«تستغرق الأزمات وقتاً أطول بكثير مما يمكن أن تتخيّله حتّى تصل؛ ولكنها حين تقع، فهي تحصل بشكلٍ أسرع بكثير مما يمكن أن تتخيّله» «قانون دورنبوش» الذي صاغه الاقتصادي الأميركي روديغر دورنبوش

خلال الأسبوع الماضي، تلقّى الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان «عقاباً» حقيقيّاً، بالمعنى التجاري والمعنوي، من الأسواق العالميّة، فيما كانت أزمة عملةٍ تظلّل الانتخابات التركيّة وتهدّد الليرة، قبل أن يتدخّل المصرف المركزيّ لتثبيت الأسواق في الأيّام الماضية.
أردوغان يقول إنّ حالة الاقتصاد التركي جيّدة، والنموّ مرتفع والإنتاج يزداد، وهي لا تبرّر انخفاضاً في العملة، مؤكّداً أن أسباب الأزمة خارجية وسياسية، تقف خلفها «لوبيات الفائدة المصرفيّة» ووكالات التصنيف و»مضاربو العملة» الذين يريدون النَّيل من الاقتصاد الوطني ومن إدارته بالتحديد.
الأسواق، من جهةٍ أخرى، تلوم أردوغان شخصيّاً على تفاقم الأزمة، وتقول إنّ الأسواق خسرت الثقة باقتصاده لأنه أعلن نيّته «التدخّل» في عمل المصرف المركزي، بعد إعادة انتخابه المتوقّع، وميله الى إبقاء أسعار الفائدة منخفضةً لتحفيز النموّ في تركيا على عكس ما تنصّ عليه إشارات السوق. السرديّة الرائجة في الإعلام الغربي هي أنّ أردوغان سياسيّ «سلطويّ»، «جاهل في الاقتصاد»، يريد تشكيل السياسة المالية بحسب مصالحه الانتخابية (مات أوبريان في «واشنطن بوست») ويعتقد أنّ في وسعه «تحدّي» المبادئ المالية ومخالفة الأسواق (في «فورين بوليسي»، كان أحد العناوين «أردوغان اقتصاديّ مجنون وتركيا هي مختبره»، فيما قارن الاقتصادي الأميركي بول كروغمان ـــ تلميذ دورنبوش صاحب الاقتباس أعلاه ـــ أردوغان بدونالد ترامب).

أردوغان «يتحدّى» السّوق
ما يحصل في الحقيقة هو لا هذا ولا ذاك، بل درسٌ لأردوغان بأنّك، حين تندمج في الاقتصاد العالمي ونظامه المالي، وتحرّر حساباتك المالية وسعر عملتك، فأنت لا تملك بعد ذلك «سياسة وطنيّة» في الاقتصاد أو قدرةً فعليّة على التحكّم في مؤشّرات بلدك الأساسيّة. كما يشرح علي القادري في كتبه، حين تتبع دول الجنوب إصلاحات صندوق النقد وتوصياته (وهو ما فعله حزب أردوغان في تركيا بين 2001 و2004) وتعيد هيكلة نظامك المصرفيّ، فأنت تتخلّى عمليّاً عن كلّ الأدوات التي تسمح لك بالتدخّل في الاقتصاد ومسار الاستثمار والتنمية. حين توحّد سعر الصرف، وتسمح بدخول الرساميل وخروجها بحريّة، وتترك السوق ليحدّد قيمة الفائدة، فأنت لا «تبسّط» نظامك الماليّ و»ترشّقه»، بل تُخرج القرار بشأن توزّع الاستثمار والاستهلاك في البلد من يد الدولة الى يد «السوق» (الأدوات أعلاه هي ما يسمح بأن تقيم درعاً بين تقلّبات السوق العالمي ومستوى معيشة السكان، عبر سعر صرفٍ مدعومٍ للمواد الأساسية يختلف عن سعر الصرف في المبادلات الاستهلاكية، مثلاً، كما أنّ تحديد معدلات فائدة متفاوتة هو ما يسمح للدولة بتوجيه الاستثمار الى قطاعات معيّنة، الخ).
في هذه الحالة تصبح «الدولة الوطنية»، والرئيس والمؤسسات المنتخبة، بمثابة «منفّذ» لا أكثر، عمله أن يتفاعل مع ما يقرّره السوق وأن يمرّر الصدمات الخارجية عبر الاقتصاد المحلّي. يصدر السوق إشارة فترفع معدلات الفائدة لديك أو تخفضها. الأسواق الخارجية اليوم، ومعها الإعلام، وقفت بحدّة وشراسة الى جانب المصرف المركزي التركي، لتدافع عن «استقلاليته» في وجه أردوغان، لا لأنّها تعرف حاكم المصرف المركزي التركي وتثق بحكمته وخبراته، بل لأنّ المصارف المركزية، في سياقنا العالمي، هي من يضمن السير على هدى السوق بحسب «كتيّب الارشادات»، بمعزلٍ عن سياسة البلد ومصالح شعبه.
