في ظل الاحتلال الغاشم حالياً والإصرار الأميركي على البقاء وتأسيس قواعد ثابتة في مختلف أرجاء الوطن، بدأت الدعاية منذ شهور للانتخابات التي أجريت في شهر أيار الحالي وفي مناخ العملية السياسية الغريقة. وفي هذا السياق برزت إلى الواجهة مسألة التحالفات الانتخابية، ومن أكثرها جدلاً هو الاتفاق الذي جرى بين حزب الاستقامة التابع للتيار الصدري والحزب الشيوعي المتعاون مع الغزو والاحتلال في قائمة «سائرون». وهو ما يستدعي محاولة أولية لمعرفة الأجواء العامة لهذه الانتخابات الجديدة – القديمة.إن مناورات التيار الدائمة هي دفع الخصم، إذ عملياً هو ليس لديه حليف، إلى خلق الفراغات التي هو يريد أن يملأها بعد التصدي له أو محاولة الحوار والتنسيق. وهو يذكرنا في نباهته الفطرية بأن الفرد الاجتماعي هو لغز إنساني لا يمكن حله لكنه في المجموع يصبح حقيقة رياضية. ولكن حين هربت خيول الفشل من إسطبل المحاصصة كان لا بد من تغيير الطريق حتى لو أدى ذلك إلى حفر سبيل خاص لتدوير الصورة المتدنية في القاع الاجتماعي للصراع تحت سنابك الاحتلال.
والتيار لا يملك مقومات المرجعية ولا مؤهلات رئاسة الوزارة لذلك لجأ إلى التحايل في البداية بالتلويح إلى ترشيح أحد أقطاب الحزب الشيوعي ومن أعمدة العملية السياسية الطوائفية. فهو يريد أن يكون قوة دينية متينة سياسياً، وتجمّعاً سياسياً مقبولاً مذهبياً بتقرّبه من المرجعية، بعد أن هاجمها كثيراً بكونها صامتة، وابتدع أشكالاً غريبة من الأدوات الجماهيرية والوسائط الاجتماعية. وقد شكّل لجنة عليا للانتخابات من عناصرها عضو مكتب سياسي في الحزب الشيوعي (جاسم الحلفي)، وهو المروّج اليومي للتحالف بين التيارين الديني والمدني سياسياً وليس انتخابياً فقط.
والتيار، وفي خضم الصراع السياسي مع الجميع، يردّد دائماً بأنهم جاؤوا من الخارج مع الاحتلال وها هو يتحالف معهم الآن. هو عملياً يعيش تناقضاً بين الحالة الاجتماعية التي يدعي تمثيلها وبين الحالة العامة للناس. لذلك فإن الخلاف بينه والآخرين ليس جذرياً لأنهم جميعاً ينطلقون من شرعية «الأمر الواقع» للاحتلال الأميركي، ولا سيما في نهجه التصالحي الأخير مع الوهابية السياسية الخليجية. إن السلطة الإصلاحية التكنوقراطية التي يبشّر فيها هي ثنائية طغيان النص المتشبث به بيئياً مع ديمقراطية الغنيمة التي يدعو إلى تقاسمها بين الجميع.
القفير الانتخابي الذي انخرط فيه الجميع كان في حالة من التشوش والاحتدام


وفي الضفة الأخرى لبدعة التحالف هذا، نعثر على نموذج هجين لمثقف «الزوتشة»، وهو تقليد مشوه للممارسة السياسية شعاره الكاذب الاعتماد على الذات في حزب اليسار الاحتلالي، ذلك لأنه عملياً سلطة ظل فاشلة شاغلها الأساسي أن تصبح جزءاً من سلطة فعلية من دون نجاح، وأن تنال فتاتاً من السلطة القائمة بشق الأنفس. وإذا كان التنافس تاريخياً في السلطة بين «الأفضل» و«المفضل»، فإن التيار يهرب من هذه المقارنة إلى صيغة جديدة يتفق فيها مع الطرف الأضعف، ومن دون أن يجتمعا لأسباب استراتيجية، وهو الخلاف المزمن بين «النمط الطائفي» و«النموذج الطوائفي» في ظل الاحتلال الذي يتعايشون معه ومن دون مقاومة له، وأدواته من الإسلام الوهابي. هنا يتجنب التياران موضوعة الحفاظ على الوحدة السياسية والإدارية للبلد ويتركون ذلك لقوى الاحتلال وتحالفاته الخارجية ويبتعدون عن مهمات النخب المتميزة في اللجوء إلى فكرة «الوطنية» من دون طغيان وإلغاء بدعة «الطغيان» من دون وطنية، بل ذهب البعض إلى التمسك بأن تكون نتائج الانتخابات مع صيغة «بقاء الاحتلال» تحت شعار الحاجة الملحة إليه عسكرياً، وأن يكون العراق «الجديد» بعد الانتخابات «محايداً» بين المحاور المختلفة والمتصارعة في المنطقة. وهذا يعني عملياً الحياد بين أهمية الاستقلال الوطني الناجز وتصفية الاحتلال وبين الاستمرار في التعاون مع الاحتلال بمسوغات عديدة تصب كلها في مجرى مكافحة محور المقاومة في المنطقة.
