تبدو المشكلة في الحديث عن «الإصلاح» في السعودية في إحالة هذا الحديث إلى مفهوم مطّاط يمكن أن يعبّر عن تفسيرات مختلفة تتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو ما يجعل النقاش في طبيعة المصطلح وإعادة تعريفه وتحديده أمراً ضرورياً، وخصوصاً أنه يستخدم لأغراض متعددة قد تكون متناقضة في بعض الأحيان.
من هنا، لا يبدو التمسك بالمصطلح العائم أمراً جيداً في سياق التحديد الدقيق للأفكار الأساسية، فالإصلاح يحتاج إلى شرح وتوضيح لماهيته، والانطلاق نحو تحديد رؤية واضحة للإصلاح ومفاهيم يبنى عليها مشروع واضح المعالم، لذلك من المهم الحديث عن مجموعة من الأفكار الرئيسية التي تميّز رؤية ومشروعاً «ديموقراطياً» عن رؤى أخرى ترفع شعارات الإصلاح دون الالتزام بمبادئ الديموقراطية.
لكن قبل الولوج إلى المسألة الديموقراطية، يبدو من المهم الوقوف عند مسألة تأسيسية أخرى متعلقة بأزمات الهوية التي نشهدها في السعودية وفي الدول العربية المجاورة، والتي أدَّت وتؤدي إلى انقسامات اجتماعية عميقة واحتراب أهلي في أكثر من بلد عربي، سببه غياب هوية وطنية جامعة وتصاعد الهويات الطائفية لتحتل المشهد. قد لا نجد اهتماماً كبيراً من قبل كثير من المعنيين بقضايا الإصلاح السياسي بأزمة الهوية، وبعضهم يظن أن تحقيق بعض المطالب الإصلاحية كفيل بحل كل الإشكالات الموجودة على الساحة، وهذا الوهم ينتج ابتعادهم عن البحث في أزمات مثل أزمة الهوية، رغم خطورتها على المشروع الإصلاحي وتهديدها الكبير له.
في السعودية، هناك أزمة هوية وطنية، فالهوية الجامعة مفقودة، والأفراد يعبّرون عن أنفسهم في الفضاء العام بهويات مذهبية ومناطقية وعشائرية، وتضخم الهويات الفرعية هذا على حساب وجود هوية جامعة للمواطنين يجعل الأزمات والإشكالات المتعلقة بالهوية تتسيد الساحة، وخصوصاً في ظل معايشتنا للصراع الطائفي في أكثر من بلد عربي، وانعكاسات هذا الصراع على أبناء المجتمع.

أهمية مسألة الهوية

لماذا نناقش مسألة الهوية في خضم الحديث عن الإصلاح السياسي والتغيير؟ الإجابة تتعلق بأمرين رئيسيين: السلم الأهلي، والتحول الديموقراطي. لا يمكننا في أي محاولة تأسيسية وفي أي حديث حول تفعيل المشاركة الشعبية في صناعة القرار أن نغفل هذين الأمرين، فالحديث عن مشاركة شعبية مع تضخم الهويات الفرعية يعني تقويض هذه المشاركة وتحويلها إلى صراعات طائفية على الطريقة العراقية واللبنانية، ويعني أيضاً وجود خطر الاحتراب الأهلي مع تضخم هذه الهويات.
إن الحفاظ على السلم الأهلي يستدعي وجود جامع مشترك بين المواطنين، لا يلغي هوياتهم الفرعية، لكنه يقدم الرابطة التي تحفظ التماسك الاجتماعي وتعزز الوحدة الوطنية وتؤكد على أنهم ينتمون إلى جماعة سياسية واحدة (تعزيز الانتماء الوطني)، ومن خلال تعزيز الوحدة والتضامن الاجتماعي يمكن الولوج إلى عملية ديموقراطية سليمة، يحصل فيها تنافس بين مشاريع سياسية على تمثيل مصالح هذه الجماعة السياسية الموحدة (الشعب)، ولا يتحول هذا التنافس إلى احتراب أهلي وصراع طائفي بارد داخل المؤسسات أو ساخن في الشارع.
القول إن حسم مسألة الهوية ضرورة للسلم الأهلي وللتحول الديموقراطي لا يعني اشتراط حسم الهوية وفرضها بالقوة أولاً قبل المناداة بأي مطلب ديموقراطي، بل يعني أخذ مسألة الهوية بجدية كبيرة ضمن مطالب التحول الديموقراطي، والحديث عن الهوية الجامعة «بالتوازي» مع الحديث عن التحول الديموقراطي والتأكيد على أهمية حسمها عبر الحوار والجدل العمومي بين الأطياف المختلفة، وفهم مأزق وجود صناديق انتخابية في ظل انقسامات طائفية وعشائرية وغياب هوية جامعة، والعمل على إيجاد أرضية هوياتية مشتركة يحصل على أساسها التنافس بين مشاريع سياسية داخل جماعة موحدة لها السيادة، لا الصراع بين جماعات ذات هويات متناقضة تتنازع على السيادة.

