«(الفئات المتعلّمة) هي أكثر من غُسل دماغه، والأكثر جهلاً، والأكثر غباءً بين فئات المجتمع… ولهذا أسباب وجيهة جداً» نوام تشومسكي، 1986

«لا شيء اسوأ من هذه العصابات من أنصاف المثقفين. إنّ نصف-ثقافة تدمّر الفطرة والغريزة من دون أن تستبدلها بضمير. كلّ ارستقراطيي الفكر هؤلاء الذين يصرّون على أنّهم لا يفكّرون مثل القطيع»
موريس باريس، 1898

«(المثقفون) قد حكموا نيابة عن باقي الطبقات، ولكنّهم هم من حكم فعليا. إنّ السلطة العامّة، في الحقيقة، تنتمي الى محترفي السياسة»
هوبير لاغارديل، 1901

«المثقّفون هم الفئة المأمورة ضمن الطبقة الآمرة»
بيار بورديو



الاقتباسات أعلاه، وهي كلّها من الكتاب الجديد لشلومو ساند «نهاية المثقف الفرنسي»، تهدف الى ايضاح نقطة أساسية يفصّلها ساند حول مجتمع المثقفين، وهي أنّ صعود مفهوم «المثقف» الحديث، في اواخر القرن التاسع عشر، قد ترافق مع أدبيات نقد المثقّف وذمّ فئة المثقّفين، وأنّ هذا النّقد كان غالباً ما يأتي (كما في حالة روسو وجورج سوريل وتشومسكي) من أناسٍ هم نفسهم «مثقّفون» بامتياز. في الوقت ذاته، فإنّ هذه الأدبيات النقديّة كانت الوجه الآخر للمفهوم المثالي عن المثقّف الذي تمّ الترويج له منذ أيّام اميل زولا: «المثقف الكوني»، المستقلّ، المتعالي عن المصالح والسلطة، العارف والخبير، والذي يصدر الأحكام في شؤونٍ تهمّ النّاس وينطق كـ«ضميرٍ» للجماعة.
هذه الفكرة النبيلة عن دور المثقّف الحديث، التي ولدت معه في باريس أساساً، وكرّستها «قضيّة درايفوس» وجدالاتها وعرائضها، هي ما يدفع بالآلاف من الشباب الى سلوك ميدان الثقافة، ومنهم شلومو ساند؛ الذي كان خياله مأخوذاً بنموذج «المثقف الكبير» الذي هيمن على المجال العام في القرن العشرين، ويجمع في شخصه السلطة المعنوية والاستقلالية والشجاعة، تمثّله شخصيات مثل زولا ودو بوفوار وسارتر. يبدأ ساند أكثر فصول الكتاب بقصّة شخصيّة من حياته، توضح تطوّر نظرته الى المثقفين و«المثقف الكبير» عبر السنين (منها واحدة طريفة عن وصوله الى باريس وانضمامه الى حزب عمّالي متطرّف، ليكتشف أن أكثر الأعضاء هم اساتذة أو طلاب أو موظفو دولة. وحين أسرّ الى رفيقٍ له بذلك ضحك وأخبره أنه، في اجتماعه الأوّل، دخل فجأةً شخصٌ الى القاعة، فاتجه صوبه الجميع تلقائياً وتحلّقوا حوله، فسأل من كان بجواره إن كان هذا هو القائد فأجابه «كلّا، هذا هو العامل»). بالنتيجة، لا يكتشف ساند ــــــ فحسب ــــــ أنّ العديد من مثله العليا لم يكونوا كما تخيلهم (من سارتر الذي لم يكتسب شجاعةً سياسية حتى خروج الجيش الألماني من باريس، وصولاً الى بورديو الذي بدأ حياته قبل أن يشتهر بالكتابة النقدية عن المثقفين كمجموعة مهنية، ثم انتهى الى المطالبة بما يشبه «جمهورية مثقفين» حين اعترفت به المؤسسة واقترب من السلطة)، بل ايضاً أن النموذج الذي كبر على تقديسه لم يعد ممكناً أو موجوداً في موطنه الأصلي، باريس.
