حسمت الإدارة الأميركية قرارها الاستراتيجي بالتوجه إلى جنوب شرق آسيا. وتسعى اليوم إلى ترتيب الأوراق بما يحفظ مصالحها الحيوية في منطقة «الشرق الأوسط»، التي لطالما أدت دوراً مركزياً في سياستها الخارجية... الأمر دونه صعوبات وتجاذبات تحدّد المستقبل السياسي للمنطقة برمتها.
منذ الحرب الباردة، سعت الإدارة الأميركية إلى جعل المنطقة ظهيراً وسنداً لها في استراتيجيتها العالمية، وكرست ذلك على اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ رمت بثقلها السياسي والعسكري لتعزيز سيطرتها وانتاج الصيغة في المنطقة، السياسية والأمنية وفقاً لرؤيتها. واستنفدت قدرة ردع إسرائيل إلى حد بعيد بمواجهة محور المقاومة الذي أخذ عوده قد بدأ يشتد... وتتذكر نخبنا مصطلحات العقدين الفائتين (الاحتواء، الدومينو، فكي الكماشة، الحرب الناعمة، مخاض ولادة شرق أوسط جديد...).
إلا أن نتائج العقد الأخير السياسية وتوازنات القوى فيه لم تأت بما رسمته الولايات المتحدة، وخطّطت له في معظم الساحات، إن لم نقل فيها كلها. فمن تجربتي أفعانستان ثمّ العراق وأهداف بناء الديموقراطية ومحاصرة إيران... إلى حرب تموز 2006 بالأداة الإسرائيلية، إلى حرب غزة 2008 - 2009، وبمحاذاة ذلك، معركة إعلامية وأمنية وحصار اقتصادي طوق إيران، وعمل دؤوب للحؤول دون امتلاكها التقنية النووية... وليس انتهاءً بالحرب القائمة في سوريا منذ ثلاث سنوات، التي لم تستطع الولايات المتحدة فيها وحلفاؤها إسقاط النظام لاستبداله بنظام موال كهدف رئيسي معلن – دون أن نغفل ما حققوه من أهداف على طريق اضعاف سوريا الدولة والجيش – ينجلي مشهد العقدين الماضيين بدخول إيران النادي النووي وتنامي قدراتها الذاتية، لتثبت هي وحلفاؤها دورها المحوري والحاسم في تحديد سياسات المنطقة ووجهتها، حتى غدا الاعتراف بموقع إيران ونفوذها في الساحة مسلماً بهما من أعلى سلطة أممية.
هذه المعطيات وغيرها، اضطرت أميركا إلى اعتماد سياسة أكثر واقعية مفادها «تقليل الخسائر وانجاز ترتيبات الحد الأدنى»... ويعنى ذلك السعي لتثبيت أحلافها في المنطقة، والتخفيف من خصوماتها وعداواتها، بما يتيح لها التفرغ لاستحقاقاتها الاستراتيجية المقبلة، وعلى رأسها الاقتصادية منها. تالياً، كان من البديهي فتح باب تسويات وتفاوض معقد مع القوة العظمى في المنطقة والعدو العنيد إيران. المشهد الاستراتيجي الأميركي في المنطقة يأتي من هذا السياق.
استدعى ذلك مقاربة «واقعية» قوامها المحددات التالية:
تجنّب أي تورط عسكري مباشر أو غير مباشر في المنطقة (كأن تُدفع عبر أحد حلفائها - إسرائيل -) والحؤول دون الانزلاق إلى مستنقع، خَبِرته في حربي أفغانستان والعراق، اللتين كان الاجماع الدولي فيهما والمبررات من جانب، وظروف أميركا الداخلية والاقتصادية وموقف الرأي العام من جانب آخر، أقوى مما هما عليه اليوم، اتجاه إيران ومحور المقاومة.
فمحور المقاومة، يختلف لجهة امكاناته وذكائه وقدرته التوسعية ورقعة المواجهة لتشمل المنطقة بكلِّها، لا بل أبعد منها. وبالتالي أي غرق أو استجرار إلى مواجهة كهذه، ستُعيدها بالذاكرة إلى فترة الحربين العالميتين اللتين استفادت منهما أميركا الملتزمة مبدأ مونرو آنذاك، على حساب بريطانيا العظمى وبقية القوى الأوروبية، التي كانت مستنزفة في حروب طويلة مرهقة اقتصادياً ومعنوياً، أفقدتها صدارة العالم. الولايات المتحدة غير مستعدة لحرب تفقدها تصدرها العالم لحساب قوى أخرى منافسة (الصين و روسيا)... وهذه عِبر القرن الماضي.
الترقب والتريث وعدم الذهاب بخيارات سياسية حادة، أو الرهان على حلفاء أو أصدقاء في واقع مضطرب وأفق يسِمُه الشك وعدم اليقين، ورهانها الأخير على محور (أنقرة - القاهرة) الإخواني بوجه خط المقاومة كانت آخر المحاولات الفاشلة، وبعوامل داخلية.
معلوم أن أميركا لا يمكنها الرهان على حلفائها من دول الخليج، إذ ان سياسة «لا تهز القارب» التي اعتمدتها اتجاههم الإدارات الأميركية المتعاقبة بلغت خواتيمها. فالقارب هش ولن يكون بمقدوره مواجهة التغيير وأمواجه العاتية القادمة عليهم حتماً...
إن هذه الانعطافة؛ الالزامية، فرضت تحدياً كبيراً في كيفية المواءمة بين مصالح حلفائها في المنطقة ومصالحها الاستراتيجية التي تضطرها إلى الانفتاح على مناوئيهم وخصومهم.
