ما يحدث اليوم حول الملف السوري ليس جديداً ولا مستجداً؛ فمنذ أن بدأت تلك الأزمة والتجاذب الدولي والإقليمي موجود حولها، نظراً لأهمية موقع سوريا في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، إضافة إلى الأسباب المرتبطة بالمصالح الاقتصادية لكل الأطراف المعنية. إن احتدام المواقف والاصطفافات على ضفتي الصراع والتهديدات المتبادلة بين الأطراف كافة، يضع المنطقة والعالم على حافة اشتباك دولي ستتطاير شظاياه في غير اتجاه، وستطاول أكثر من قضية: فتحرير الغوطة من المجموعات الإرهابية حدث، من دون شك، له أهميته الكبيرة، ليس على مستوى المكسب الجغرافي والأمني الذي تحصّلت عليه الدولة السورية وإنما بمضمونه الاستراتيجي المرتبط ببداية انهيار المشروع الغربي، المدعوم من بعض الدول العربية والإقليمية بهدف تقسيم سوريا واستكمالاً المنطقة إلى كيانات طائفية ومذهبية وعرقية. إن التقدم الحاصل ميدانياً، منذ سنتين حتى الآن، والذي بموجبه استعادت الحكومة السورية الجزء الأساسي من الجغرافيا المفيدة (أكثرية المدن الكبرى والتجمعات السكانية)، إضافة إلى إعادة الاستثمار في القطاع الإنتاجي عبر المدن الصناعية الكبرى (حلب وريف دمشق)، وصولاً إلى تثبيت سعر صرف الليرة السورية وبعض التحسن الذي طرأ أخيراً عليها، كلها عوامل تؤشر إلى بدء العد العكسي لانهيار ما كان يُرسم لسوريا والمنطقة من مشاريع.هذا الواقع ما كان ليتحقق، لولا الدعم الكبير والاستثنائي الذي قدمه الروس والإيرانيون وحلفاء سوريا في العراق ولبنان، بغض النظر عن طبيعة تلك التقديمات وحجمها، وهذا الدعم، بدوره، قد أرّق المحور الآخر، لما سيصدر عنه من نتائج، ستؤثر بمجملها في كل الخريطة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط، الممتدة من حدود باكستان شرقاً حتى المغرب العربي غرباً، والتي هي بالأساس جغرافية المشروع الأميركي المعروف بـ«الشرق الأوسط الجديد». من هذا المنطلق نفهم هذا «السعار» الغربي غير المسبوق ضد روسيا وإيران وسوريا بعد مزاعم عن هجوم كيماوي في الغوطة الشرقية، مع الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي تثار فيها مثل هذه القضية، وللأسف لم يجر التحقق من صحة هذه المعلومات على رغم عويل الدول الغربية وصراخها حول مسألة حقوق الإنسان، ما يشير إلى استغلال ما، لحوادث قد تكون مفبركة أو صحيحة، لتنفيذ أجندات معينة تخدم بطبيعتها المشروع الغربي، وتعزز تدخل دوله في الشؤون الداخلية لبلداننا.
إن استخدام، ليس فقط الأسلحة الكيماوية، وإنما كل أسلحة التدمير والقتل ضد المدنيين هو أمر مرفوض ومدان، بغض النظر عن الجهة التي تقوم بذلك، وهذا لا ينطبق على سوريا فقط، وإنما على كل الساحات المتفجرة في المنطقة، وبمفعول رجعي: في فلسطين، وجرائم الاحتلال الصهيوني وهو يقتل المتظاهرين العزل بالرصاص الحي ويحرق غزة بالفوسفور الأبيض وشاشات التلفزة تنقل ذلك المشهد مباشرة من دون أن يصدر ولو قرار شجب عن مجلس الأمن ضد تلك الهمجية... وها هم قادة «العالم الحر»، على ما يدّعون، يستقبلون مجرمي الحرب في بيوتهم، ليس البيضاء، وإنما السوداء، وكذلك في قصورهم ويفرشون لهم السجاد الأحمر بتزلف موصوف. فحق العودة مشروع وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة هي مطلب كل أحرار العالم. فكل الدعم لانتفاضة شعبنا الفلسطيني الذي يستعيد اليوم وهج قضيته، ويقطع الطريق على صفقات المتاجرين بها في غير مكان من عواصم القرار في العالم... في اليمن الفقير والذي يُدَمر على رؤوس سكانه بالطائرات والسلاح الغربي، المدفوع ثمنه أضعافاً مضاعفة، وتتسابق دول حقوق الإنسان إلى التملق لدول العدوان أيضاً لقاء صفقات من أسلحة، ستُصرف في تقطيع أوصال الأطفال... وفي العراق وأفغانستان ولبنان...، وسط صمت مريب و«مقرف» من قبل كل من يدّعي اليوم حرصه على المدنيين.