دولة الأمة والتجانس التام

الدولة الحديثة (أو دولة الأمة) ليست محايدة ثقافياً، بل هي بطبيعتها منحازة ثقافياً لثقافة أغلبية الأمة التي تمثلها. العالم مقسّم إلى أمم، لكل منها شخصيتها وتاريخها، والدولة الحديثة تمثل أمة لها هوية وتاريخ، وهكذا هي الديموقراطيات الليبرالية الغربية، فهي ليست محايدة ثقافياً، وهي تعبّر عن هوية أمة تمثلها، ينطبق هذا على فرنسا وألمانيا وحتى أميركا، وبالتالي لا يمكن الحديث عن دولة حديثة من دون التطرق إلى هوية الأمة التي تمثلها.
يؤكد الفيلسوف الليبرالي ويل كيملكا أن التوافق على المبادئ السياسية لا يكفي لتحقيق التضامن الاجتماعي داخل الدولة، فهناك آخرون خارج الدولة قد يتبنّون المبادئ نفسها، وبالتالي تكتسب الحدود بين الدول معناها من السياقات الثقافية المختلفة للشعوب، وليس من العقد الاجتماعي أو المبادئ والأنظمة السياسية التي يتوافق عليها الناس، فما يميز جماعة سياسية ما عن جماعة أخرى على الطرف الآخر من الحدود هو تمتعها بهوية قومية خاصة بها ومتمايزة عن غيرها من الأمم والجماعات، فلا يمكن تخيل الجماعة الوطنية من دون تخيل الحدود التي تفصلها عن غيرها. وبعبارة أخرى: لا يمكن أن نحدد من «نحن» من دون معرفة ما يمايزنا عن «هم».
في الدول الحديثة المعبرة عن أمم راسخة في هويتها، يحصل ما يعتبره مايكل بيليغ إعادة إنتاج الهوية الوطنية في الخطاب اليومي، يحدث هذا باستدعاء مفاهيم ورموز وطنية في التفاصيل الصغيرة، من خلال العملات والطوابع، أو خطابات السياسيين والإعلام المحلي التي تؤكد على مسائل متعلقة بالوطنية. أي أن الهوية الوطنية لا تنتهي عند تكوين الدولة، وإنما يعاد إنتاجها باستمرار عبر الإعلام والتعليم والخطاب السياسي والتعاملات اليومية، وهو ما يعني أن المسألة حاضرة في التفاصيل اليومية وبشكل مستمر.
في العالم العربي نشأت مشكلة التجزئة، ومنها انبثقت مشكلة التعاطي مع ما هو وطني وما هو قومي، والكلمتان مترادفتان في أماكن أخرى من العالم نظراً إلى تطابق حدود الدولة مع حدود الأمة، لكننا بسبب التجزئة نعايش إشكالاً بين الكلمتين لأن حدود الدول العربية لا تطابق حدود الأمة العربية، وهكذا نشأت الدولة القُطرية في العالم العربي، باعتبارها تمثل جزءاً من أمة عربية لم تتمكن من تقرير مصيرها كبقية الأمم.
لم تنجح الدولة القطرية في صناعة هوية خاصة بها تستغني عبرها عن الهوية العربية، وكل محاولة في هذا الشأن باءت بالفشل، فقد تم تصعيد هويات «مَتحفية» كالفرعونية والبابلية والسريانية والفينيقية، ولم تنجح هذه الهويات في إيجاد رابطة مشتركة يشعر الناس في عصرنا بالانتماء إليها، وبقيت الرابطة العربية أقوى رغم عدم ترجمتها سياسياً في ظل انهيار المشاريع السياسية القومية وتراجعها. ما نعايشه اليوم في أكثر من بلد عربي هو نتيجة فشل الدولة القطرية في إيجاد هوية تجمع المواطنين، ما جعل الناس تعود إلى جماعاتها الأهلية (الطوائف والعشائر) لتعبر عن نفسها وتشعر بالحماية والأمان.
إن الحديث عن هوية جامعة في الوقت الحالي يأتي في ظل انقسامات عميقة واحترابات أهلية داخل المجتمعات العربية تهدد بتقسيم الدولة القُطرية نفسها، والدعوة إلى هوية جامعة لا تعني رفض التعددية والتنوع، بل إيجاد مظلة تشمل المواطنين (أو أغلبيتهم بالحد الأدنى) وتعبر عنهم.
لقد حاولت الدولة الحديثة في البدايات إدماج الأقليات قسراً في هوية الأغلبية التي تبنتها الدولة، وكان أحد أبرز المنظرين الليبراليين تاريخياً جون ستيوارت ميل يؤكد على إمكانية تذويب قومية داخل أخرى، وخاصة إذا كانت الأقلية متخلفة ومتأخرة، وهو دعا في كتابه عن الحكومة التمثيلية إلى إدماج الباسك في فرنسا ضمن «شعب متطور ثقافياً وأكثر تحضراً».
لكن هذه المحاولة للإدماج القسري بغية تحقيق تجانس تام داخل الدولة فشلت وتجاوزها الزمن، وهكذا ظهرت مفاهيم التعددية الثقافية لمعالجة إشكالات الأقليات داخل الدولة، وخاصة في كندا وأميركا، حيث المجموعات الإثنو _ ثقافية المختلفة تعيش هناك وتطلب حقوقاً ثقافية خاصة و«اعترافاً» بها، والشاهد أنه ليس هناك هوية في الدول الغربية (التي تسلب لب كثيرين) تحقق تجانساً تاماً بين مواطنيها، كما أن التحديات تتوالى بهذا الخصوص، من ذلك تزايد الهجرات من شمال أفريقيا إلى الدول الأوروبية، وبعض الأقليات التي تطالب بالانفصال، كما هي حال دعاة الاستقلال الفلامنك في بلجيكا والكاتالونيين في إسبانيا.
ما يهمنا التأكيد عليه هو أننا نتحدث ضمن السياق العربي، وفي السياق العربي نحتاج إلى الإجابة عن سؤال الهوية وفق واقعنا وظروفنا، ونحن نعاني من الصراعات الطائفية المريرة، وهذا ما يجعلنا نؤكد على أهمية الهوية الجامعة في مواجهة التقسيم الطائفي.

