يغيب همُّ المواطن اللبناني عن خطاب أغلب الأطراف السياسية اللبنانية، بالرغم من تسابقها لاستثمار المشهد الانتخابي الطاغي حالياً في البلاد. وبعيداً عن المشهد السياسي، فإن المعضلة التي يعاني منها الحكم في لبنان، المتعلّقة بغياب الرؤية الاستراتيجية للدولة، ليست بجديدة، ولن تتغيِّر في استحقاقٍ انتخابيٍ قد تتهافت عليه الأطراف لاسترضاء المواطن وبشكلٍ ظرفي، لتمرير انتخاب نوّابها، لتعود الأمور كما كانت بمجرد انتهاء الانتخابات. لكن في الحقيقة، فإن المشكلة التي تعاني منها الدولة اللبنانية ترتبط مباشرةً بالطبقة الحاكمة، بحيث أن الطبقة المسؤولة عن إدارة الشؤون السياسية للدولة، هي نفسها المسؤولة عن إدارة الملفات الإدارية العديدة والمتنوعة، وهي تُمسك بالنتيجة بالملفات التي تتعلق بالهمّ المعيشي للمواطن اللبناني؛ في حين لا يجد المواطن لهمومه الحقيقية مكاناً في أي استحقاقٍ مصيري تخوضه هذه الطبقة، كما يجري اليوم في الاستحقاق الانتخابي. همومٌ تُعبِّر عن الحد الأدنى الذي يجب أن تؤمّنه الدولة للمواطن، ويعكس بالنتيجة مشكلات بنيوية، كالبطالة، تصحيح الأجور، ارتفاع الأسعار، تراجع القدرة الشرائية، العقارات والسكن، الطبابة، التعليم، الهدر والفساد وغياب الرقابة، الاستقرار المالي والنقدي إلخ...هذه المشكلة لم تعد اليوم قابلة للتأجيل. فكل ما يُعانيه المواطن اللبناني هو نتيجة لعقلية سائدة في إدارة الدولة، تتعاطى مع الواقع بشكلٍ لا يرتقي لحجم التحديات، ولا حتى المسؤولية تجاه الكيان اللبناني بكل مكوناته وأبعاده. فيما يعود السبب الأساسي لذلك، غياب الرؤية الاستراتيجية للدولة والتي يجب أن تتمخَّض عنها استراتيجيات تطال كافة القطاعات. في وقتٍ يفرض فيه الواقع اللبناني لخصوصيته، أن تكون الاستراتيجيات الاقتصادية والمالية في رأس سُلَّم الأولويات، لارتباطها مباشرة بهموم المواطن. وهنا فإن الرؤية الاستراتيجية التي تحتاجها الدولة اليوم، يجب أن توفِّر القدرة على الانتقال نحو عقلية جديدة يُنظر من خلالها إلى قطاعات الدولة على أنها قطاعات تهدف إلى تحقيق التنيمة المستدامة كما النمو. ما يعني أن نقطة البداية ترتبط بضرورة الخروج من العقلية السائدة، والتي تدَّعي أن السياسات التقليدية للدولة ما تزال قابلة للحياة. ويمكن الجزم أيضاً، بأن هذا الادعاء ليس في الحقيقة إلا لتبرير الواقع الحالي، وتأمين الواقع المستقبلي بما يضمن استمرار هذه العقلية، وبالتالي بقاء الطبقة السياسية الحاكمة.
ما تعتمده الدول اليوم في هندستها لسياسات القطاع العام تربطه بالتطور العلمي


ما تعتمده الدول اليوم في صياغتها وهندستها لسياسات القطاع العام، تربطه بالتطور العلمي والتكنولوجي الذي بات يسبق بنتائجه كافة التوقعات. وهو الأمر الآخر الغائب عن الدولة اللبناينة، والتي ما تزال ــ حتى الآن ــ بعيدة عن تحقيق ما هو أقل منه، لا سيما إجراء التحوُّل نحو الحكومة الالكترونية على سبيل المثال. وهنا، فإن المطلوب من الدولة اليوم، أن تنطلق لوضع واعتماد استراتيجية طويلة الأمد تهدف لتقديم الدعم الشامل لكافة قطاعات الاقتصاد اللبناني، مع التوجه إلى تطوير بنية الدولة عبر التأسيس لواقعٍ إداري مُحكم ومعرفي، تكون أولى خطواته وليس آخرها تطبيق الحكومة الإلكترونية. بموازاة ذلك يجب العمل على أولوية إصلاح السياسات التقليدية، لا سيّما الاقتصادية والمالية منها. وهو ما يحتاج عملياً، إلى وضع خطة خمسية للدولة اللبنانية ذات طابع إنتاجي. فما هي الأسس التي يجب أن تتكون منها هذه الاستراتيجية؟
تتكوَّن هذه الاستراتيجية من أُسس عدّة، تقع ضمن إمكانيات القطاعات الحالية في لبنان، وتُساهم في صناعة تحوُّل بنيوي وظرفي، سريع ومُستدام، يرفع من مستوى مُخرجات قطاعات الإنتاج في لبنان كماً ونوعاً، ويُساهم في تأمين القدرة على مواكبة التطور.
