كان ياسين الحافظ (1930ـــ 1978) من أبرز من كتب المقالة السياسية عند العرب في النصف الثاني من القرن العشرين. ما زالت الكثير من نصوصه طازجة، وبعضها كان فيه تنبؤات مدهشة مثل توقعه لسيناريو دفع بعض العرب لعبد الناصر إلى إغلاق خليج العقبة في وجه السفن الإسرائيلية في رده على مقالة لأكرم الحوراني، إذ كتب ياسين الكلمات التالية في جريدة «البعث» في عدد 22 أيلول 1962: «الاتجاه العام لمقاله يهدف إلى توريط مصر في حرب خاسرة... يريد أن يجعل من قضية فلسطين وقوداً لإحراق عبد الناصر». وبعد أشهر من هزيمة حزيران كتب ما يلي: «هدف حرب حزيران انكفاء مصر داخل حدودها، ما سيضمن لإسرائيل تفوقاً ملحوظاً على الجناح الآسيوي من الوطن العربي».كتب ياسين الحافظ وهو الآتي من الحزب الشيوعي لحزب البعث نص «المنطلقات النظرية لحزب البعث» في تشرين الأول 1963. وفي شباط 1964، اجتمع ميشيل عفلق وصلاح جديد و«تنظيم القطريين» العائد لحزب البعث ضد اتجاه مركسة الحزب، الذي قاده ياسين الحافظ الذي ذهب نحو تأسيس «حزب البعث اليساري» وفي 1965 حزب العمال الثوري العربي. كان هناك مسيرة رباعية المراحل لياسين الحافظ: حزب البعث، الحزب الشيوعي، حزب البعث، حزب العمال الذي جمع بين الماركسية والعروبة. هذا المسار للحافظ يمكن أن يكون تكثيفاً لاتجاه يساري أخذ مداً كبيراً عند العرب ودفع الكثير من العروبيين نحو التمركس حتى بلغ هذا الاتجاه ذروته مع «حركة القوميين العرب» التي تمركست فروعها المختلفة في الأقطار العربية عقب حرب 1967.
كان ياسين الذي تم فصله من الحزب الشيوعي السوري عام 1957، مع الياس مرقص، مدركاً لأهمية ظاهرة عبد الناصر وأن صدام الغرب مع الرئيس المصري هو صدام للإمبريالية مع حاكم عربي أدى اتجاهه نحو تحقيق الوحدة العربية إلى صدام حتمي مع الغرب الإمبريالي، أولاً لندن وباريس ثم واشنطن لاحقاً. كانت مفاهيم «الوحدة العربية» و«الإمبريالية» هي الطاغية على ذهن ياسين الحافظ، وقد أدى الجمع بينهما عنده للذهاب من الحزب الشيوعي إلى حزب البعث. وعندما ضاق البعثيون به، كما ضاق خالد بكداش، اتجه إلى حزب يجمع الماركسية والعروبة.
لم يستمر هذا الاتجاه عند ياسين الحافظ بتأثير عاملين: عبد الله العروي بكتابيه «الأيديولوجية العربية المعاصرة» و«العرب والفكر التاريخي» الصادرين عن دار الحقيقة في 1970 و1973 على التوالي، ثم الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. بفعل العروي، اختلف ياسين مع الياس مرقص عندما أخذته فكرة المفكر المغربي بأن التأخر العربي ناتج من عدم المرور بمرحلة الليبرالية بمعانيها الثقافية والسياسية والاقتصادية ــ الاجتماعية، ولهذا انتقل التركيز عنده إلى مفاهيم «الفوات التاريخي» و«التأخر» و«الديموقراطية» و«العقلانية» و«العلمانية».
خلافاً ليساريين لبنانيين وعرب مجدوا اليسار اللبناني المتحالف مع المقاومة الفلسطينية ضد اليمين اللبناني رأى ياسين الحافظ في الحرب الأهلية اللبنانية حرباً طائفية ودعا إلى وقفها كما تلمس منها «ارتسامات الانهيار الكبير والليل الزاحف» إلى عموم الأقطار العربية، واعتبر أنها في كل يوم منها «تشبه هزيمة 5 حزيران، حيث 5 حزيران العربية كانت هزيمة مع الخارج، أما 5 حزيران اللبنانية فهي هزيمة مع الداخل»، واصفاً إيًاها بأنها «حرب بين كُسري أمة».
