يمكن هذا العنوانَ أن يندرج، لأول وهلة، في نطاق ورشة معارك «محاربة» الفساد التي أعلنها أطراف عديدون، أبرزهم أركان السلطة القديمة والجديدة والذين جعلوا من «حرب الفساد» أولوية حملاتهم في الانتخابات النيابية في السادس من أيار الماضي. الواقع أن المراقب لن يبذل جهداً كبيراً ليكتشف أن الأمر كان مجرد «همروجة»، حاول من خلالها أطراف السلطة مصادرة شعار معارضيهم، سواء كانوا أحزاب تغيير أو كانوا، خصوصاً، فئات شعبية متضررة عانت الكثير من عجز السلطة وإهمالها واستهتارها بمصالح المواطنين، وخصوصاً بشأن ملفات حياتية بالغة الأهمية تتصل بحقوق هؤلاء المواطنين وكرامتهم ومصالحهم ومطالبهم الأولية في تأمين الخدمات الضرورية كالماء والكهرباء ورفع النفايات والصحة والتعليم وفرص العمل... استفزازات أطراف السلطة، وخصوصاً في ملف النفايات التي اختلطت فيها روائح أكوام النفايات (جبالاً وأنهاراً!)، في الشوارع وبين البيوت بروائح السرقة والنهب والصفقات... دفعت عشرات آلاف المواطنين إلى الشوارع لمدة طويلة، وفي معظم المدن اللبنانية خصوصاً. يومها، بدت السلطة مكشوفة في مواجهة الشارع وعاجزة عن فعل شيء سوى «الصمود» والمراوحة في العجز والعناد وبعض القمع وعض الأصابع منعاً من أن يستأثر طرف دون سواه بالتلزيمات ذات العوائد المرتفعة والمتعارضة مع أبسط الشروط البيئية السليمة. ورغم أن اعتماد التدابير الترقيعية لأزمة النفايات وسّع من أضرار هذه الأزمة ومن تعاظم النقمة الشعبية، إلّا أنه لم يتوقف أبداً مسلسل الصفقات والنهب بل استمر من دون خجل أو وجل مخترقاً كل الحكومات والعهود، وصولاً، الآن، إلى صفقات الكهرباء ومرسوم التجنيس... وقبل ذلك إصدار ميزانية الدولة (التي يتم التغني والتمنين بمجرد صدورها وتصويرها إنجازاً غير مسبوق)، من دون قطع حساب، بكل ما يرتبط بذلك من مخالفة الدستور، وطمس المسؤوليات حول إهدار مليارات الدولارات، وانتهاك القوانين، وسوء استخدام السلطة، وزيادة الدين العام الذي هو، أيضاً، ملف فساد خطير في أسبابه وتفاقمه ومخاطره البعيدة والداهمة...
انعكست نقمة المواطنين أو بعضها في الانتخابات البلدية قبل سنتين. كذلك في إجبار الحكام على إقرار قانون انتخابات لتجديد شرعية تآكلت بسبب التمديد المتكرر وغير المبرر والذي كان مرشحاً للتكرار لولا مخاوف أكثرية أهل السلطة من مواجهة الأسوأ في الشارع. وكذلك لولا ضغط الخارج الذي شجّع كل ما من شأنه تثبيت الاستقرار في لبنان، خشية أن يؤدي تفجر الوضع فيه، لأسباب داخلية أو خارجية، إلى خروج مشكلة النازحين السوريين عن السيطرة النسبية الراهنة وانعكاس ذلك بشكل سلبي كبير على البلدان الغربية، وخصوصاً في مواجهة احتمال انعكاس نقمة المواطنين في الانتخابات النيابية، وبسبب تفاقم عجز السلطة وفسادها، اندفع أطرافها في شن حرب كلامية ضارية على الفساد بهدف تجهيل الفاعل ومن ثم، بالتالي، تضييع المسؤوليات والمسؤولين والأسباب، هو ما حاوله دائماً أرباب السلطة الذين اشتقوا معادلة عجيبة مؤداها: الاعتراف بوجود فساد وإنكار وجود فاسدين! في كل بلدان العالم، تقع حالات أو عمليات اختلاس ورشوة وفساد وإهدار وسوء استخدام للسلطة. حجم هذه الحالات والعمليات وكشفها ومحاسبة الفاعلين والمتورطين يتفاوتان بين بلد وآخر وبين نظام سياسي وآخر. غالباً، ما لا يجري هناك الربط الآلي ما بين النظام القائم وتلك الحالات من الفساد التي يجري اكتشافها، أحياناَ، وحتى غالباً، من ضمن آليات النظام نفسه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المحاسبة. أما في بلدنا، فالوضع مختلف ويكاد يكون فريداً! هنا لا يمكن الفصل بين النظام السياسي والأفراد المتورطين في الفساد. والأفراد هؤلاء هم، بالضرورة، «كبار القوم» قبل أن يكونوا صغاره. قد يجري أحياناً توقيف أحد المرتكبين «الصغار»، وهذا أمر نادر كما هو معروف. لكن ذلك يحصل بطريقة لا تؤدي إلى أي عقاب فعلي. الحماية تتأمن بأشكال شتى: الإخفاء، تسخير القضاء ومنع الملاحقة والمحاكمة... أما إذا كان المرتكب من العيار «الثقيل» فسيتم اللجوء، حكماً، إلى السلاح المجرّب، الطائفي أو المذهبي، حيث يجري تصوير العقاب على أنه استهداف لطائفة أو لمذهب عن بكرة أبيهما وأمهما!