أكثر من ذلك، أردوغان محقٌّ في زعمه أنّ المسبب الأساس للأزمة ليس داخلياً ولا علاقة له بأداء الاقتصاد. تركيا (كما شرحنا في مقالات سابقة) تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الرساميل الأجنبية لتمويل العجز التجاري والنموّ، وشركاتها الخاصّة راكمت ديوناً بأكثر من 300 مليار دولار في السنوات الماضية. فالبلد، إذاً، يحتاج الى تدفّق ما لا يقلّ عن 200 مليار دولار في السنة من الخارج لتمويل هذا الدين والعجز التجاري. هذا كان متاحاً في السنوات الماضية حين كانت السندات التركيّة، كالكثير من «الأسواق الناشئة»، جاذبةً لصناديق الاستثمار العالمية في ظلّ ركودٍ مقيمٍ في الغرب. أخيراً، مع ارتفاع الفائدة على الدولار الأميركي، عادت الكثير من هذه الأموال الى الغرب وتركت السوق التركية، فأصبح تمويل الدين أصعب على الشركات وازداد الضغط على العملة. كلّ الأسواق الناشئة تعاني اليوم، بدرجاتٍ مختلفة، من تأثير «سحب الأموال» نحو الغرب، وهي العمليّة ذاتها التي سبّبت، عام 1997، الأزمة الآسيوية الكارثية (الشركات المحلية تستدين بكثرةٍ حين يكون الدين رخيصاً والدولار متوافراً بفوائد تقترب الى الصفر، وهذه الدول تنفق وتستثمر وتستهلك، ثم يرفع المصرف الفدرالي الفوائد على سنداته ويجتذب السيولة اليها، فترتفع الفائدة في دول آسيا على هذه القروض الخارجية ولا يعود بإمكان المصارف والشركات سدادها او تمديدها). بمعنى آخر، تحصل تحوّلات ماليّة في الخارج لا يمكنك أن تتنبّأ بها ولا تملك سلطةً عليها، فتخلق صدمةً في بلادك، وما عليك سوى الرضوخ لـ»قوانين السوق» والانحناء مع الضربات.
بالفعل، اضطرّ أردوغان حين ترنّحت الليرة الى ترك المصرف المركزي يبدي «استقلاليته»، فرفع معدلات الفائدة أوّلاً، على عكس رغبات أردوغان، ثمّ أقرّ إصلاحاً «يبسّط» و»يرشّق» قواعد الفائدة ويوحّدها. ارتاحت الأسواق وعادت الليرة الى الاستقرار (علّق خبيرٌ اقتصاديّ على إجراءات المصرف المركزي، مؤيّداً، «يبدو أنّ الاقتصاديين الاورثوذوكسيين قد عادوا الى سدّة القرار»). في وسع أردوغان أن يقول لجمهوره إنّ «الأجانب» هم من يضرب العملة التركيّة ويهدّد اقتصادهم، ولكن من بنى نموّه ونمطه الاقتصادي على الانفتاح واللبرلة والقروض الخارجية و»النموّ عبر العجز والاستهلاك» لا يحقّ له أن يشتكي حين ينقلب السوق عليه، وتتحول البركة الى أزمة. من هنا، فإن تفسير أزمة تركيا الأخيرة عبر أسبابٍ داخليّة بحت (أو لومها على أردوغان شخصياً) هو كمحاولة تفسير النمو التركي والنجاح الاقتصادي في السنوات الماضية عبر أسبابٍ داخلية (أو حصافة حزب العدالة والتنمية)، عمليّة مضلّلة.

الاستثناء الأميركي
المفارقة هنا هي أنّ أغلب هذه «القوانين الاقتصادية»، التي تسري على دولٍ كتركيا ويُطلب من حكوماتها أن تلتزم بها، من ترك معدلات الفائدة للسوق الى عدم التدخل في قيمة العملة وتلافي العجز التجاري، هذه كلّها لا تسري على أميركا ـــ الدولة الليبرالية الأمّ ومركز النظام المالي العالمي. أميركا، كما هو معروف، تسجّل عجزاً تجارياً ضخماً مع العالم (أي إنّها تستهلك أكثر مما تصدّر) بشكلٍ شبه مستمرّ منذ عقود، من دون أن تنخفض العملة وتنكمش القدرة الشرائية كما يتوقّع النموذج الاقتصادي الكلاسيكي.