الهوية الوطنية الغائبة

تحيل الهوية السعودية الحالية إلى أحد أمرين: هوية مذهبية سلفية تم تعميمها قسراً على مجموع المواطنين، أو جهاز الدولة الذي يختزل الهوية الوطنية بذاته. الأمران يخلقان أزمة الهوية التي نعاني منها، وتضخم الهويات الفرعية التي تعوض غياب هوية وطنية جامعة وتحاول مجابهة إشكالية الهوية المقدمة حالياً.
هناك من يتمسك بهذا الواقع، إما لأنه منحاز للهوية المذهبية الموجودة، وإما لأنه منحاز لجهاز الدولة ويريد إخضاع الأفراد لسلطة هذا الجهاز، بغضّ النظر عن كل شيء آخر. بعض هؤلاء ينحازون لجهاز الدولة انحيازاً شمولياً سافراً، والبعض الآخر يريد تغيير بعض التفاصيل الإجرائية وزيادة المشاركة الشعبية، معتبراً أن الهوية هي الجواز أو بطاقة الأحوال المدنية، وهذا لا يحل أزمة الهوية ولا يصنع هوية وطنية ولا شعباً أو جماعة وطنية.
التمسك بالأمر الواقع يعني تكريس الأزمة القائمة، وهكذا فإن البعض يفكر بإنتاج هوية جديدة، تؤكد على وجود شعب سعودي وأمة سعودية، تربط أفرادها رابطة وطنية خاصة، وهذا الأمر يحتاج إلى الإجابة عن سؤالين ليتحقق: ما هي عناصر الهوية السعودية الجديدة والتي تجعل من السعوديين أمة (أي جماعة متخيلة)؟ وما هي عناصر التمايز التي تعطي للحدود السعودية الحالية معنى وتمايز السعوديين عن العراقيين والأردنيين واليمنيين والعمانيين؟
إن الرغبة في إنتاج هوية جديدة تمايز السعوديين عن محيطهم وتصنع منهم أمة مستقلة بذاتها تحتاج إلى هوية ثقافية متمايزة عن المحيط، وتحوي عناصر من نوع مختلف، وتحتاج أيضاً إلى رواية تاريخية يشعر مجمل المواطنين بأنها تعبر عن تاريخهم المشترك، وهذا الأمر لا يبدو ممكناً، فلا توجد أدوات أو عناصر يمكن أن تقيم هذا الأمر خارج الثقافة العربية والسياق العربي

