فريقان في لبنان يتحدثان عن الانتخابات. الفريق الأول يدعو إلى مقاطعتها لأنها لن تحدث أي تغيير. وغالباً لا يخبرنا أحد من هؤلاء ما هو التغيير أو كيف يكون التغيير. وفريق ثانٍ يعمل جاهداً لإقناع نفسه، وإقناع الآخرين، بأنها ستحدث تغييراً (لا نعرف ماهيته هو الآخر)، وإن كان طفيفاً، وأن الانتخاب في جميع الأحوال أفضل من المقاطعة. ونتحدث هنا عن الذين يرددون مصطلحات بائسة عن الأمل، وعن أُولى الخطوات، ورحلة الألف ميل، ولا بد أن نبدأ من مكانٍ ما. بمعنى ما، الجميع يبحث عن شيء واحد: التغيير. وتقريباً الجميع يسلّم بخلاصتين. الخلاصة الأولى، التغيير، كما يتخيّله الدعاة إليه، هو الحل، أو مدخل ضروري للحل. والخلاصة الثانية ــ وهي الأكثر سذاجة ــ وتقول إن التغيير ليس ممكناً إلا بالانتخابات. وهكذا، تتجاوز القاعدة اللبنانية الكوجيتو الأول: أنا أنتخب إذاً أنا موجود، وتصير على هذا النحو: أنا أصدّق أن هناك انتخابات، إذاً أنا موجود. وإن كانت الفلسفة قد اكتشفت بعد سنوات الخدعة الديكارتية، بحيث إن ما يشغل الكوجيتو لم يكن تقدّم الوجود أو تأخره، بل كان الهدف نقل الإنسان إلى موقع المركز، لكي يسيطر على كل ما حوله، فإن اللبنانيين لم يصدقوا بعد، أنه ليس مطلوباً منهم أن ينتخبوا، أو أن يقاطعوا. كل هذا لن يحدث فارقاً. ما هو مطلوب منهم، هو أن يصدقوا، وأن يستمروا في تصديق الوهم الكبير. الانتخابات.مطلوب منهم العيش في عالم سياسي ما بعد واقعي. وهم يفعلون ذلك على أفضل نحو. وإذا أردنا أن نستعير من بودريار نظريته عن موت الواقع، وتحول الناس إلى مستهلكين، وهذا الكلام الذي يبدو مملاً لكثيرين، الذين يرفضون الاعتراف بأنهم ليسوا أحراراً إلا في حمّاماتهم، فإن النظرية لا تصلح سياسياً في أي مكانٍ في العالم، أكثر من لبنان. وما يعنيه بودريار، كما نعرف جميعاً، هو أن نكون ببعدٍ واحد، بالمعنى الماركوزي للكلمة. يعني، أن تختار بين مجموعة منتجات، وتبتهج بما تفترض أنه حرية الاختيار. ويمكن أن تكون هذه المنتجات عبارة عن سراويل وعن مرطبات وملابس داخلية وألعاب فيديو، ويمكن أن تكون منتجات لدورة اقتصادية أخرى. يمكن أن يكون العالم ما بعد واقعي، في الانتخابات، وأن تكون الانتخابات نفسها، من أصناف الاستهلاك، وأنت تختار مبتهجاً بين مجموعة سراويل وأدوات تنظيف ومرشحين. وهنا لا بد من إصلاح الكوجيتو الديكارتي مجدداً: ليس ضرورياً أن تفكّر لكي تكون موجوداً، لكي تكون موجوداً عليك أن تكون موجوداً وحسب. ليس ضرورياً أن تنتخب، أو أن تقاطع، بالنسبة إلى الانتخابات. يكفي أن تصدّقها لتكون ببعدٍ واحد. سجين داخل فكرة مضحكة اسمها الإرادة العامة التي تتحقق بالانتخابات. المفارقة اللطيفة، أن خصوم بودريار، كانوا يتهمونه بالعدمية، وأنه منفصل عن الواقع. وكانت نظريته تستمد قوتها من اتهامات الخصوم، إذ إنها تقوم على ضرورة العودة إلى الواقع، من مرحلة ما بعد الواقع. وتالياً، يجب على اللبنانيين، أن يتوقفوا عن تعليق اللافتات، وعن اختراع الشعارات (ولا علاقة لسماجتها بذلك). عليهم أن يعترفوا، على الأقل، بأنهم في مرحلة ما بعد واقعية، وأن ما يظنونه حقيقياً، ليس سوى قفص يستهلكون فيه قيمةً مخترعة: الإرادة. ويحدث بالإرادة عندما تُستهلك في السياسة، ما يحدث بعبوات البلاستيك عندما تُستهلك في الدورة الاقتصادية العادية، تكمل طريقها إلى سلة النفايات. في أحسن الأحوال يمكن أن نكون إيكولوجيين صالحين نموذجيين، ويعاد تصنيع إراداتنا.