أولاً: وضع سياسات تدعم التّحول نحو مجتمع المعرفة، من خلال دعم القطاعات البارزة في العلوم والتكنولوجيا، وتحفيز طاقاتها والمشاريع الناتجة عنها من أبحاث وبرامج، بحيث يستطيع لبنان ومن خلال إمكاناته الموجودة في هذا المجال، بناء مكانة تجعله يستحوذ الميزة التنافسية الإقليمية في عالم البرمجة والمعلوماتية.
ثانياً: دعم قطاع الصناعة اللبنانية وتقويته، بحيث يُصبح في المُستقبل داعماً للقطاعات الأخرى في لبنان لا سيّما القطاعين الأساسيين، الزراعة والخدمات. يُمكن أن يحصل ذلك من خلال سياسات عدّة تبدأ بدعم الصناعات المحلية، وسن القوانين والسياسات التي تُحفِّز الاستثمارات في القطاع الصناعي المحلي، والمساعدة في تصدير منتوجاته، بالإضافة إلى منع إغراق السوق اللبنانية بالسلع الأجنبية، وصولاً الى السياسات المالية المتعلقة بتحفيز الإنتاج عبر دعم الدولة لكلفة الإنتاج والمواد الأولية.
ثالثاً: تقديم مشاريع الإصلاح الإداري والمالي لمنع الهدر والفساد، والبدء بدعم الخدمات العامة للدولة من خلال تنفيذ مشروع الحكومة الإلكترونية، كمقدمة لإيجاد تَحوُّل في بنية القطاع العام وربطها بالقطاع الخاص، ما يؤثِّر على آلية قطاع الخدمات عموماً.
رابعاً: وضع سياسات وخطط استباقية لدعم قطاع النفط والغاز، في محاولة لتأمين الاستفادة من موارد الطاقة التي بات يمتلكها لبنان. وهو ما يمكن أن يبدأ من خلال تحفيز إنتاجات الصناعات البيتروكيمياوية.
تغيب الرؤية الاستراتيجية الشاملة للدولة اللبنانية عن الخطاب الانتخابي للأطراف المحلية. فالمعركة المقبلة بحسب القانون النسبي، جعلت الأطراف تغرق في حسابات الأحجام، على اعتبار أنها معركة أحجام. وهو ما لا يُبرِّر غياب الرؤية الاستراتيجية، والتي تتعلق مباشرة بواجب النائب اللبناني الذي حدَّده الدستور والقائم على دوره التشريعي والرقابي. فالتشريعات بالقوانين لا تصدر إلا بعد موافقة المجلس النيابي عليها، وهو ما ينطبق أيضاً على مسألة الرقابة الخاصة بأداء السلطة التنفيذية. وهنا فإن العملية التشريعية، تهدف لدراسة واقتراح القوانين التي تتعلق بحياة المواطن اللبناني (تنظيم حياة المواطن، تحديد العلاقة بين الشعب والحكم...) والتي ترسم بالنتيجة السياسة الداخلية للبلاد كما السياسة الخارجية. من جهةٍ أخرى، تأتي عملية الرقابة على السلطة التنفيذية لمراقبة أداء الحكومة وأجهزة الدولة، وتطابقه مع السياسات العامة الداخلية والخارجية. ليكون النائب بالنتيجة مُمثلاً لمصالح المواطن في المجلس وراعياً لها. فأي مجلسٍ نيابيٍّ ينتظر لبنان، تغيب عنه الرؤية الاستراتيجية الشاملة للدولة؟
* باحث لبناني