السبب ببساطة، يقول الخبراء، هو أنّ أميركا تجري تجارتها الدولية بعملتها الوطنية، وهو امتياز أن تكون صاحب «عملة الاحتياط» في العالم. حين تستهلك أميركا من الخارج، فهي تدفع عبر طبع دولاراتٍ ببساطة (هذا تعبيرٌ رمزي، فأنت لا تخلق دولارات اليوم عبر «طبعها» وضخّ الـ»كاش» في السوق، بل عبر إصدار سنداتٍ بالدولار، هي أرقامٌ على الكمبيوتر، وبيعها الى المصارف والمستثمرين). بل إنّ باحثين مثل باري ايشنغرين يقدّمون نظريّة مثيرة: أنّ العجز التجاري الاميركي ليس «ممكناً» فحسب، لأن الدولار هو العملة العالميّة، بل هو «ضرورة» وحاجة للاقتصاد الدولي، لأنّ العالم بأسره، وليس أميركا وحدها، يستخدم الدولار، فأنت «تحتاج» إلى أن تخرج دولاراتٌ باستمرار من أميركا الى الخارج (وهو ما تمثّله حالة العجز والاستهلاك) حتّى ترفد التجارة العالميّة وتؤمّن دولارات اضافية كلّ سنةٍ للتجّار والمصارف. ولو أنّ اميركا تحوّلت الى دولة مصدّرة، لديها فائضٌ لا عجز، كما يريد ترامب، فإن الاقتصاد العالمي سيصيبه الكساد والانكماش (وهذا ما جرى فعلاً في أعوام 1974 وفي بداية التسعينيات). يقدّم الماركسيون، ومنهم برابات باتنايك، بالمناسبة، تفسيراً مشابهاً ولكن من منظور مختلف.
ولكنّ ايشنغرين يضيف هنا فرضيّة إشكاليّة حول الارتباط بين العجز الأميركي والنجاح الاقتصادي. هو يقول إنّ الاستهلاك الزائد والفائض الذي يقوم به الأميركيّون، وشراؤهم بما يفوق قدراتهم على الدوام، ليس أمراً سلبيّاً. هذا «الاستهلاك الفائض»، يحاجج الاقتصادي الأميركي، هو ما يدفع حركة الابتكار والتكنولوجيا في أميركا، ويسمح للبلد بأن ينمو باستمرار وأن تدفع الدولة ديونها والفوائد على سندات الدولار مهما عظمت. الفكرة طريفة ومن الممكن اختصارها على النحو الآتي: القدرة الشرائية الضخمة للأميركيين تسمح بتكوين طبقة كبيرة تنفق بلا حساب، ومستعدّةٌ لشراء منتجاتٍ غالية الثمن وحديثة، كالآيفون الجديد أو سيارة «تيسلا»، وجعل تسويقها ممكناً. هذه السوق الفريدة والثرية والمسرفة تنتج باستمرار شركاتٍ رائدة وطليعيّة وتحتمل مخاطر لا يحتملها بلدٌ آخر، ولكنها في المقابل تنتج قيمةً عالية ونموّاً مستمرّاً، هو ما يميّزها عن دولٍ متقدّمة أخرى مثل أوروبا واليابان (من أسباب الشكّ في هذه الفرضية هو أنّ الاستهلاك الفائق، لو كان وحده يعزّز الابتكار والنموّ، لكان الخليج اليوم قِبلةً للتكنولوجيا في العالم).
ولكن، بصرف النظر عن مصدر النمو الأميركي، فإنّ هنا بيت القصيد: الناس يتهافتون على شراء سندات الدولار لأنّهم متأكّدون، كضمانة الذهب تقريباً، من أن الحكومة الأميركية ستدفع هذه السندات في موعدها، وسيكون للدولار حينها قيمة تبادليّة. من جهةٍ أخرى، لو انتفى أيٌّ من هذه العناصر، أي إنّ النمو الأميركي توقّف، أو خفت الطلب على الدولار في الخارج، أو لم تعد الحكومة قادرة على تمويل الدين، يتغيّر كلّ شيء، ولا يعود نمط التراكم الأميركي ممكناً. لهذا السبب يجب ألا تكون لدينا أوهامٌ حول استمرارية واستقرار أي نظامٍ ماليّ في عصر الرأسمالية المعولمة، مهما بدا هذا النظام راسخاً ومتيناً.