يجب أن نتذكّر هنا أنّ ساند، رغم كتاباته النقدية تجاه الصهيونية وتأريخها وايديولوجيتها الّا أنّه، في الموقف السياسي، صهيوني عمليّاً؛ يدرّس في جامعة تل ابيب و«يقدّر» الدولة الاسرائيلية ويريد لها أن تستمر وأن تكون «علمانية». بمعنى آخر، هو يقطن في الأرض السليبة وقد بنى فيها حياةً جيّدة ولكنه لا يطرح ــــــ رغم انحيازه الفكري للانسانية ورفضه للعنصرية ـــــــ أي حلٍّ لمئات الملايين من العرب (وليس الفلسطينيين فحسب) الذين يحيطون بالكيان الصهيوني، من اليمن الى سوريا، ويتعرّضون الى العنف والاخضاع والحروب على يد الصهيونية وحلفائها في المنطقة والعالم. هذا دليلٌ اضافي على ظاهرة يؤكّدها ساند وهي أنّ المثقّف الحديث كان، في المحصلة، يتماهى غالباً مع قوميته ومع الدولة والنظام الذي يدرّبه ويرعاه، وإنّ العكس هو الاستثناء. أكثر المتعلّمين البريطانيين في القرن التاسع عشر، يقول ساند، كانوا يتطوّعون لخدمة الامبراطوريّة في الجيش ويعتبرون ذلك «واجباً» وجزءاً طبيعياً من مسارهم المهني؛ أغلب المثقفين الاوروبيين (وصولا الى أواسط القرن العشرين) دعم الحروب الاستعمارية وتوسع بلاده في العالم؛ والمحكمة العليا الأميركية، التي يفترض بها أن تمثّل عصارة الخبرة والثقافة والحكمة في المجتمع، أيّدت منذ أيّام قرار ترامب بمنع دخول مواطني دول مسلمة الى اميركا (والمحكمة ذاتها هي التي صادقت، خلال الحرب العالمية الثانية، على قرار سجن المواطنين من أصلٍ ياباني في معسكرات اعتقال).

«رأس المال الرمزي»
موضوع ساند المركزي هو تأريخٌ لدور وطبيعة المثقف في فرنسا منذ قضية درايفوس حين اصطفّ مثقفو فرنسا دفاعاً عن ضابطٍ يهوديّ وصولاً الى أيامنا الحالية ومفكّري «الموجة الجديدة»، مثل ألان فنكلكراوت واريك زِمّور، الذين يمثلون المؤسسة، ويروّج لهم الاعلام التلفزيوني، وينشغلون في التحريض على المسلمين وعقلنة العنصرية ضدّهم. غير أنّنا لن ندخل في هذا الجانب الخاص بفرنسا، وسنكتفي هنا بالتركيز على نقطتين نظريّتين تتعلقان بمفهوم المثقف (المثقف الحديث، حتى لا ندخل في فئات تاريخية مثل الكهنة أو رجال الدولة، كانت تتولى في مراحل سابقة مهام التعليم والبحث ونشر المعرفة).
النقطة الأولى هي أنّنا حين نتكلّم على مثقّفين، فإننا نتكلّم على أناسٍ يمتلكون «الراسمال الرمزي» في المجتمع. كما يشرح ساند، فإنّ «رأس المال الرمزي» هو ـــــــ كرأس المال النقدي تماماً ـــــــ موجودٌ حصراً ضمن علاقة اجتماعيّة. المال لا قيمة له الّا لأنّ النّاس (وخلفها نظام اجتماعي) تجمع على أنّ له قيمة، ولو قرّر المستهلكون فجأةً أن لا يتعاملوا بالنقد تصبح كلّ الأوراق المالية بلا قيمة فوراً، ولن تتمكّن من «استخدامها» أو أكلها مثلاً. رأس المال الرمزي، ايضاً، يعمل وتحدد قيمته ضمن سياقٍ اجتماعي تواصليّ. لو قرّرت النخب أو المؤسسة أو الجماهير أن أفكارك قيّمة فهي تصبح كذلك؛ وإن وجِدت في مجتمعٍ لا يقرأ أحدٌ فيه الفلسفة، مثلاً، فلن تكون لكتاباتك قيمة ولو كنت ارسطو ــــــ لهذا السّبب، بالمناسبة، من الغباء أن يشتكي المثقف على الدوام من طغيان «التفاهة» من حوله أو شيوع الكتابات السطحية والأفكار الخطأ؛ وأنّ النظام يرفع من لا يستحقّ ولا يقدّره هو. انت هنا لست في صفٍّ مدرسيّ، ولن تنال نجمةً مقابل الإجابة «الصحيحة»، بل في «سوق أفكارٍ» لها معاييرها الخاصّة وهي تحدّد قيمة الانتاج. الميزة الوحيدة التي يجب توقعها مقابل النزاهة الفكرية والتفكير النقدي والسعي نحو الحقيقة هي في مكانٍ آخر تماماً، وتتلخّص في أن تعرف عالمك أكثر، وأن تقدر على تقديم إجاباتٍ أفضل على ما يحيط بك من إشكاليات).
