ورد في جريدة «الأخبار» بتاريخ 21 نيسان مقالة للشيخ شفيق جرادي تناولت ردّاً على ما كتبناه حول مقالة للعميد الياس فرحات قال فيها إن الخلاف السنّي ــ الشيعي التاريخي يعود إلى أسباب سياسية، وفي كلامنا قلنا إن الخلاف أعمق من السياسة بكثير، بل يقع في جوهر الرؤية والتفاسير.المسلمون بعد عهد الخلفاء الراشدين ابتعدوا رويداً رويداً عن جوهر التفسير الصحيح لما جاء به النبي محمد، وما شرحه من آيات قرآنية لصحبه وآله وللناس. ومع وفاة الذين واكبوا الرسول في دعوته ومسيرته، اختفت آخر وسائل التوثيق لما قاله وقصده. وكان التوثيق آنذاك يستند الى الذاكرة.
صحيح أن كل الذين نقلوا كلام الرسول وُجدوا جميعاً في مكان وزمان واحد، إلا أن تلقّي المعلومة وتخزينها في الذاكرة ثم استعادتها والتعبير عمّا تمّ إدراكه سابقاً خاضعة لتأثيرات شتّى، تبدأ بالمشاعر والعواطف الحساسة، كما الانتماء القبلي والموقع الإجتماعي، مروراً بمستوى الذكاء والثقافة، وصولاً إلى عوامل غيرة طبيعية إنسانية وواقع مهني واقتصادي وحتى صحي.
مع تمدّد سيطرة المسلمين ومع مرور الزمن، دخلت عناصر مؤثرة جديدة غيّرت من نمط التفكير والرؤية للأحداث، وزوّدت المنطق بعناصر وأدوات تحليلية أكثر حداثة وأكثر تطوّراً. فقد دخل المسلمون العرب بلاداً أكثر رقياً أو تطوّراً في مستوى الفلسفة وكيفية استخدام المنطق في التفكير. وهؤلاء اعتنقوا الإسلام ولم يتبنّوا العروبة والتعريب، بينما شهدنا في أمكنة أخرى أن العرب كانوا أكثر حداثة من غيرهم، ما حثّ تلك الشعوب التي دخلت الاسلام على التعرّب، علماً بأنه كان هناك عنصر محفز يتعلق بأن الجنسية العربية عدّت في حينه جنسية الأقوياء.
كل ذلك أظهر عناصر ثقافية جديدة دعّمت الحجة والتبرير بمنطق أقوى، وحملت معها ما نال إعجاب كل مجتهد من حكايا وروايات وأساطير لثقافات أخرى. لكن الأخطر أنها حملت معها عداوات قومية ودينية وقبلية. وهناك من انضوى في الاسلام عن غير اقتناع. وهنا يصح السؤال عمّا إذا كان كهنة الدين القديم وسحرته قد توقفوا نهائياً عن العمل بمجرد دخول الجيوش الاسلامية إلى بلادهم، ما سمح عملياً بتسلل تأثيرات نفسية على تفكير ورؤية وتعبير وشرح كل مهتم بالدين، كلّ وفق موقعه وزمانه.
ومن الطبيعي أن نلفت إلى أن عالم الدين له كينونة نفسية تتعرض للاضطرابات كغيره من الناس؛ فإذا كان يعاني من عصاب الوسواس القهري مثلاً، ستأتي أحكامه قاسية بما خصّ الطهارة والنجاسة، وذلك ليس بقصد التحريف، بل تعبيراً لا واعياً عن خوف وحذر وتردد وحيطة بقصد الابتعاد قدر الإمكان عن الخطأ... وذلك لأنّ الأحكام خاضعة لتركيبة شخصية رجل الدين وليس بالضرورة متطابقة مع ما جاء به الرسول.
الذاكرة كوسيلة توثيقية هي عرضة للضعف والتشوش ولخلط الأحداث


أما لو عانى المختص بأمور الدين من شخصية ذي تركيبة ذهانية مستترة، فإن شرحه للأمور وتفاسيره وآراءه ستكون عرضة لتأثيرات جنح خياله وتفلت أوهامه ومشاعره الاضطهادية، ووفق اضطراب مزاجه، ما سيؤسّس لأحكام منغلقة، شبه عدوانية أو عدوانية، متأهبة دوماً ومستنفرة لا تثق بأحد، بل ترسم الآخر برسم المتآمر.
