هذه الليلة حدث لي شيء...أقرأ في تقرير صحافي عن اكتشاف مقبرة جماعية وأفتح عينيّ ذهولاً، فالتقرير يتحدث عني. إنها حادثة حاسمة في حياتي، جرت بعد سحق انتفاضة آذار 1991، التي شاركتُ فيها في مدينتين حتى سقوطهما بيد الحرس الجمهوري فانسحبتُ إلى بغداد. وفي بغداد انقطعت عني أخبار المدن المنتفضة، فانقطعت بذلك أخبار أهلي في كربلاء. وقتها صرت أتوجه بين يوم وآخر إلى «كراج العلاوي» للنقل العام، وهو محطة السيارات المتوجهة إلى المحافظات الوسطى، لأسأل السواق والناس عما إذا كان طريق كربلاء قد أعيد فتحه. بعد أيام من الصمت المريب انتشرت في «كراج العلاوي» أخبار بانتهاء العصيان المسلح في كربلاء وإعادة فتح الطريق إليها. وتأكيداً لهذه الأخبار أخذ بضعة سائقين في الكراج بالنداء لملء حافلاتهم التي ستسير إلى كربلاء، فاستقللت إحداها مع حوالي 40 راكباً آخر، معظمهم يرتدون – مثلي - البزة العسكرية. لكن على أطراف مدينة كربلاء أوقفت حافلتَنا نقطةُ تفتيش عسكرية. في البدء فصلوا المدنيين عن العسكريين. ثم أصعدونا في شاحنات عسكرية «لإرسالنا إلى وحداتنا» كما زعموا، لكنهم أرسلوا معنا جندياً مسلحاً! كان هذا أول جرس إنذار دق في رأسي. جلسنا على أرضية الشاحنة ووقف الجندي المسلح في مواجهتنا. أثار انتباهي أنه لم يتبادل معنا كلمة واحدة، وأنه يتجنب النظر إلينا، وكان متوتراً لكنه – كما لاحظت - يحاول إخفاء ذلك. أقلقني الوضع. هل يخفي هذا الجندي عنا أمراً؟ ثم إن تكليفه بإيصالنا إلى مكان معين بدلاً من ذهابنا إلى المكان بأنفسنا يعني – ببساطة - أننا لم نعد أحراراً.
أوصلونا إلى منطقة خارج المدينة، عند أطراف الصحراء على الطريق إلى بحيرة الرزازة. وهناك أجلسونا في العراء في دائرة كبيرة فقد كان عددنا يقارب المائتين. لكن الوضع هناك كان مختلفاً. كان الجنود وجنود الصف الذين استلمونا متجهمين، متوترين، قلقين وخائفين، فيما كان أسلوبهم معنا قمعياً. الأمر الجديد هو أنهم جميعاً يتكلمون لهجة مناطق شمال بغداد. هذه – إذن – قوات الحرس الجمهوري وبالذات وحداته الأقرب إلى صدام، والتي ينتمي إليها كثير من أبناء تلك المناطق. صار الجو يشي بأمور مخيفة وإن كنا حتى تلك اللحظة غير قادرين على تخمينها. أكدوا لنا أنهم قاموا بتجميعنا لكي يعيدونا إلى دائرة الإنضباط العسكري في بغداد التي ستوزعنا على وحداتنا. طلب عدد منا الكلام وقالوا أن وحداتهم هنا في كربلاء وأنهم كانوا في الطريق إليها، وطلبوا السماح لهم بالمغادرة للالتحاق بوحداتهم، فرد الحرس بأننا جميعاً ستتم إعادتنا – في نهاية المطاف – إلى وحداتنا! بل إن أحدنا قام وأشار إلى خيم عسكرية على بعد عدة مئات من الأمتار قائلاً أنها وحدته العسكرية وطلب أن يصحبه أحد الحرس إليها ويتأكد بنفسه، وليعدمْه إن تبين أنه كاذب! لكنه لم يحصل على جواب آخر غير التطمين المكرر بأنه سيعاد - على أية حال - إلى وحدته. «كلكم ستعودون إلى وحداتكم» – ظلوا يكررون علينا. ثم بدأت حافلات مدنية بالتجمع قربنا.