لأن مصدر الارتكاب، بكل أشكاله، هم كبار أركان السلطة والنظام، والذين هم، عموماً، أُمراء الطوائف وممثلوها السياسيون، فإن مبدأ المحاسبة نفسه يصبح مرفوضاً! لذلك يمكن القول، بكل بساطة، إن الفساد، بكل أشكاله، والسياسية منها خصوصاً، إنما هو مكوِّن أصيل وعضوي في منظومة المحاصصة التي تشكل، بدورها، جوهر النظام السياسي اللبناني. وتدور الصراعات العلنية (الضارية أحياناً) بين الأطراف في نطاق هذه المنظومة بهدف تغيير التوازنات والحصص دون المساس، ولو قيد أنملة، بمنظومة المحاصصة نفسها. وفي الذاكرة القديمة والجديدة شعارات وعبارات... تكررت وبرّرت وحفرت، من نوع «المشاركة» و«المناصفة» و«استعادة الحقوق» و«من يذهب إلى السوق يبيع ويشتري»... يجدر، في هذا الصدد، التوقف عند مقاربة «حزب الله» في خطابات انتخابية، بشأن التعامل مع مسألة الفساد وتعهد الحزب وأمينه العام، شخصياً بمتابعة هذا الملف بعدما استفحل وباتت الأزمة الاقتصادية تهدد بإفلاس أو بانهيار عام. يُلاحظ عدد من الأمور: أولها أن «حزب الله» لم يكن يعطي لموضوع الفساد، والاقتصاد عموماً، أهمية أساسية سابقاً. ثمّ إن «حزب الله»، قبل مشاركته في الحكومة وبعدها، لم يكن، ولم يتحول، إلى شريك محاصص في الإدارة بشكل عام. لكن ما برّرت به قيادة الحزب انخراطها أخيراً يرتب عليها مسؤوليات كبيرة في متابعة هذا الملف، وفي تقديم مساهمة ملموسة في التصدي له وسط حقل ألغامٍ كبير من نوع أن حلفاء الحزب الأساسيين، في السلطة، منخرطون تماماً في المحاصصة: القديم منهم والجديد. ذلك لن يسهل مهمة الحزب على الإطلاق: فهل سيضحي الحزب بتحالفاته في حال الخلاف على أحد الملفات؟ أم يضحي بهذا الملف حرصاً على تحالفاته... وتستمر الدوامة نفسها؟! هذا قبل أن نصل إلى الموقف من منظومة المحاصصة نفسها، وبالتالي، من مجمل النظام السياسي اللبناني.
في الجوهر، إذاً، الفساد منظومة متكاملة تخترق مجمل النظام السياسي اللبناني وتقع في صلب آلياته بتواطؤ الأطراف جميعاً وبموافقتهم وتشاركهم وتضامنهم. وهو، لذلك، فساد سياسي بالدرجة الأولى، حيث تتحاصص قلة من أقطاب الطوائف النفوذ السياسي والإدارة والموازنة... على حساب المؤسسات والدستور غالباً، وباستتباع القضاء، وتعطيل مؤسسات الرقابة: بدءاً من المجلس النيابي، وصولاً إلى أبسط المرافق والنشاطات... ويمكن التأكيد هنا أن فساداً سياسياً جوهرياً هو الذي كان، مثلاً، مسؤولاً عن التمديد للمجلس النيابي، وعن تطييف ومذهبة الحياة والمؤسسات السياسية، وعن تعطيل البنود الإصلاحية في الدستور، وعن التبعية للخارج... هذا فضلاً عن الهدر والنهب... والفساد عموماً!
معركة الفساد معقّدة وحربها حربان. الأُولى ضد تمويه موقع الفساد وأسبابه والمسؤولين عنه، والثانية في مواجهة هذه الآفة التي تفتك بلبنان وتبقيه وطناً قيد الدرس!
* كاتب وسياسي لبناني