إن ما أوضحناه في كلامنا يبرر لماذا ازداد التفاوت والاختلاف بين المجموعات الاسلامية في الشرح والتفسير، حتى أصبح متضارباً ومتناقضاً إلى حدّ الصدام والحرب والتكفير...
وإحدى الحالات النفسية الأكثر خطورة تسمى الشرح المرضي للأمور، وفيها يفسّر المرء الامور والكلام ليس كما جاءت حرفياً وعلى حقيقتها والقصد الصحيح المبتغى منها، بل كما يناسب هواجس ومخاوف وتشوش أفكار واضطراب مزاج المتلقّي للإشارات والكلام.
أما الذاكرة كوسيلة توثيقية، فإنها عرضة للضعف والتشوش ولخلط الأحداث بعضها ببعض، كما أنها قابلة أن تصاب بما يسمى «رأيته سابقاً» أو «عرفته سابقاً» أو «حصل معي سابقاً»deja vu, deja connu وهي حالة يؤمن صاحبها بأن الأحداث التي يعيشها كانت قد حصلت معه سابقاً أو أنه رآها سابقاً، ما معناه أن وسيلة التوثيق تلك، أي الذاكرة، عرضة للاهتزاز والتحريف من دون قصد ونية سيئة لدى المرء. فإن كان عالم الدين يعاني من تلك الحالة، لحملت أحكامه وأفكاره الكثير من الغرابة؛ فالقدسية في ما بعد، وخاصة بعد وفاته، وخاصة إن جاء الموت قتلاً أو تعذيباً أو اختفاءً، يسقطها الناس على المجتهد لتبرير شعور ما بالذنب أو تبريراً لتقاعس ما أو ندم تجاه المجتهد الضحية...
فكيف لا تبتعد التفاسير عن القصد، وكيف لا تتضارب الشروحات مع الزمن وباختلاف الاشخاص المؤثرين في الحياة اليومية؟
وأليس طبيعياً أن يؤمن ويصدق بقيامة المسيح بعد ثلاثة أيام من شعر بالندم والذنب لنكرانه المسيح ثلاث مرات؟ ألا يناسب ضميره الشاعر بالتقاعس والجبن بطريقة غير مباشرة عودة الحياة لمن قالت اليهود عنه إنه مات، وقد رفع على الصليب مظلوماً.
لأجل كل ما تقدم، كان لا بد من إسقاط القدسية على بعض القادة والمجتهدين لحمايتهم من كل اتهام ونقد وتعليق، وخاصة إذا أتوا على مسائل من الصعب تصديقها. وإذا واكبت المجتهد قوة السلطة، اكتسب هيبة وتضخماً للأنا وقدسية لا جدال فيها. فكيف إذن حافظ المسلمون على ما جاء وقصده النبي، وكيف بالامكان أن نجزم بأن تفسير الآية تلك كان حكماً المقصود بها هذا وذاك...
الكلام أن أهل السنّة تمترسوا خلف الأئمة الأربعة والشيعة تمترسوا خلف الأئمة الاثني عشر، أو الإمام إسماعيل أو الإمام زيد، وكادوا يخرجون من الاسلام ويقفلون الباب من خلفهم. فليس بكلام مقصود به الإساءة لمقامات رفيعة، بل المقصود أن التباينات في التفاسير وصلت إلى حدّ الافتراق بين كل تلك الاتجاهات. وما يربطها ببعضها كثير حتماً، إلا أن ما يفرّقها رغم قلته له امتدادات غير قابلة للمساومة، أوّلها قدسية الأولياء، وذلك أيضاً مبرر ومفهوم طالما أننا سمعنا العراقيين وفي منتصف القرن العشرين، يتحدثون أنهم شاهدوا وجه عبد الكريم قاسم الذي قتل وهو يقاتل مرسومة على القمر، ثم تحدث أبناؤهم في آخر القرن العشرين أنهم شاهدوا وجه الرئيس صدام حسين المشنوق قتلاً مرسوماً على القمر.
أما الحديث عن أنّ الصراع كان بين أهل المال والسلطة وحراس اللات وهبل، أي مفاتيح الجنان لأهل الجاهلية وبين ثوار إنسانيين قالوا بإله واحد يؤمن بالمساواة وتوزيع عادل للثروات وتحقيق العدالة الالهية بين الناس، وخاصة في يوم القيامة، إذ لا فرق بين هاشمي وأموي وبين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، فذلك إعلاء من شأن ثوار الجزيرة العربية آنذاك ضد منظومة قديمة متهالكة ما عادت تستجيب لآمال الاجيال الصاعدة.
* طبيب وباحث متخصص في علم النفس