النقطة التأسيسية الثانية هي عن السياق التاريخي لصعود المثقف الحديث. بحسب ساند، المثقف هو نتاج الدولة الأمة والسياسة الجماعيّة. مع تشكّل الدول الحديثة والحاجة الى رابط قومي يشدّ أهل البلد اليه، ويدفعهم الى التطوّع في جيشه، نشأت بالتوازي حاجةٌ الى «العميل الثقافي» الذي يولّد هذه «الذاكرة الوطنية» وينشرها ويدرّسها للأجيال. من هنا ارفعت قيمة المثقفين بالنسبة الى الدّول، وأصبحوا حاجة لتشغيل المدارس والجامعات والإعلام. لهذا، يحاجج ساند، تجد أنّ الغالبية الكبرى من المثقّفين، في القرن الماضي، لا يشبهون سارتر بل كانوا أساساً جحافل من المتعلّمين قاموا بدورهم ضمن المؤسسة بإخلاص، وحصلوا بالمقابل على امتيازاتهم وهم راضون، وأعادوا انتاج «الإجماع الوطني» ولم يحاولوا هزّ المركب. «المثقّف النّقدي» كنموذج، أصلاً، ينتمي حصراً الى الحالة الليبرالية التعددية ضمن الحداثة، ولا تجده شائعاً في كلّ مجتمع مثقّفين. في الدول السلطوية أو الجمهوريات الثورية في العالم الثالث، مثلاً، لا توجد مساحة استقلالية يملكها المثقف تجاه الدولة، ولم تتمكن أي جماعة فكريّة من انتزاع هامشٍ من هذا النوع. أمّا في الدول الغربية التي نشأ فيها تقليدٌ انتخابي وتبادل سلطة، فإنّ هذه العمليّة قد أعطت المثقّف درجةً من الاستقلالية تجاه الدولة والسوق في آن؛ ولأنّ مصير السياسي يعتمد على مسار الرأي العام في ظلّ تبادل السلطة واللعبة الانتخابية، فقد أصبح للمثقف، الذي يلعب دوراً في تشكيل هذا الرأي العام، أهميّة مضاعفة.
في هذا السياق «المناسب»، والاستثنائي، يولد «المثقف الكوني» مثل سارتر، الذي يعارض سياسات حكومته ويتماهى مع أعداء بلده ويعارض رأي المؤسسة والنخبة، ويصطفّ مع الضعفاء والمهاجرين ضدّهم من دون خوفٍ ومن غير أن تتأثر مكانته. حين تغيّر السياق، منذ السبعينيات، وتراجعت دولة الرعاية وخسر المثقّف هامشه أمام السوق ووسائل الإعلام الجديدة، انحدر نموذج «المثقف الكوني» حتى اختفى من باريس، وحلّ مكانه مثقفٌ يؤدّي الدور المعاكس تماماً: كلامه محلّيّ عن فرنسا حصراً، يبني نجوميته عبر تأليب الأكثرية على «الآخر» وتخويفهم منه، ويدعم سياسات حكومته ويزايد على مصلحتها (يذكر ساند رسالة مفتوحة مستوحاة من رسالة زولا «أنا أتّهم»، نُشرت بعيد هجوم «شارلي ايبدو» عام 2014، اتّهم فيها الروائي \ النجم ميشال ويلبيك رئيس جمهوريته بأنه لا يدعم الشرطة والجيش وقوى الأمن كما يجب، وأن الشعب الفرنسي لا يصدق كلام «اليساريين» عن التسامح مع اللاجئين والمهاجرين الأجانب). هنا، باختصار، لبّ الحجّة التي يقدّمها ساند.

في مديح الثقافة
مهما يكن موقفك من المثقفين في عصرك ومجتمعك، فإنّ هذا لا يجب أن ينسحب على موقفٍ من الثقافة؛ فالموقف المعادي للثقافة هو اسوأ ما يمكن أن يحصل للإنسان. كما يقول صديقي السوداني محمود المعتصم، فإنّ «الثقافة هي أجمل شيء في الدنيا»: هي ما يسمح لك بأن تتعرف على عالمك ولا تعيش في عتمة الجّهل، وأن تستنبط حلولاً لكلّ مستحيلٍ يواجهك، وأن تتخيّل واقعاً غير موجودٍ وتجعله حقيقة. من غير ثقافةٍ لا يوجد أملٌ ولا عقلٌ ولا تراكم. حتى الدين والايديولوجيا لا يمكنك أن تتعرف اليها بشكلٍ مباشر، بل عبر وساطة الثقافة والفكر. حين تنقد المنظومة الثقافية في مجتمعك، فأنت لا تنقد الثقافة في ذاتها، بل الاحتكار الثقافي، وأنّ الثقافة توزّع على الناس حصصاً وأنصبة، ولا ينالها من يستحقّها وأنها ليست متاحةً بالتساوي للجميع.