هي تلك البلطجة الغربية السائدة منذ قرن حتى اليوم: لم تترك مجالاً إلّا وتدخلت فيه، مدت يدها إلى ما في باطن الأرض وما هو موجود على سطحها. لم تترك موضوعاً إلّا ودست أنفها فيه، وها هي اليوم تجتمع وفي شكل سافر على العدوان، لكن ذلك ليس مستغرباً، لأن ذلك من طبيعتها. ما يحصل اليوم أشبه بالرقص على رؤوس الثعابين. مصير شعوب المنطقة ودولها هي في ذيل اهتمام عواصم تلك الدول. مصالحها وتجارة أسلحتها في المقدمة، وما يجاهر به ترامب أو ماكرون أو ماي ليس إلّا دليلاً على ذلك. يهددون بالرد العسكري، وأي جديد في ذلك، إنهم بعسكرهم وحروبهم موجودون منذ قرن في منطقتنا: ألم يرتووا بعد من الدماء والنفط؟ ألم تمتلئ خزائنهم من خيرات المنطقة ومواردها؟ إذاً، لماذا هذا «الهواش» وبهذه الطريقة؟
لقد أصابهم، من دون أدنى شك، إحباط مع بداية تداعي مشروعهم في المنطقة، وما هذا الاستنفار الغربي/ العربي، عند كل محطة، تكون في مصلحة محور سوريا وحلفائها، إلّا تأكيد على ذلك. اليوم مع إنهاء ملف الغوطة تكون الدولة السورية قد أبعدت قضيتين أساسيتين عنها: التقسيم والإسقاط. والمعارك التالية، لن تكون في قلب سوريا وإنما في الأطراف: في الجنوب، والذي هو بالأساس خط مواجهة مع العدو الصهيوني، لكنّ المستجد فيه هو وصول قوى تنادي بتحرير الأرض، وها هي اليوم على رمية حجر من الحدود التاريخية لفلسطين المحتلة. وفي الشمال، حيث التربص التركي لا يزال موجوداً، فإن معركة لا بدّ حاصلة، لكنها ستكون خاضعة لتفاهمات بين قوى ضامنة لها. تبقى معركة الشرق، والتي ستكون في وجه الاحتلال الأميركي؛ وبتقديرنا أنها ستبدأ قريباً، إن لم تكن قد بدأت بالفعل، وما نسمعه عن عمليات قصف للمواقع الأميركية بين فترة وأخرى ليس إلّا بعضاً من إرهاصات بدايتها. الموقعة ستكون على ذلك النوع من المواجهة؛ فكما كانت في العراق كذلك ستكون في سوريا، مع كثير من التشابه والتعاون بين قوى شاركت فيها سابقاً وستشارك حالياً.
نحن اليوم أمام عدوان أميركي غربي على المنطقة، سيكون مدعوماً عربياً، وسيكون لإسرائيل دور فيه على قدر استطاعتها. فهل سيعمل الروس على إلجام هذه الاندفاعة؟ من دون شك الدور الروسي هو المستهدف قبل كل شيء، يليه الإيراني وصولاً إلى البقية، لذلك فإن تطور الأمور مرهون بموازين القوى. هي دول كبرى وصاحبة نفوذ، لكن نحن أصحاب المنطقة ومواطنوها؛ فقضيتنا في هذا الاتجاه عادلة: فلسطين حق لنا، وكذلك الجولان ومزارع شبعا والرقة ودير الزور والعراق.... حماية أرضنا ومواردها والذود عنها، فعل واجب علينا. حق شعوبنا بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية لا مساومة عليه. هي معركة حق وإرادة، فما دامت القضايا مترابطة فلماذا لا تكون المواجهة شاملة وفي المجالات كافة؟ هو ليس سؤالاً ولا تساؤلاً، وإنما مَهَمَةٌ، وهي برسم قوى التحرر الوطني في كل بلداننا العربية. فلسطين تبقى الأساس، وعلى هذا الأساس يجب البناء.

* عضو مكتب سياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني