمة في القاهرة في أيلول عام 1970، إذ فرض على التنظيمات الفلسطينية تسليم سلاحها لنظام عمان والانسحاب من الأردن.
لقد عايشت تلك الفترة شخصياً حيث كنت متمركزاً في مقر إعلام فتح المركزي في جبل الحسين، وأذكر أنه بعد ثلاثة أيام من القتال ضد قوات البادية المهاجمة (التي لم تتمكن من التقدم شبراً واحداً في المنطقة التي يمكن تسميتها وقتها بالمربع الأمني للعمل الفدائي في جبل الحسين، حيث مقار القيادة المشتركة للتنظيمات الفلسطينية المختلفة ومعظم مقار قياداتها) اضطرت لترك مدرعاتها ودبابتها وناقلات جنودها، بمن فيها من القتلى، المدمرة قرب دوار مكسيم، صدر الأمر بالانسحاب إلى المخيم (السيل)، والذي أدى، ضمن أمور أخرى، في نهاية المطاف إلى سقوطه.
واضح أن قيادة المنظمة حينذاك، صنيعة الرجعية العربية، قررت السير في مشروع الأخيرة والسعي للتصالح مع العدو الصهيوني، وهو ما حصل لاحقاً وإن على نحو مبتذل ومهزوم. لقد شكّلت قرارات قمة القاهرة، التي دعا إليها الرئيس جمال عبد الناصر، الطعنة الجديدة حيث أوكلت أمر حماية العمل الفدائي لنظام عمان الذي أطلق عليه خالد الذكر صفة النظام العاهر.
ما تلى ذلك معروف حيث انتقل العمل الفدائي إلى لبنان، ومن مشروع ثورة إلى ميليشيا تعتاش على أموال النفط الفاسدة والمفسدة. وتجلى ذلك في الفساد غير المسبوق فيها وفي الفضائح التي لا حصر لها، ومنها مثلاً فضائح مدارس المنظمة في الكويت وفضائح مدارس أبناء وبنات الشهداء في سوق الغرب، والقائمة تطول، واستمرار العمل على حصر السلطات كافة في يد رئيس المنظمة. علماً بأن أموال النفط كانت ترسل إليه شخصياً وليس لحسابات منظمة التحرير الرسمية ما مكّنه من تشكيل منظمة تابعة له وتأتمر بأمره، وما يتبع ذلك من أمور على جانب كبير من الخطورة. كما أن الأنظمة العربية كانت تصر على الاعتراف به رئيساً واحداً أوحد، وترفض التعامل مع أي من قادة التنظيمات الأخرى ما جعل منه «mr. palestine». لكن من العدل تأكيد أن ياسر عرفات تمتّع بكاريزما قرّبته من الجماهير.
هذه النظرة المقربة وغاية في الاختصار من «الثورة» الفلسطينية توضح الدور التآمري للأنظمة العربية على فلسطين الأرض والقضية والشعب. لقد بدأت الخيانة القومية بالحسين بن علي وابنيه عبد الله (الأول) وفيصل، وبنسليهما من بعدهما الذين وقعا صك الخيانة في عام 1919 لأنهما طمحا إلى أن يكونا خدم المستعمر في بلادنا. والأمر يتكرر اليوم في شخصين هما ابن سلمان وابن زايد. الأول يريد خلافة والده وحصر الحكم في ورثته، والثاني يريد الإطاحة بشقيقه خليفة وتولي رئاسة الإمارات العربية المتنازعة، مع أن النظام الوراثي في ذلك الكيان يعني أن أبناء خليفة هم من يجب أن ينوبوا عن والدهم في حياته ويخلفوه بعد رحيله؛ لكن مسألة الخلافة لا تقرر في أبو ظبي ولا في الرياض وإنما في لندن وواشنطن. ولأن هاتين الدولتين، مثل بقية مشيخات الخليج الفارسي، يعتمد وجودها اعتماداً كاملاً على حماية الأب الحنون في واشنطن والأم الحنون في لندن ورضاهما (وهو ما يصرح به ترامب على نحو دائم) فعليهما تقديم فروض الطاعة والولاء للسيد الذي يمسك بحاضرهما ومستقبلهما، عبر تبني مشاريعه الاستعمارية بلا قيد أو شرط، أو كما قال مظفر النواب «وذاك تخوزق طوعاً لا إكراه ولا بلوط». وغدر «الطموحين» (ابن سلمان وابن زايد) ليس بالجديد حيث غدر والد الأول بإخوته وابنه بأعمامه وأبناء عمومته، أما الثاني فقد غدر بشقيقه وبأبناء شقيقه وأمهم وهو استمرار لتاريخ طويل من الغدر في عشيرة آل نهيان حيث من النادر أن حكم أحدهم العشيرة من دون أن يُقتل، إما على يد أبيه أو شقيقه أو عمه؛ تاريخ آل نهيان دموي كما يرد في المراجع البريطانية والعثمانية، ومن لا يؤتمن على عائلته لا يمكن ائتمانه على قضايا مصيرية. تبنّي كل من «المحمدان» مشروع ترامب، أي «صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، يذكّرنا بالخونة الأعراب في الحرب العالمية الأولى حيث حاربوا إلى جانب المستعمِر فقط من أجل عرش قصبي، وما أشبه اليوم بالبارحة. إن الحديث في تطورات القضية الفلسطينية منذ سقوطها في يد الاحتلال غير ممكن من دون استعمال مستمر لمفردات نعت مثل «خيانة»، و«تواطؤ» و«تآمر» و«غدر» و«عقم» و«تهريج» و«هزائم»، وغير ذلك. أخيراً، إن ما كتبته هو تذكّر شخصي بصوت عال لنقاط عشتها وعايشتها، وليس تأريخاً للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. ونتمنى على من عاشر تلك المراحل من قيادات الصف الثاني وما تلاه إفادة أجيالنا الحالية بمذكراتهم كي نتعظ وندرك أسباب هزائمنا كي نتجنبها مستقبلاً.