يشترك رجب طيب أردوغان والسيد علي خامنئي في أمور عديدة: الاثنان أتيا بعد قامتين كبيرتين (نجم الدين أرباكان وآية الله الخميني)، وتجمعهما ينابيع فكرية متلاقية، رغم سنّية الأول وشيعية الثاني، ويمكن تكثيفها في أن السيد خامنئي قد ترجم كتاب سيد قطب «المستقبل لهذا الدين» إلى الفارسية عام 1966 وأنجز معظم ترجمة كتاب آخر له «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»، ثم لم يكمله بسبب ظروف الملاحقة والسجن في زمن الشاه. قاد الاثنان نهضة اقتصادية لافتة لبلديهما وحصّلا أدواراً إقليمية كبرى. عندما كانا في ظلّي أرباكان والخميني لم يكن ممكناً قراءة إمكاناتهما التي ظهرت بعد توليهما السلطة، وهو ما ينطبق على ستالين الذي لم يكن بارزاً في ظل لينين بالقياس إلى آخرين مثل تروتسكي وكامينيف وبوخارين.في هذا المجال، يلفت النظر إلى التشابه بين كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» (1964)، وكتاب الخميني «الحكومة الإسلامية» (1971) من حيث توحّدهما على فكرة «الحاكمية لله»، ولكنهما يختلفان على الوسيلة، إذ يرى قطب أن ذلك يتم من خلال «طليعة مؤمنة»، بينما الخميني يعتبر أن ذلك يتحقق عبر «الولي الفقيه». ما يجمع الخميني وسيد قطب، ومعهما أرباكان وأردوغان وخامنئي، هو الموقف السلبي من الحضارة الغربية ومن أتاتورك وعلمانيته، بالإضافة إلى شاه إيران، والخمسة تجمعهم أيضاً فكرة أن «الإسلام هو صاحب رسالة عالمية، وأنه مؤهل لقيادة العالم»، ويرون أن هناك «حاجة لإحياء هذا الدور الإسلامي العالمي الذين يجتمعون على أنه انتكس بفعل الهجمة الغربية على العالم الإسلامي». هنا، يُقال إن أحد أسباب تشجيع واشنطن للعسكر الأتاتوركيين على انقلاب 28 شباط 1997 ضد رئيس الوزراء التركي نجم الدين أرباكان لأن تفكيره المعلن كان إقامة محور سياسي – اقتصادي مشرقي يضم الرباعي: أنقرة، طهران، بغداد ودمشق. ولم يُعلن ذلك في أنقرة، وإنما تم الاكتفاء بـ«الحفاظ على راية العلمانية» أمام أول رئيس وزراء تركي من أيديولوجية إسلامية.
تقارب أكبر حركتين إسلاميتين حديثتين في الفكر أنتج تقاطعات سياسية بينهما


إذا رجعنا إلى خامنئي وأردوغان، نلاحظ البراغماتية الشديدة، فالزعيم الإيراني لم يتملكه أي وسواس في التحالف مع واشنطن في العراق المغزو والمحتل عام 2003، وعندما شعر بأن هناك حصيلة مكاسب إيرانية تمت مراكمتها من خلال «البوابة البغدادية» نحو التمدد الإقليمي لم يتورّع عن الدخول في مجابهة عام 2005 مع الأميركيين من خلال استئناف البرنامج الإيراني لتخصيب اليورانيوم، ثم ظهرت هذه البراغماتية ثانية عندما قايض خامنئي إيقاف برنامج التخصيب باتفاق 2015 مقابل رفع الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية عن إيران وسكوتها عن المكاسب الإقليمية الإيرانية وغضّ بصرهم عن البرنامج الصاروخي. ظهرت براغماتية أردوغان بعد فوز حزبه بانتخابات برلمان 2002عندما قدّم إسلاميته عند واشنطن كـ«بديل إسلامي حليف للأميركيين» في عالم ما بعد 11 أيلول، وهو الذي شجّع على حوار واشنطن مع التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين منذ عام 2005، وصولاً إلى أن كان دوره كعرّاب في «الربيع العربي» عام 2011 لتسهيل أن يكون الإسلاميون عند واشنطن هم البديل في تونس والقاهرة وصنعاء وطرابلس الغرب، وهذا قبل أن ينفك تحالف واشنطن مع الإسلاميين العرب ومع أردوغان عام 2013. ليست البراغماتية عندهما بلا ضفاف، بل يقيّدها مزيج دقيق يضم المبادئ والمصالح، مع براعة سياسية تكتيكية يتميزان بها في الصراعات الداخلية (عند أردوغان في قصقصة نفوذ العسكر الأتاتوركيين الذين كانوا حاكمين في أنقرة منذ انقلاب 1960علناً أو من وراء ستار الحكومات المدنية، وعند خامنئي في تفشيل تجربة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي 1997-2005 وفي مواجهة تظاهرات 2009 الواسعة)، بالإضافة إلى استغلال التطورات الإقليمية لمصلحتهما (الأزمة السورية نموذجاً).