ليس هذا مجرد إطار نظري. فالمرشحون، والمنتخبون، والذين يعلّقون الصور، والذين يقودون الحملات الانتخابية، والذين يكتبون عنها أيضاً، وينتقدونها، هم أنفسهم. من الدائرة نفسها، وفي الدائرة نفسها. وما يحدث، هو تبادل للوهم. تبادل على مستوى واسع، بين عدة مجالات متداخلة. وإن كان المجال السياسي قد اتسع وصار قادراً على استيعاب تمثيلات اجتماعية، فإنه لم يعد يحدث على نحوٍ مستقل، يتيح التمييز بين السياسي وبين الاجتماعي. أما تسمية العلوم السياسية في المناهج الغربية «إرادة عامة» يصل إليها الشعب عبر النظم الديموقراطية، وعبر الاعتراف بوجود رأي عام، فقد أصبح من الماضي بعد تجارب البنيويين، الذين شرحوا ماهية الدولة شرحاً وافراً.

الدولة المتخيّلة
الدولة، كما يتخيّلها الذين يرددون اسمها هنا، ليست سوى منتج متخيّل للحداثة. وهذا ليس ضرورياً لإعادة اكتشاف وهم الإصلاحيين اللبنانيين، الذين ينسبون إلى أنفسهم هذه الصفة المملة، ويتحدثون عن الدولة كما لو أنها سفينة استولى عليها القراصنة، أي بوضعها الحالي، بوصفها عبارة عن تجمع لأحزاب وقوى سياسية ــ طائفية وحسب، تعيد إنتاج نفسها هناك في تلك المغارة. الدولة في لبنان تتجاوز التعريف الغرامشي، وتتجاوز ميشال فوكو أيضاً. فاللبنانيون، يعتقدون أن الحل، هو بإعادة بناء الدولة. يمكنكم أن تسمعوا ذلك على شاشات التلفزيون التي لا تتوقف عن استضافة المهرّجين، أو عبر أثير محطات الراديو التي تمزج بين إعلانات المهرجانات الصيفية والمحللين الاستراتيجيين. الحل برأي اللبنايين هو إعادة بناء الدولة. يقولون هذا طوال الوقت. وهم لا يعرفون ــ بطبيعة الحال ــ أن ذلك يعني، بالضبط: إعادة بناء الهيمنة. ولا يعرفون، أن هذا يحدث على نحو متواتر، وأنه لا ينتظرهم. ولسيرة البناء، فمكان هذا البناء بات معروفاً: الخيال. الدولة موجودة في خيال كل لبناني. وهذا ما يجعل تفكيكها مستحيلاً، والتحرر منها تحرر من الذات.
على هذا الأساس، يصير الحديث عن دولة عميقة في لبنان غير ممكن أيضاً. ربما انسحب على حالتنا ما يسمّيه المؤرخ البريطاني، رونالد روبنسون، «العقلية الرسمية»، بدلاً من «الدولة العميقة». لا وجود لدولة عميقة في لبنان، كما هي الحال مع الجيش في تركيا، أو «إستابلشمنت» على الطريقة الأميركية. هناك «عقلية رسمية»، تقف خلف الصيغ التي اخترعها اللبنانيون لتسويغ خرافة «العيش المشترك»، التي هي صيغة أدبية ساذجة استعيض بها عن المصطلح الحقيقي: تنظيم القبائل. هناك وهم كبير اسمه الدولة، تندرج تحته عدة مسميات. بذريعة بناء دولة، ينكر السياسيون اللبنانيون وجود طبقات، تحت ذريعة أكثر خفة، مفادها أن جميع الأحزاب التقليدية، تحوي حزبيين ومناصرين من جميع الطبقات. وتحت هذا الوهم، أيضاً، يمكن الحديث عن أشياء من نوع «حقوق المسيحيين»، والمحاصصة الطائفية، و«اتفاق الطائف»، الذي لا يوافق معظم اللبنانيين على أنه وهم كبير هو الآخر. وهو وهم أكبر من نفسه، ومن حجم متخيليه أنفسهم، لأن مسبباته ونتائجه لا تختلفان، وما بعده كما قبله. فما أدى إلى الحرب في لبنان، ما زال يؤدي إليها بعد الاتفاق. الطائف كمرجع لدولة، لا يكفي لتشكيل أرضية عميقة تقيم عليها الدولة أذرعاً للهيمنة. إنه مجرد عقلية لأنه وهم. وهو رسمي