المسألة نفسها تنسحب على فكرة «المثقف» وهو، كما رأينا، ليس شيئاً واحداً. على حدّ قول المفكّر الماركسي وليم هِنتون، فإنّ نقد المثقّف بالمطلق لا يعني شيئاً؛ كما أنّ الطبقة المسيطرة يمكن لها أن تدرّب مثقّفاً يخدم مصالحها وينشر منطقها، فإنّ في وسع الطبقة العاملة ايضاً أن تدرّب مثقّفاً يخدم في صفوفها. المشكلة في بلادٍ كبلادنا، وفي سياقنا التاريخي اليوم، أنّ هذا الخيار هو («بنيويّاً») شبه مستحيل، وفكرة أن تستخدم مؤسسات الهيمنة (كالاكاديميا والمنظمات الدولية) ضدّ الهيمنة، وأن تحاول أن «تغيّرها من الداخل»، يشبه أن تتحوّل وجماعتك الى دينٍ جديد على أمل أن تفرض معتقدك السابق عبره (يشير ساند الى أنّ العنصر المشترك بين مفكرين مثل سارتر وجيد، أخذا مواقف جذرية بالفعل في السياسة وقضايا الساعة في الوسط الفرنسي، هو أنهما لم يعتمدا على التعليم الجامعي ولم ينضمّا الى السلك الوظيفي).
الأساس هو أن تنظر الى مجتمع المثقفين من خارج الاطار المثالي الذي لا نجده في الواقع، ومن خارج هيبة «الخبراء» التي تعزّز الرأسمال الرمزي لأصحابها، وتعطيهم سلطةً في التقرير حتى في المجالات التي لا يتقنونها (منذ أكثر من قرن، تكلّم الماركسي بول لافارج عن «علماء الطبيعة الذين، بسبب معرفتهم بالمحار، يؤمنون بأنّ في وسعهم ادارة المجتمعات البشرية»). حين تنظر الى المسألة، كبورديو مثلاً، على أنها اصطفافات ضمن «حقلٍ للانتاج الثقافي»، تصبح الأمور مختلفة. عن قضية درايفوس مثلاً، يورد ساند ــــــ بنقدية ــــــ نظرية مثيرة تقول بأنّ اثارة قضية الضابط لم يكن لها علاقة بالقيم الكونية وحس العدالة والتعاطف مع الأقليات، بل مجموعات مثقّفين و«شلل» تتنافس على رأس المال الرمزي وتريد أن «يعلّم» بعضها على البعض الآخ. كانت الانتلجنسيا في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر منقسمةً الى ثلاثة أقسام: فئة تضمنها مداخيل من الدولة والأكاديميا الفرنسية وهم مثقفو المؤسسة الذين ناصروا الدولة ضد درايفوس، وفئةٌ هامشية من سورياليين وتجريبيين، وفئة أكبر من المثقفين الذين تمكّنوا من العيش والارتزاق من الكتابة والجمهور فحسب (مثل زولا). قضيّة درايفوس مرّت في المرة الأولى ــــــ عام 1894 ــــــ من دون جدالٍ كبيرٍ أو اعتراض، ولكن الجبهة تشكّلت بعد ذلك بسنوات، عام 1898، حين وجدت فئة السورياليين والهامشيين (وبينهم من «مؤيدي درايفوس» كارهون لليهود وليبراليون انسانيون) فرصةً لضرب الفئة الأولى (وبينهم ايضاً، من «معارضي درايفوس»، كارهون لليهود وليبراليون انسانيون) وسحب الصدارة الثقافية والمنصّة الأخلاقية منها.
قبل كلّ شيء، هناك قولٌ شهيرٌ لجورج اورويل، اقتبسه شلومو ساند، قد يشرح بشكلٍ أبسط أولويات المثقف الحديث في عصرنا. على عكس باريس، لم يحظ المثقف البريطاني بمكانٍ ذي هيبةٍ وسلطة في المجال العام، وهو ما جعل المثقفين البريطانيين أقلّ غروراً وأكثر تواضعاً في نظرتهم الى أنفسهم. من هنا، ربّما، حين سئل اورويل عن الحوافز التي تدفعه للكتابة أجاب بصدقٍ أنّ الحافز الأوّل عند الكاتب هو غالباً الغرور؛ أي أن يشعر أنه ذكيّ ومميّز وينال «برستيج» ويغيظ أعدائه. الحافز الثاني هو الحافز الجمالي، الاكتفاء الذي تناله بعد اتمامٍ نصٍّ أو عملٍ فنّيّ. الدافع الثالث هو «المسؤولية التاريخية» في حفظ الحقيقة ونقلها للأجيال المقبلة. أمّا الدافع السياسي الغيريّ والسعي الى تحسين العالم وشؤون الناس، فوضعه أورويل في المرتبة الرابعة والأخيرة.