كانت نبوءة بلوز استباقاً توقعياً لمصير تلاميذ الحافظ في «حزب العمال الثوري العربي»


توفي ياسين الحافظ عام 1978، وقبل أشهر من وفاته في تشرين الأول من ذلك العام عرض عليه «مشروع موضوعات المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري ــ المكتب السياسي» حيث تمت للمرة الأولى منذ 8 آذار 1963 عملية تبنٍّ من حزب يساري سوري لمفهوم «الديموقراطية» بعيداً من مفاهيم «الديموقراطية الشعبية» و«الديموقراطية الثورية» التي كانت سائدة في الستينات والسبعينات عند عموم اليسار بتلوناته العروبية والماركسية. كان ياسين متحمساً جداً للموضوعات بخلاف عضو «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» الدكتور نايف بلوز، أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، الذي رأى أنه إن لم يكن هناك رباط مفهومي يضع «الديموقراطية» ضمن رؤية ماركسية لمفهوم المرحلة البرجوازية بمعناها السياسي (أي الديموقراطية) ومعناها الاقتصادي (الليبرالية) ومعناها التشريعي ــ الدستوري (التحديث)، فإن مشروع موضوعات المؤتمر الخامس سيقود الحزب الشيوعي السوري ــ المكتب السياسي من الماركسية إلى الليبرالية. كانت نبوءة الدكتور بلوز استباقاً توقعياً لتحول رياض الترك والكثير من أعضاء الحزب بسبع وعشرين عاماً، ولكنها أيضاً كانت تنبؤاً بمصير تلاميذ ياسين الحافظ في «حزب العمال الثوري العربي»، وربما أيضاً ياسين لو امتد به العمر.
في كانون الأول 1979 دخل الحزبان في تأسيس «التجمع الوطني الديموقراطي» مع حزب الاتحاد الاشتراكي وتنظيم بعث 23 شباط ــ صلاح جديد و«حركة الاشتراكيين العرب» بقيادة أكرم الحوراني. كان هذا تجمعاً لليسار السوري المعارض في ظل بدء مجابهة السلطة السورية مع جماعة «الإخوان المسلمون». مثلما كانت الوحدة العربية في الخمسينات طاغية على الشعارات السياسية بالخمسينات ثم الاشتراكية في الستينات، فإن الديموقراطية أصبحت عند الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي وحزب العمال الثوري العربي شعار الشعارات في الثمانينات والتسعينات.
وعند «حزب العمال» كان هناك تركيز على الثقافة والمفاهيم ربما أكثر من السياسة، وهذا كان يلمس في المنشورات عامة حيث لم يعد هناك تركيز على الماركسية ومفاهيم الإمبريالية والوحدة العربية، بل على مفاهيم العلمنة والعقلانية والحداثة ونقد التأخر ونقد الفكر التقليدي. هذا كان يلمس في حزب كان وجهه الأبرز هو الذي كتب الوثيقة الأبرز في ملامحها الماركسية عند حزب البعث حتى اضطر ميشيل عفلق إلى كتابة مقدمة للنص هي بمنزلة رد على النص نفسه الذي تبناه المؤتمر القومي السادس للحزب (تشرين الأول 1963). وعندما خرج أو أُخرج من البعث كان التنظيم الجديد تحت اسم «البعث اليساري» قبل «حزب العمال».
كان من الواضح في الثمانينات والتسعينات أن تلاميذ ياسين الحافظ في «حزب العمال» بفرعيه في سوريا ولبنان يتجهون من اليسار نحو اليمين، وأن التفكير الليبرالي بالمعنى الفكري ــ الثقافي ــ السياسي قد أصبح يطمس الملامح الماركسية عندهم. هذا كان مترافقاً مع بدء انحسار الموجة اليسارية العالمية في السبعينات وهي البادئة مع «ثورة أكتوبر1917»، ومع بدء الموجة اليمينية العالمية منذ النصف الثاني في السبعينات وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه عام 1991. كان تلاميذ ياسين الحافظ الأسرع في إظهار وتظهير التحول الفكري من الماركسية نحو الليبرالية في التسعينات وكانوا الأكثر تحمساً في ملاقاة فكرية ــ ثقافية ــ سياسية للأميركي الغازي والمحتل للعراق عام 2003 وكانوا بين الكتاب والصحافيين والسياسيين اللبنانيين والسوريين الأكثر جهراً بالتعويل على «العامل الأميركي في إحداث تغيير داخلي» أثناء وجودهم في «14 آذار 2005 اللبناني» و«إعلان دمشق» (16 تشرين الأول 2005).
كخلاصة عامة: ليس القصد هنا تناول أشخاص بل معالجة تاريخ موجات فكرية عبر حوامل ربما يكون شخص «ما»، مثل ياسين الحافظ، هو حالة نموذجية لتظهير مسارات تلك الموجات هو وتلاميذه، إذ كان مثالاً على اتجاه عروبي نحو الماركسية ثم على طلاق مع الحزب الشيوعي بطبعته السوفياتية باتجاه العودة للحزب العروبي ثم للطلاق الماركسي مع الأخير لإنشاء حزب يزاوج الماركسية والعروبة. كان انتكاس المد العروبي منذ 1970 مع وفاة عبد الناصر مترافقاً عند ياسين مع تركيزات هي أقرب إلى «تلوينات ليبرالية»، وهو ما زاد مع دروس استخلصها من الانفجار اللبناني. تلك البذور التي وضعها ياسين في السبعينات هي التي برعمت عند تلاميذه وطغت على البذور الماركسية وكذلك العروبية حيث ترافق التحول اليميني عند تلاميذه (على الأرجح باستثناء شخص واحد فقط هو الأستاذ طارق أبو الحسن) مع نبذ للماركسية والعروبة معاً، ومع تعويل على الغازي والمحتل الغربي للعراق وموجته، فيما كان ياسين في الستينات عند ثالوث (ماركسية ــ عروبة ــ العداء للإمبريالية).
* كاتب سوري