انطلقت الحافلات بنا مغادرة كربلاء متخذة طريق بغداد. كان الجنود الراكبون معي في مزاج طيب في البداية لكونهم تخلصوا للتو من الجو القمعي «وسيعودون إلى وحداتهم»، وراحوا يتبادلون الأحاديث. أما أنا فكنت متوجساً. ثم تحول التوجس إلى شعور بالخطر عندما انتبهت إلى أن جندي الحراسة المكلف بايصالنا، والجالس قرب السائق، كان يقول لنقاط التفتيش العديدة على الطريق: «سجناء!»، يعنينا، لكي يسمحوا للحافلة بالمرور من دون تأخير. إذن فنحن لسنا في طريقنا إلى وحداتنا وإنما إلى السجن. إنها خديعة. لقد حولونا إلى سجناء من دون أن نرتكب ذنباً ومن دون أن يوجهوا لنا تهمة، ومن دون أن يصارحونا بأننا سجناء.
صار الجو يشي بأمور مخيفة، وإن كنا غير قادرين على تخمينها


أدركت أن إحساسي وحدي بالخطر لن ينفعني، وأنني بحاجة إلى دعم من زملائي في الحافلة، فتكلمت بصوت عال ونبهت الباقين إلى ما يقوله جندي الحراسة لنقاط التفتيش، وأكدت لهم أننا على الأرجح مقادين إلى السجن وقد نكون متهمين بشيء ما. ونجحت بالفعل في نقل مخاوفي إليهم. تعالت أصواتنا احتجاجاً على الحارس لتوصيفه لنا بالسجناء، وطالبناه بتوضيح. تلعثم في جوابه ولم يقنعنا فتزايد احتجاجنا، وطالبناه بالتوقف عند أقرب نقطة تفتيش لكي نشرح لضابطها الإشكال الحاصل هنا، أو الخدعة التي تعرضنا لها بتحويلنا من جنود منقولين لوحداتهم إلى سجناء، ولكي نطلب من ضابط النقطة العون (إلى هذا الحد كنا سذجاً) ليسمح لنا بالالتحاق بوحداتنا أحراراً. كنا حوالي أربعين جندياً غاضباً فشعر جندي الحراسة بالخطر، وبدّل نبرته بشكل فوري متظاهراً بالمَسْكنة قائلاً أنه إنما ينفذ الأوامر فحسب، ووعدنا بالتوقف عند أقرب نقطة تفتيش لنتفاهم مع ضابطها. عندها عاد جرس الإنذار يدق في رأسي. أسلوب المسكنة هذا أعرفه، فهو يعني تخطيطاً لانتقام قريب. أحسست بأن جندي الحراسة يهيء لنا انتقاماً قاسياً عند أول نقطة تفتيش. صرت مستنفَراً، أفتش عن أية إمكانية للخلاص. ومما اعتبرته إشارة، إن من بين الحافلات الكثيرة التي كان بعضها ذا نوافذ قابلة للفتح وبعضها الآخر ذا نوافذ مُصْمَتة غير قابلة للفتح، كان حظي أن تكون حافلتنا من النوع الأول. وجاءت إمكانية الهروب بطريقة بدت معكوسة وخيالية، فقد انتهزت بالضبط الدقيقة التي وصل فيها التوتر بيننا وجندي الحراسة ذروته، وبالضبط في المكان الأخطر: نقطة تفتيش للاستخبارات العسكرية. هرع الحارس نازلاً من الحافلة وتوجه مسرعاً وهلعاً إلى ضابط النقطة الجالس على كرسي على بعد حوالي ثلاثين متراً من الشارع. لكن ما فهمناه من حركات يدي جندي الحراسة وملامح وجهه أنه لم يتوجه إلى الضابط لينقل إليه مطلبنا كما زعم لنا وإنما ليطلب منه النجدة علينا. في ذلك المشهد الذي جمع جندي الحراسة الغادر وهو يتكلم بتحريض ويلوح بيديه، والضابط المتجهم الذي يهز رأسه متوعداً، أدركت أن لحظة الانتقام منا أصبحت قريبة جداً، وأنه سيكون انتقاماً جنونياً يفوق توقعاتنا. هذه المرة انطلق جرس الإنذار في رأسي مدوّياً وظل دويه يرجّني بلا انقطاع ويأمرني بالهرب... تأكد الجميع أن جندي الحراسة قد حرض ضابط النقطة علينا فتعالت أصواتنا مطالبين السائق بفتح الباب لكي نذهب جميعاً إلى الضابط، لكن السائق وقف