«غزة الآن بتكتيكات المقاومة تجيب على مقولة تحييد أسلحة العدو التي تعتبر أهم حجة لأيديولوجيا اللاعنف. النفق والتفجير عن بُعد والمقذوفات والقناص هي تحييد لأسلحة العدو».« إما أن نقاوم أو ننتظر الإبادة».
(من كتاب وجدت أجوبتي: هكذا تكلم الشهيد باسل الأعرج).


لم تحمل قذائف وصواريخ الفصائل الفدائية الفلسطينية في قطاع غزة، المتجهة نحو الأراضي المحتلة منذ عام 1948 المتاخمة للقطاع، النار إلى مراكز تجمّع الغزاة المحتلين، فقط، بل سلّطت الضوء مجدداً على النهج والأسلوب (الكفاح المسلح) الذي يجب أن تحرص قوى التحررعلى التمسك به في المعركة الطويلة والمستمرة منذ قرن ونيّف مع الغزاة من أجل حرية الوطن وتحرر الإنسان العربي الفلسطيني.
البعض بدأ يعمل على تقديس «السلمية» كنهج وبرنامج عمل أساسي، إذا لم يكن «الوحيد»، في هذه المرحلة الجديدة من الصراع التاريخي مع الغزوة الاستعمارية ــ الصهيونية التي تسعى لاستكمال الخطة على اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وطرده خارج وطنه. ولن نتكلّف العناء الكبير ونحن نتابع المقالات والتحليلات والندوات التي تُضَخّ في الإعلام المقروء والمسموع والمُشاهد، الساعي في محاولة ممنهجة لكيّ الوعي الثوري بهدف إحلال «ثقافة» مثقوبة ومعطوبة عن نضال سلمي «وحيد» لاعُنفي في مواجهة مُستعمِر فاشي وتوسعي. وبدأت أيضاً بعض الساحات ووسائل التواصل الاجتماعي، تزخر بصور غاندي ومارتن لوثر كينغ ليوظفها البعض تحت عنوان بداية الانطلاق لمرحلة «ما كان ينبغي حمل السلاح!».

خلي السلاح صاحي
تطورات الأيام الأخيرة من شهر أيار الماضي المعمّدة بالدم والنار أعادت التأكيد لمن راهن مخطئاً على «سقوط» السلاح من أيدي الفدائيين ليحل محله الحجر والمقلاع – رغم أهميتها في التظاهرات والمسيرات – بأن كل «أحلام اليقظة» عند الأعداء المكشوفين والمستترين هي واهية. هذه الأحلام التي سعت لإبقاء السلاح في المخازن حتى يصدأ «توافقاً» مع صفقة التهدئة والتنازلات المرتقبة والمفتوحة يُطبّل لها «كتبة وأبواق» الاستسلام والسير في ركاب القرارات الأميركية ــ الصهيونية، المحمولة على أنظمة الاستبداد والتبعية في الخليج وشبه جزيرة العرب. لكن تلك الأوهام أثبتت وقائع الميدان سطحيتها وعجزها عن تقدير الموقف، الذي أكدته المجموعات الفدائية المقاتلة في بيانها المشترك يوم الأربعاء 31 أيار، والذي أكدت فيه أنه «انتهى الوقت الذي يحدد فيه العدو قواعد المواجهة ومعادلات الصراع منفرداً، فالقصف بالقصف». لهذا فإن أكثر من 130 قذيفة هاون وصاروخ قد أكدت، لمن فقد الذاكرة، أن الدم الفلسطيني ليس ماء مسفوحاً في صحراء التغريبة التي يسعى حلف «الأعداء» لدفع الفلسطينيين إليها مجدداً. عدد الشهداء الذي وصل إلى 120 شهيداً والجرحى إلى أكثر من 13 ألف (منذ 30 آذار وحتى كتابة المقال) لا يمكن أن يبقى الرد عليه محصوراً بمناشدة الرأي العام الإقليمي والدولي للضغط على حكومة العدو لوقف استخدام النيران والقوة «المُفرطة» في مواجهة الصدور العارية. هذه الصدور العامرة بالكرامة والتحدي والبطولة، والتي تتقدم ببسالة منقطعة النظير نحو الأسلاك الحديدية التي ترسم حدوداً بين الجزء المحتل من الوطن والقطاع الصامد.
لذلك، جاءت أول صلية من قذائف الهاون التي أطلقتها سرايا القدس باتجاه المستعمرات والمواقع العسكرية الموجودة في المنطقة المسماة «غلاف غزة»، لتعلن أن قراراً بدأ تنفيذه بالنار، ضد الجرائم الوحشية لقوات الاحتلال التي تستهدف المدنيين ومواقع ومراكز الأجنحة العسكرية في القطاع المحاصر.
ورغم تأخّر الرد الناري على استباحة الدم الفلسطيني، فإن الالتزام بما تضمنّه بيان القوى العسكرية يجب أن يكون خطة العمل في المرحلة الراهنة، وليس مجرد ردة فعل على استهداف موقع عسكري أو استشهاد مجموعة من المقاتلين، مع ضرورة إبلاغ كل الوسطاء وأدوات «الضغط» بأن عدم التزام العدو بأي تفاهمات للتهدئة تجعل قوى المقاومة خارج تلك الالتزامات. وارتقاء هذا العدد الهائل من الشهداء والجرحى يتطلّب رداً موجعاً في صفوف المستعمرين لدفعهم إلى إعادة الحساب في مسارات المعركة المفتوحة، المستندة على استعداد الفلسطينيين داخل الوطن المحتل للانخراط في معركة واحدة ضد المحتلين، وهذا ما تضمنه شعار يوم الجمعة الأخيرة من مسيرات العودة «من غزة إلى حيفا: وحدة دم ومصير مشترك».