الاستغلال عارياً
في لبنان نجد الحالة الأكثر تطرّفاً. العجز التجاري هو ضخمٌ وبنيويّ ومستمرّ، كما في أميركا، وديون الدولة من الأعلى في العالم، وهذا العجز كلّه يجري تمويله عبر رساميل تتدفّق الى لبنان كلّ سنة. هذه الأموال تضخّ في المصارف اللبنانية أساساً لشراء سندات الدين التي تصدرها الدولة. ولكن، على العكس من الحالة الأميركية، لا يشتري المستثمرون سنداتنا لأنّ الاقتصاد اللبناني ضخمٌ ومتين، أو لأنّه ينمو بشكلٍ يسمح بتسديد الدين مستقبلاً، بل لأن المجمّع المالي/المصرفي (وعلى رأسه السيّد رياض سلامة) يضمن لهم عوائد كبيرةً على ودائعهم هذه، ولأنّ الدولة اللبنانية ستجعل تسديد هذه السندات أولويّتها مهما كانت الكلفة على الاقتصاد، ولأنّ العملة اللبنانية ستظلّ ثابتةً نسبة الى الدولار لضمان قيمة هذه الودائع ـــ مجدّداً، مهما كانت الكلفة على الاقتصاد.
ليس في لبنان نفطٌ وريعٌ خارجيّ، هذه الديون والأرباح تُدفع من ضرائب اللبنانيين وعملهم. بتعابير أخرى، فإنّ «الصفقة» هي أنّ المواطنين سيعملون ويكدّون ويدفعون حصةً متزايدة من دخلهم واستهلاكهم ضرائبَ، ويختبرون عملية إفقارٍ ملموسة، حتّى يذهب هذا الفائض الى المصارف ومن أقرض ماله للدّولة حتّى يستمرّ في الإقراض، ويكون النظام السياسي والضريبي والمالي بأكمله مسخّراً، أساساً وقبل كلّ شيء، لهذه الغاية. كنت أقول أخيراً، في نقاشٍ مع الزميل محمّد زبيب، إنّ لبنان اليوم هو مثالٌ أكمل على ما يقوله الماركسيّون في أن النظام السياسي، والديمقراطية والتمثيل، ما هي الا غطاءٌ لنظام استغلالٍ طبقيّ. ولأنّ لبنان، واقتصاده، صغيرٌ وبسيطٌ وغير معقّد، تكون «النصبة» واضحة وبسيطة، وريعيّة بالمعنى البدائي والمباشر.
من هنا، فإنّ المعيار الحقيقي للراديكالية، في لبنان وغير لبنان، ليس في كلامك عن «تغيير النظام»، بل في مفهومك عن هذا النظام أصلاً ولماذا هو يحتاج الى التغيير. حين تُنتقد «الأجندة الليبرالية»، التي تركّز على شعارات حقوقيّة وحريات فرديّة ومسائل هوياتيّة، فهذا ليس لأنّ هذه المسائل (مثل مكافحة التمييز أو الحقّ في الاختلاف أو محاربة التنمّر على وسائل التواصل) سيّئة وغير محقّة، بل لأنّ هذه «الأجندة» تعكس غياباً عن المجال الأهمّ في السياسة: توزيع الثروة ودور الدولة ونمط التراكم في الاقتصاد. هكذا أنت تتكلّم على قضايا فئويّة، قد تكون صحيحةً ومهمة للغاية بالنسبة الى جمهورها، ولكنّك تتجاهل مركز الاستغلال الأساسي في المجتمع الذي يقسم الناس حقّاً ويطال الجميع. كما يقول سمير أمين في «مونثلي ريفيو»، لمناسبة الذكرى المئوية الثانية لكارل ماركس، فإنّ هذه الأجندة تعكس إحباطاً لدى الناشط الغربي في عصر الهيمنة الليبرالية وإحساسه بانعدام القدرة أمام العلاقات الرأسمالية التي تحيط به. هو يريد، بحسب تعبير أمين، «أن يغيّر حياته، ولكنّه لا يقدر على تغيير الحكومة»، فيلجأ الى القضايا الصغرى أو الى قضايا تناسب حساسياته الطبقية ومصلحته الفرديّة. من هنا، يكثر «الراديكاليّون» في بلدٍ كلبنان، ولكنّك لا تحصل على أجوبةٍ عن السؤال المركزي والحقيقي والملحّ، والذي يستهلك حياة الناس ومعاشهم وصحّتهم. البعض يريد وصفة «المجتمع المدني» والبعض يقول لهم لا، الصراع والتناقض الحقيقي هما مع سلاح «حزب الله»!
في هذه الحالة، على مستوى بلدك كما على المستوى الدولي، لا يسعك إلّا أن تصحّح تعريفك عن «النظام» وأعدائه، وأن تنتظر الأزمة التي ستأتي لوحدها في نهاية الأمر، من دون أن تنتظر خياراً جذرياً يستبقها ويُعدُّ لها لأنّك، وإن حاولت تجاهل التناقضات التي تحكم حياتك وبلدك، وانشغلت في قضايا «تناسبك»، فإنّ هذه التناقضات، وضريبة الجشع والقهر والاستغلال، لا بدّ أن تلحق بك في نهاية الأمر.