تقدَّمت عملياً لانشاء نظرية «التطمين والتعويض» ولا سيما لحليفيها الرئيسيين «إسرائيل والمملكة السعودية» بعد غياب مقلق لمصر وبادرت إلى إنجاز التالي:
1ــ تسوية تسليم السلاح الكيميائي من الدولة السورية وتدميره، ما يؤمن أمن إسرائيل.
2ــ الاتفاق المرحلي (5+1) مع إيران، الذي ترى أميركا أنها حققت بموجبه أمن إسرائيل الاستراتيجي، بعدم السماح لطهران ببلوغ عتبة السلاح النووي، الذي لم تُظهر وسائل الضغط المعتمدة أنها قادرة على الحد منه أو إيقافه، والذي توّج بالاتفاق المرحلي (5 + 1).
3ــ اعتماد مسار التسوية السياسية للملف السوري في إطار اتفاق مع الروسي، عبر جنيف «المرقم»، لأن استمرار الصراع في سوريا يهدد المنطقة باكملها، فضلاً عن أن معطيات الميدان لا تسير فيه لمصلحة حلفائها، إذا ما استمرت المعركة كما هي عليه منذ سيطرة الجيش السوري وحزب الله على منطقة القصير، وما تلى ذلك من تقدم ميداني في أرياف دمشق وحلب خصوصاً.
4ــ تنظيم العمل مع روسيا لمواجهة «الارهاب» لاعتباره خطراً محدقاً بمصالحها ومصالح حلفائها التقليديين... وإنّ في التكتيك استخدمته لتحسين شروطها في جنيف السوري.
5ــ إبقاء 35000 جندي أميركي في المنطقة لحماية الحلفاء والمصالح.
لكن مجمل هذه التطمينات والتعويضات لا تبدو كافية!
فمن الصعوبة على كل من إسرائيل والمملكة السعودية، اللتين بنتا منظوماتهما لأمنهما القومي بالاعتماد على الحضور القوي والمباشر لأميركا في منطقتنا منذ عقدين، أن تلحظا المظلة الأميركية تنسحب تدريجياً وتكشفهما سياسياً ومعنوياً. وهذا ما يفسر الموقف الإسرائيلي الحاد من اتفاق جنيف النووي، والطلب السعودي لتوقيع نص مكتوب مع البيت الأبيض لضمان أمنها بمواجهة إيران... وهو ما لم يقبله الأخير.
إذاً ثنائية «التطمينات، التعويض» بأفضل شروط ممكنة: هو ما تسعى إليه الولايات المتحدة لحلفائها.
ولا يغيب عن المتابع أن اهتمام أميركا بدول الخليج والمملكة السعودية على وجه الخصوص، ليس سواء... فالأولوية للإدارة الأميركية هي بالبحث المعمق عن تعويض مرضٍ لإسرائيل. دون أن تتغاضى عن تطمينات مقبولة للمملكة السعودية، وإن كنا ما زلنا نرى ونؤمن بأن ازمتها مع إيران مفتعلة بأغلبها، ونظن أن التلاقي والحوار والتفاهم هو السبيل الوحيد أمامنا... الذي تريده إيران، ونأمل أن لا تخسره المملكة السعودية، بسيطرة تيار متطرف على قرارها الخارجي والعسكري.
التعويض الفعلي والأهم لإسرائيل سيكون في التقدم على حساب فلسطين وقضيتها كقضية مركزية لأمن إسرائيل واستقرارها، فالبيئة الاقليمية - العربية، والفلسطينية الداخلية، تسمح بفرض شروط الإسرائيلي على التفاوض، وإرهاصات ذلك قائمة اليوم مع مخطط «برافر» الفظ للتهجير وتهويد القدس ومقترحات إسرائيل ضم المستوطنات في اراضي 1948، ونشاط غير مسبوق للدبلوماسية الأميركية على خط التسوية.
يبدو أنّ الإدارة الأميركية في مسعى حثيث لإعادة إحياء سياسة الربط linkage الكيسنجيرية واعتمادها... وممارسة أشكال الضغط والتهويل بها لتقديمها مفتاحاً للحل، والتسوية الكبرى في المنطقة. وهكذا يُفسّر الانفتاح الناعم المفاجئ (الأميركي - البريطاني) على إيران، وفتح الباب أمام المجتمع الإيراني لتنفس الصعداء وتلمس الانتعاش الاقتصادي، بعد ثلاثة عقود، والاعتراف المرحلي بحق إيران كدولة نووية. والحديث والترويج لإعطائها موقعاً متقدماً في المنطقة، يأتي في هذا السياق، إذ قد تمثل هذه السياسة ورقة ضغط تحرج السلطة في إيران ومحور المقاومة من ورائها، لتقديم تنازلات أو التغاضي عن ترتيبات مزمعة في القضية الفلسطينية.
ترتيبات قد تصل إلى التهديد المباشر للمقاومة الفلسطينية... فهل هذه هي حقيقة الربط؟ وهل للستة أشهر المرتبطة بالاتفاق المرحلي الإيراني مع «5 + 1» علاقة بترتيبات التعويض للدولة العبرية وتمرير مرحلي لعملية السلام بالشروط الإسرائيلية؟
الأشهر المقبلة صعبة على امتداد ساحة المواجهة وحلقاتها، الجميع عليه أن يحسب حساباته جيداً ويستعد: الزمن للأقوياء القادرين على حماية حقوقهم وقيمهم... والمحتوم أن القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الشعب الإيراني وقيادته ومعها محور المقاومة تتجاوز منطق المصالح والتكتيك مهما ارتفع ثمنه إلى المبادئ والثوابت، ومجدداً ستكون فلسطين وقضيتها المحك والكاشف عن حقيقة الخصام والاشتباك، بل الصراع القائم في منطقتنا منذ أمد، وطبيعته.
* باحث سياسي