والملاحظ بأن مهرجان تحالف «سائرون» كان لا يركّز في البداية على صيغة معينة للشكل والمحتوى المطلوب بعد إعلان نتائج الانتخابات. فشعار الأغلبية السياسية بات خرقة بالية مسح الأقطاب بها طاولات المحاصصة، والآن لا يني هؤلاء في رميه في حاوية النتائج المتوقعة والتي سيكون عنوانها كما يريد الاحتلال: لا مجال للتقاسم حالياً لأن جرس التحذير الذي حاول الاحتلال سرقته ليمنع الجميع من استعماله في الملمات ضاع مع الفساد المتراكم في الحكومات المتعاقبة الفاشلة. وهذا ما أكده أحد أقطاب العملية السياسية بعد أن استأصل لوزته: إنه من الصعب تشكيل حكومة أغلبية سياسية بعد الانتخابات لأن جميع القادة مرتبطون بمحاور الخارج والممول الخليجي الوهابي يرفض تشكيل حكومة غير طوائفية عابرة للمذهبية السياسية. وكان هذا التصريح صاخباً في سياق استقبال الوزير الأول للداعية أحمد الكبيسي، والمعروف في علاقته مع المحور الخليجي وهو يردد دائماً الكلام البغيض الطوائفي بأن «كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر»! وقد فضحه البعض بأنه طرح مشروعاً لتشكيل «مرجعية سنية» تتفاهم مع المرجعيات الشيعية في الوصول إلى حالة لتقاسم السلطة السياسية تحت الاحتلال بعد إعلان نتائج الانتخابات.
بيد أن أطراف تحالف «سائرون» طبقوا في دعايتهم المنطق في «التاريخ المستعمل» بأن ميزة التقدم الكاذب هو السعي دائماً لارتكاب الأخطاء، أما نبراس المحافظة على واقع الأمر فهو العمل الحثيث من أجل منع تصحيح هذه الأخطاء. وهم يرفضون الرجال المستنيرين والذين يقاومون الأجنبي وهم دعاة مرحلة اجتماعية تغلي بالآمال ويكون وعيهم قوياً باستقلالهم كجماعة سياسية متماسكة. أما الحديث عن النزاهة فقد أصبح مثيراً للسخرية الآن، ولا بد من الإفادة بأن أخطر الانتهازيين هم الذين يزعمون بحملهم كتاب الاستقامة. وفي غضون السجال نرى أطراف القائمة تردد بوجل: إننا لا نريد أن نجد أنفسنا داخل هذه الخريطة الجديدة إلا تحت ظروف الفشل الذريع المزمن حيث لا يليق أو لا نطمح بأن نكون خارجها الآن تحت ضغط شظف الحياة حيث لا يصح ولا جدوى. ولذلك فإن هذه الأطراف تلتقي عملياً تحت المنصة نفسها التاريخية التي بدأت في الانقلاب العسكري البونابرتي عام 1958، وهي تمثل حالة مستعصية من التجاذب بين الجلاد والضحية ليس لأنها سجينة الماضي فقط وإنما هي سجينة أفكارها عن الماضي. والطرفان الأساسيان في التحالف: المذهبية السياسية واليسار الاحتلالي قررا التساكن في صيغة ملفقة لمعرفة الماضي الذي يتشبثان به ومن دون إنجاز أية نقلة نوعية في الحاضر المنحط، إنه تغيير كما يقال قهوة من دون كافيين.
إن القفير الانتخابي الذي انخرط فيه الجميع كان في حالة من التشوش والاحتدام والجميع عملياً لهم القدرة على الاستمرار في الحراك ولكن لا يمتلكون الاستطاعة على تحقيق شيء ملموس سوى الدوران المستمر في دائرة الطباشير الاحتلالية حيث الجميع يدعي بأنه «أم الولد»، والعراق وأهله يذبحان يومياً لأن الاحتلال هو الخصم والقاضي في الوقت نفسه.
* سياسي وكاتب عراقي