عند الباب معلناً أنه لن يسمح لأحد بالنزول. عندها تقدم شاب منا قوي الجسد وأزاح السائق من أمام باب السيارة وفتحه بالقوة ونزل، وتوجه من فوره إلى الضابط. هتفنا له جميعاً داعمين. لكن الدقائق التالية حملت لنا الخيبة، فقد شاهدنا صاحبنا الذي نزل للتو يتعرض للضرب والركل من جنود النقطة، والضابط يشتم صائحاً (من دون أن يتحرك من كرسيه) ويتوعد. عمت الفوضى في الحافلة واختلطت الأصوات. في تلك اللحظة بالضبط قطعتُ آخر خيط بيني وبين عقلي! كان الجميع قياماً، مما سدَّ مجال النظر داخل الحافلة، فلم يعد السائق (الذي واظب طيلة الوقت على مراقبتنا وتهديدنا) يراني. فتحتُ النافذة، نظرت حولي، ثم قفزت إلى الخارج قفزة صامتة. وفور وقوفي على الإسفلت تظاهرت بالسكينة، ومشيت بهدوء. لم أعبر الشارع لأن الجانب الآخر كان خالياً مما سيجعلني مكشوفاً. استدرت من وراء السيارة ومشيت من جانبها، من جهة نقطة التفتيش، بهدوء وكأنني واحد من جنود النقطة، فيما كان الجو حولي ملتهباً. حافظت على وتيرة بطيئة واحدة للمشي، فأي تغير فيها وأي توقف قد يلفت الانتباه إلي. لكن هذا قادني إلى موقف جنوني عندما صرت أقترب من باب الحافلة، فعند الباب كان جنود النقطة يمسكون بتلابيب صاحبنا ويأمرونه بالعودة إلى الحافلة فيما كان هو يكرر بفم مدمّى: «أريد فقط أن أتكلم مع الضابط! فقط دقيقة واحدة!» فيعاودون ضربه ودفعه نحو الباب. واصلت المشي بالوتيرة نفسها؛ مررت بهم من دون أن أنظر في وجه أحد؛ تجاوزتهم وتجاوزت الحافلة... جعلت النقطة ورائي ووجهي إلى الطريق. مشيت عند طرف الطريق مستطلعاً الإمكانات، وهناك رأيت ملاكي المنقذ: جرار زراعي متوقف وصاحبه الريفي ينتظر أن يفتَّش أو يُسمَح له بالمرور. عندما رآني أقترب منه سألني عما يجري، فأجبته أن لديهم مشكلة ولن يفرغ له أحد الآن وأن بإمكانه المغادرة، وأضفت سائلاً إن كان لا يمانع بركوبي معه حيث إنني ذاهب في الاتجاه نفسه! صحيح إنني كنت أتكلم بصوت خفيض، ومتصنعاً البرود، ولكن داخلياً كنت متوتراً جداً، جداً، لأني - وقد فهمت، الآن فقط، حقيقة الوضع الدموي في كربلاء - كنت مدركاً تماماً بأن أصغر صدفة بإمكانها أن تتسبب في أن أُعدَم هنا فوراً... في الواقع، وهو ما لن أنساه ما حييت، كنت في تلك اللحظات - وأنا أصطنع ذلك البرود - أشم رائحة الدم... كان الموقف على بعد أمتار قليلة خلفي يتصاعد ويزداد خطورة، فبعد قفزتي من الحافلة كرر البعض فعلتي ولكن في شكل صارخ، ومن ثم عبروا إلى الجانب الآخر من الطريق راكضين فلفتوا إليهم أنظار جنود النقطة. شاهدت ثلاثة شبان يركضون بعيداً في الأرض الزراعية على الجانب الآخر من الطريق، وسمعت جنود النقطة يصيحون بهم: «قف! ارجعْ!» وانطلق الرصاص في إثرهم. توقف أحدهم واستدار إلى ناحيتنا. وأثناء رجوعه، بخطوات منهارة، رأيت الرعب يملأ وجهه... فيما واصل الآخران الركض بأقصى سرعة. لم يتوقفا على رغم الرصاص الذي كان يطاردهما، حتى اختفيا عن الأنظار وراء المزروعات والقرية القريبة... وعلى الفور انتشرت في المكان أصوات تجهيز البنادق. كان علي أن أسرع وإلا فقدت فرصة النجاة الأخيرة. ففيما عدا حافلتنا، كان الجرار هو العربة الوحيدة في المكان، أي إنه آخر فرصة لي للنجاة على الاطلاق!