شعب واحد ومعركة واحدة
جاءت تظاهرات مدينة حيفا (غير المرخصة) التي دعا إليها ونظمها «الحراك الشبابي» المُشَكّل من خارج الأحزاب التقليدية، بمشاركة رموز بعض القوى السياسية، لتعيد التأكيد على الحالة الكفاحية والثورية التي يتمتع بها هذا الجيل من الشباب والشابات. وهذا ما عبّرت عنه الهتافات والشعارات التي أكدت على «بطولة غزة وتحديها للمستعمِر»، وعلى وحدة الشعب والهدف والمصير (من حيفا لغزة ومن حيفا لليرموك شعب واحد ما بيموت) ورفض اتفاق العار «أوسلو»، وكل اللغو والثرثرة عن الحل السلمي. التحركات التي ملأت فضاء ميدان التجمع «ساحة الشهيد باسل الأعرج»، بما تحمله رمزية ودلالات الاسم والمكان، أكدت في الشعار السياسي كما ظهر في الهتافات وفي التحرك النضالي المباشر على أرض الميدان، على درجة عالية من التحدي. فهذا الحشد لم يأت للتضامن بل للانخراط في الكفاح الواحد لشعبٍ موحد في التصادم مع المشروع الاستعماري الاحتلالي وفي مواجهة «الأسرلة» التي تعني، في سلوك وقوانين المستعمِر، سحق إنسانية المُستعمَر وسلبه حقوقه. والتظاهرة أتت أيضاً لرفض دور سلطة رام الله، المُشارِكة في حصار شعبنا في غزة من خلال العقوبات التي تفرضها عليه.

غضب الضفة... المكبوت والمقموع
لم يعد مفاجئاً لأي مراقب أو محلل سياسي تراجع دور الضفة الغربية في المواجهة الجديدة المفتوحة مع العدو منذ بداية «مسيرة العودة». التراجع مرتبط بالقمع الذي تمارسه سلطة الحكم الإداري الذاتي ضد القوى السياسية المقاتلة والمناضلة، ومطاردة واعتقال كل من يعمل على الاشتباك مع العدو المحتل، بالسلاح أو القلم، والذي أدى الوظيفة المطلوبة، إضافة إلى التدمير الممنهج، الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي تمارسه قوى التخريب «الناعمة» (NGOs) المرتبطة بقوى الهيمنة الاستعمارية. وهذه العوامل مع سواها عملت على تدني مستوى الفِعل الكفاحي في الضفة الذي يحاول بعض المناضلين في الحركة الشبابية والسياسية تطويره.
ختاماً، في دراسة وتقييم دروس المواجهات المدنية ــ السلمية مع قوات العدو خلال الشهرين الماضيين، لا بد للقوى السياسية المناضلة من الاتفاق على الهدف الاستراتيجي لتحرك «مسيرة العودة الكبرى» والتي تمت إضافة «كسر الحصار» في شعارها، في محاولة واضحة وفعلية لتقديم وتنفيذ كسر الحصار راهناً، وهو انتصار في حد ذاته.
إن تطوير الأداء الكفاحي المشترك، يتطلب تلازم كل أشكال النضال، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بأهمية السلاح للتعامل الدائم ليس مع فاشية ووحشية المحتل، بل مع وجوده الاستعماري لأرض الوطن.
* كاتب فلسطيني