هنا يمكن تسجيل أن أردوغان، المهجوس بتحالف واشنطن مع حزب الاتحاد الديموقراطي وهو امتداد كردي سوري لحزب عبد الله أوجلان منذ عام 2014، ثم الدلائل الكثيرة على تورط الولايات المتحدة في محاولة الانقلاب الفاشلة ضده في 15 تموز 2016، عاد وتلاقى مجدداً عام 2017 مع خامنئي الذي عادت واشنطن دونالد ترامب إلى مواجهته بعد إدارة ظهرها لاتفاق باراك أوباما مع علي خامنئي تجاه الملف النووي الإيراني عام 2015 بعد تباعدهما في ظل الأزمة السورية.
يجمعهما الآن عداء واشنطن لهما، وهواجسهما من الأكراد، ومحاولاتهما استغلال الخلاف الأميركي – الروسي البادئ مع إدارة ترامب الذي شكّل عجينة كافية لصنع مؤتمر «سوتشي الثلاثي» في تشرين الثاني 2017. من خلال التقارب الروسي ـــ التركي استحصل أردوغان عام 2016 على شريط جرابلس ــ الباب ــ أعزاز، ثم عام 2018 على عفرين ككوريدور وصل هذا الشريط بإدلب، وأصبح بذلك لأنقرة منطقة نفوذ تمتد من بداما حتى جرابلس على طول الحدود السورية ــ التركية يسيطر عليها إسلاميون سوريون يأتمرون بأوامر الأتراك، ومن المؤكد أن أنقرة ستسعى مع موسكو لأن يكون لها حصة وازنة في التسوية السورية الشاملة. خامنئي لن يعترض على الأرجح، وخاصة في ظل بوادر خلاف روسي ــ إيراني في سوريا، ولا السيد حسن نصر الله الحريص على العلاقة مع حركة «حماس» التي تمثّل الامتداد الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، رغم كل الخلافات في السنوات الأخيرة تجاه الأزمة السورية.
تطرح تقاربات أردوغان – خامنئي، وتقاربات أرباكان مع طهران في التسعينيات وقبلهم توحد سيد قطب والخميني في فكرة «الحاكمية لله»، حالة إشكالية كبرى: تقارب أكبر حركتين إسلاميتين حديثتين عند السنّة والشيعة، أي «الإخوان» و«الحركة الخمينية»، في الفكر أنتج تقاطعات سياسية بينهما لم تهتز رغم العواصف خلال ما يقارب الأربعين عاماً تقريباً أي منذ وصول الخميني إلى السلطة في 1979. هذا يتعاكس أو لم يتأثر بحالة التوتر السني ــ الشيعي التي عمّت المنطقة بتأثير الحرب العراقية ــ الإيرانية في الثمانينيات أو بالتوتر الشيعي – السني في بغداد ما بعد 9 نيسان 2003 وفي بيروت ما بعد 14 شباط 2005 وفي صنعاء ما بعد 20 أيلول 2014.
* كاتب سوري