ببطء المنتحر واسترخائه، صعدت الجرار وأخذت مكاني إلى جوار سائقه، وحثثت الأخير، بنبرة باردة وغير مكترثة، على أن يتحرك مغادراً. «ليس هناك جندي متفرغ لكي يأتي ويفتشك. إنهم مشغولون بمشكلة» – قلت له، وأضفت أنه إذا لم يغادر فربما سينتظر أكثر من ساعة قبل أن ينتهوا من مشكلتهم ويأتيه أحد الجنود.
نظر إلي الرجل متفحصاً وجهي، الذي كان محافظاً على بروده وعدم اكتراثه وسط لعلعة الرصاص من حولنا وصوت الضرب والصياح الذي يملأ الآذان.. أعطيت الرجل ابتسامة مطَمْئنة، وحثثته على أن يضغط على دواسة الوقود، ففعل، وتحرك بنا الجرار مبتعداً.
إن أنسَ كل الطعوم لن أنسى ما حييت طعم ماء جدول صغير بين كربلاء والمسَيَّب، ماء العودة إلى الحياة... كان سائق الجرار قد توقف قريباً من مدينة المسيب معلناً أنه وصل قريته التي كانت على الجانب الآخر من الطريق، فنزلت وعبر هو بجراره إلى القرية. وقفت هناك. هدّأت نفسي محاولاً أن أصدق أنني نجوت، لكن ذهني كان مشوشاً... وفجأة انتبهت إلى وجوده على بعد خطوات مني: جدول صغير يقارب عرضه المتر ونصف المتر، آت – من تحت الطريق – من القرية. سحرتني درجة نقاء مائه الساكن المسالم. لم أر في حياتي ماء نهر بهذا الصفاء، كنت أرى كل تفاصيل قاع الجدول وكل أعشابه. شعرت بالجدول يناديني، فلبّيت: انحنيت فوقه ووضعت يدَيّ على كلتي ضفتيه مصمماً على أن لا أمس الماء بيدي فأفسد صفاءه، وأحنيت رأسي على الماء، شُرباً وتعبّداً... ما أن أخذت بالشرب حتى أدركت أنني، حقاً، عدت إلى الحياة. رحت أشرب وأزيد. أشرب وأوكّد إيماني بحقيقة نجاتي من الموت. كان أطيب شراب ذقته في حياتي.

كان عليّ أن أسرع وإلا فقدت فرصة النجاة الأخيرة


... بعد فترة طويلة من ذلك الكابوس، علمنا «بالتحقيقات الجماعية» التي أودت بحياة الآلاف نتيجة التعذيب (لم تكن لدينا فكرة تقديرية عن عدد هؤلاء)؛ لكن مع ذلك كنا نتصور أن هؤلاء الآلاف قد أعدموا لأنهم كانوا موجودين في المدن الثائرة ساعة اقتحمها الجيش، أما حالتنا فعجيبة: لقد جرى استدراجنا من بغداد. كل ما ظننته طوال السنوات التالية لتلك المحنة هو أن الشبان الذين تركتهم في الحافلة قد سيقوا إلى «الحجز» سيء الصيت في بغداد وربما مات منهم من مات تحت التحقيق المرعب أو ضحية الأمراض المختلفة التي يعج بها «الحجز»، وربما نجى الباقون. لكن هذه الليلة حدث لي شيء...
تقرير صحافي عن العثور على إحدى المقابر الجماعية التي صارت تكتشف في العراق. في التقرير يصف أحد سكان قرية قريبة من المقبرة المكتشفة كيف كان يؤتى بالناس، مدنيين وعسكريين، في حافلات مدنية (كالتي أخذونا بها آنذاك)، يقيدون وتعصب أعينهم ثم يُصَفّون إلى بعضهم البعض ويعدمون رمياً بالرصاص ثم يلقى بهم في المقبرة الجماعية. لكن عندما حدد التقرير موقع المقبرة جمد الدم في عروقي. إنه نفس المكان الذي قفزت فيه من الحافلة.