القومية ضد الوطنية؟

الرابطة العربية المتمثلة بالثقافة العربية والتاريخ العربي المشترك واللغة بوصفها وعاءً لهذه الثقافة العربية هي التي يمكن التعويل عليها في إيجاد انتماء مشترك لمجمل المواطنين في السعودية، وتحقيق التماسك الاجتماعي ومعالجة تضخم الهويات الفرعية وإعادتها إلى حجمها الطبيعي بعيداً عن المجال السياسي.
وعلى عكس الهوية المذهبية التقسيمية المقدَّمة حالياً، تعمل الهوية العربية على إيجاد رابط يعمّ جميع المواطنين بوصفهم عرباً بالثقافة والتاريخ المشترك. فالعروبة ليست رابطة عرقية، وإلا كان من الممكن استبعاد معظم العرب حالياً منها، فالحديث عن مجموعة من أصول آسيوية أو أفريقية داخل السعودية والقول إنهم ليسوا عرباً يتنافى مع تعريف العروبة باعتبارها رابطة ثقافية لا رابطة عرق أو دم، ومع الواقع الذي يحكي اندماج هؤلاء منذ زمن بعيد في الثقافة العربية، فلغتهم عربية منذ ولادتهم، وذاكرتهم التاريخية ورموزهم عرب، والسياق الذي ينشأون فيه ويعبرون من خلاله عربي، والقول إنهم ليسوا عرباً محاولة لتحويل انتمائهم العرقي إلى هوية جوهرانية متعالية على الزمان والمكان.
ليست الدعوة إلى الهوية العربية محاولة للتضاد مع الهوية الوطنية، بل على العكس تماماً، طرح الهوية العربية هو محاولة لتعبئة الهوية الوطنية بالمعنى، ولذلك فإن هذا الطرح يشدد على أهمية الهوية العربية داخل الدولة القُطرية لمعالجة أزمة الهوية التي تعاني منها، وهو ما يعني أن الرابطة الوطنية هي ذاتها الرابطة العربية في هذا الطرح، نظراً للفراغ الذي تعاني منه الهويات القُطرية، والذي تملأه الهوية العربية بالثقافة والتاريخ المشترك.
إن الحديث عن تناقض الوطنية مع العروبة لا معنى له، فعندما نعرِّف الرابطة الوطنية بأنها هي الرابطة العربية، وأن العروبة هي المكون الأساسي للوطنية داخل الدول العربية، تصبح الوطنية متطابقة مع الهوية العربية، ولا يعود الحديث عن تناقض المصالح الوطنية مع المصالح العربية ذا معنى، فعندما يكون جواب «من نحن» أننا عرب، تصبح مصالح العرب مصالحنا، وتصبح الدولة معنية بتمثيل شعبٍ عربي داخل حدودها، وهو ما يعني أنها تبني سياساتها واستراتيجياتها باعتبارها دولة تمثل جزءاً من الأمة العربية، وهي معنية بهذه الأمة ولا تنفصل عنها وعن قضاياها، كما أنها تندمج في إطار تكامل عربي سياسي واقتصادي وعسكري وأمني يمثل مصالح الشعوب العربية لا مصالح نخب حاكمة.
الهوية العربية في هذا الطرح هوية «نحيلة» بتعبير ويل كيملكا، أي أنها لا تفرض قيماً أو أنماط معيشة محددة، لكنها فقط تعمل من خلال اللغة والثقافة والتاريخ المشترك على إيجاد تضامن اجتماعي ووحدة وطنية داخل حدود الدولة القُطرية العربية. هذا الطرح أيضاً لا يقول بوجوب إيجاد دولة عربية واحدة عبر وحدة اندماجية في أقرب وقت، أو إلغاء الدولة القُطرية الحالية، لكنه يرغب في حماية هذه الدولة من التفتت والتقسيم، ومحاولة معالجة أزمة الهوية والشرعية الخاصة بها، عبر إعادة تعريفها لتكون دولة ممثلة لشعبٍ عربي، وتقليص سيادة حدودها الحالية (التي هي حدود نفوذ جهاز الدولة) لمصلحة حدود الأمة العربية من المحيط إلى الخليج عبر برامج تكامل عربي.
إن الهوية العربية تعبير عن كل المواطنين السعوديين، لأنهم جميعاً عرب، وهم يؤكدون هنا على انتماء مشترك يعبرون به عن وجودهم كشعب يشكل جزءاً من أمة عربية يتفاعل معها بشكل حيوي، وهذا يساعد على الاستقرار وإيجاد تضامن اجتماعي بعيداً عن الصراع الطائفي الذي نعاني من إرهاصاته بشكل يومي، ويساعد في إيجاد أرضية ناجحة تسهل التحول الديموقراطي وتساعد في بناء مشاركة شعبية في القرار السياسي قائمة على أسس وطنية متينة بدلاً من استنساخ نموذج البرلمان الكويتي أو العراقي أو اللبناني، حيث الطوائف والعشائر تتنازع، وأزمات الهوية يعاد إنتاجها من خلال النظام الانتخابي.
* كاتب سعودي