لأنه مُتبنىً على نطاقات واسعة، حيث لا اعتراف بالجماعات في لبنان، إلا بانتظام أهلها إلا في طوائف. وهذا، تالياً، لا يسمح بتشكيل «دولة عميقة»، إنما يساعد على تفسير «العقلية» التي تحكم التجاذبات بين مواضع السُلطة، إن كان ذلك في الدولة وأدواتها بوصفها مركزاً للهيمنة، وإن كان في الديناميكيات الأخرى التي تعمل أي سُلطة عبرها. وهذا هو بالضبط، ما يجعل الإجابة مستحيلة على سؤال يطرحه اللبنانيون على أنفسهم دائماً: كيف نُحِدث تغييراً؟ وغالباً، تكون الإجابة باستعراض مجموعة أوهام تتبادلها الطوائف في ما بينها، ويكون الحل في النهاية: التغيير. ولا يمكن أن نُحدِث تغييراً إلا عندما نعرف المشكلة، أي عندما يصير الإمساك بالوهم ممكناً. وهذه ليست دعوى صريحة لليأس، إنما للتدقيق في النظريتين المتوافرتين بين يدينا، عن ماهية الدولة. النظرية الأولى تقول إن الدولة في لبنان معطلة: وهي نظرية من داخل النظام وليست من خارجه. أما النظرية الثانية، فمفادها أن الدولة هي، ما أصبح بعد الحرب، الفضاء الذي يمكنه احتواء تجاذبات الطوائف، بعد تكريس الطوائف. رُسخت القاعدة الآتية: كل رفض للطوائف، هو حكماً رفض للدولة. وتالياً، الحديث عن تفاوت طبقي، هو حديث مسموح، لكن النظام حدد وجهة هذا الاعتراض: الدولة. وهي وجهة خاطئة، لأن الدولة بمعناها اللبناني، المتخيّل والواقعي، إذا أردنا أن نستخدم تعبيراً ماركسياً، لا تلعب دوراً في تحديد أنماط الإنتاج، بقدر ما أنها تحرس النمط قائم. النظريتان عن الدولة خاطئتان، وإن كانت الثانية تنطلق من حُسن نية وجهد لتفسير النظام، بينما تنطلق الأولى من مرتكزات خبيثة، وتهدف إلى تشريع الهيمنة. الحقيقة، أو حماية الحقيقة، تفترض الذهاب إلى خلف الواقع، بدلاً من رثاء الدولة، وافتراض الصيغة الحالية، بمثابة هيكل، وأن ما كان أفضل.
الدولة هي الدولة، بينما وفي الصيغة المتداولة تقليدياً، والركيكة قطعاً، يُقال إن الدولة أصبحت عبارة عن هيكل. وهذا مصطلح مُضجِر لا يرغب في استعماله إلا بعض الجمعيات المدعومة من الغرب. ولا يعرف ضحايا هؤلاء الجمعيات، أن محاولة إقناعنا بوجود هيكل، ليست سوى محاولة خسيسة لبناء دولة على هذا الهيكل المفترض. دولة تناسب رؤية الغرب للدولة وللهيمنة، والنماذج كثيرة. لكن الدولة في لبنان، ليست سوى بناء متين، بل هي أقوى المباني. وفي طبقاتها تستقيم عدة مصالح، تجتمع فوق أساسات ينتفض الجميع لحراستها كي لا ينهار البناء الوهم، والمشيّد في فضاء أوسع وأتفه هو الطائفة. طبقة فوق طبقة يستقيم المبنى: المصرفيون وحديثو النعمة من الكسبة بالسمسرة على حساب المؤسسة، والمهاجرون الاستغلاليون الذين يطلق عليهم مديحاً مصطلح مغتربين (بالتأكيد لا يوجد مصطلح بهذه السماجة إلا في لبنان). طبقة فوق طبقة: زعماء الميليشيات الذين لا يوجد بينهم شخص واحد دمه خفيف، على عكس ما يروج الذين يعتقدون بإمكانية إصلاح الدولة، كما لو أن هذه الدولة التي يتخيّلونها قابلة للوجود. طبقات أخرى: المضاربون العقاريون الذين لا تهمهم جميع المقالات والدراسات التي تتذمر من غياب مخطط توجيهي، ومن نهاية بيروت كمدينة. والغريب أن أحداً لا يجرؤ على الاعتراف بالفكرة الأخيرة، كما لو أنه يرتكب ذنباً عظيماً.
* من أسرة «الأخبار»