تذكرت تفاصيل من غموض الموقف آنذاك، والعداء الشرس في عيون الجند. واستعدت ما رواه الكثيرون عن انتظارهم الطويل لمفقوديهم وظنهم بأنهم ربما كانوا مسجونين في مكان ما ثم عثروا عليهم هياكل عظمية في مقبرة جماعية. أحد أقاربي واحد من هؤلاء. كان، بعد قمع الانتفاضة في منطقته، قد غادر بيته بملابسه العسكرية ليلتحق بوحدته، واختفى منذ ذاك. الآن أعرف أنه لقي حتفه بهذه الطريقة نفسها. أقنعوه، لكي يضمنوا انقياده، بأنهم سيأخذونه إلى وحدته فأخذوه إلى الموت. يبدو أن كل وحدات الحرس الجمهوري المكلفة بالانتقام من أهالي المدن المنتفضة كانت تستخدم حيلة واحدة متفقاً عليها.
أتمعن في التقرير وأحاول أن أتخيل ما حدث. وقتها لم نصدقهم عندما زعموا بأنهم سيعيدوننا فوراً إلى وحداتنا. صحيح أننا وضعنا في حسابنا أن من يحاول الفرار من الحافلة ربما ينفذ فيه إعدام فوري ولكن لم يخطر ببالنا أنهم سيعدمون الجميع. كنا – في الواقع – نتوقع أنهم سيرسلوننا إلى «الحجز»، الذي هو – على أية حال – أسوأ من الموت. لكن هذا التقرير يقول إنهم لم يفعلوا. لقد قتلوهم... قتلوا كل من في تلك الحافلة، وقتلوا ركاب جميع الحافلات التي رأيتها تتجمع في ذلك الموقع الصحراوي. كان الأمر مخططاً إذن وليس بسبب احتجاجنا أو هروب بعضنا من الحافلة. أصابتني رعدة وأنا أدرك أن نية إعدامنا كانت مبيتة من قبلهم من البداية، وأنهم كانوا يعلمون تماماً – وهم يطمئنوننا بأنهم سوف يسلموننا إلى وحداتنا- بأنهم إنما يتكلمون مع أموات، ويعلمون بأننا كنا وقتها نعيش آخر ساعة في حياتنا. بل حتى سائق الحافلة الذي أقلنا من بغداد كان يعلم بهذا وهو ينفذ الخطة الخسيسة، حيث بلغ الحقد على أبناء المدن المنتفضة حد أن يجري اصطيادهم عشوائياً من «كراج العلاوي» برحلات وهمية إلى مدنهم لكي يلقى القبض عليهم فيها بجريرة عائديتهم إلى هذه المدن المغضوب عليها، ثم يعدمون.
كان يفترض أن أكون معهم. كان يفترض أن أكون ميتاً، وكانت أمي ستموت كمداً، تحس بأمري من دون أن تُخبَر به... أية رسالة تملكتني حينها وأمرتني بالقفز من الحافلة؟ ولماذا؟ أنا لست بأفضل من أي ممن كانوا معي. لقد أراد الغرباء لي أن أموت، لكني أفلتّ؛ وها أنا أعيش بينما هم، من أرادوا طمري في مقبرة جماعية، انطمروا في مقبرة التاريخ... أنا انتصرت أخيراً. لكن كيف لي أن أستوعب هذا؟ إنني ميت، ولكنني حي بالصدفة. ما كان سيحدث لو أنني لم أنجُ؟ ما الفرق؟... الآن أدرك أنني نجوت من موت رخيص، لكن يجب أن يكون ثمة فرق أساسي وكبير بين الحي والميت، أليس كذلك؟ يجب أن أتذكر انني مُنِحْتُ حياتين، مما يعني أنني ليس من حقي أن أندم مرتين. يتمنى الناس في هرمهم أو دنو موتهم لو أنهم «عادوا إلى الحياة من جديد» إذن لفعلوا كذا ولما فعلوا كذا؛ أما أنا فليس لي أن أتمنى ذلك فأنا «عدت إلى الحياة من جديد» بالفعل؛ ليس من حقي أن أكرر نفس ما ندمت عليه في حياتي الأولى. لقد مُنِحْتُ ما لم يُمنَح إنسان، وما يتمناه كل إنسان. لقد اختارني زملاء الحافلة لأن أعيش بعدهم؛ علي أن لا أخيب أملهم فيّ. لم أعش بعدهم لأني أفضل منهم وإنما لأنهم واثقون من أنني قادر، في نهاية المطاف، على أن أجمع فيَّ كلَّ خيرٍ في كل واحدٍ منهم، لكي يواصلوا العيش... فيَّ!
هذه الليلة حدث لي شيء، أريده أن يحضر عندي كل يوم.
* كاتب عراقي