ليست هذه قصة رومانسيّة ثوريّة ولا أبطالها خياليّين. هذه ليست حكاية من محفوظات الحرب الباردة تلبّست بلباس الدعاية الأميركيّة السياسيّة الصفيقة التي حرمتنا من بريق عصر كانت فيه الشيوعيّة تمثّل أحلام الثوريّين المخلصين حول العالم. هؤلاء الذين تنبّهوا مبكراً لخطر النازيّة والفاشيّة. هذه قصّة عن «متطوّعين من كل أنحاء العالم تقاطروا زرافاتٍ للقتال من أجل الجمهوريّة. بعضهم كان عاطلاً من العمل وبعضهم الآخر كان مغامراً، لكن معظمهم كان لديهم فكرة واضحة عن سبب مجيئهم للقتال: أتوا لقتال الفاشيّة» (بول برستن، «الحرب الأهليّة الإسبانيّة»، ص. ١٧١).
ليست الحركة الشيوعيّة كلّها صنفاً من أصناف الستالينيّة، ولم تكن الحركات الشيوعيّة حول العالم كلّها مثل بعض الأحزاب الشيوعيّة العربيّة التي كان يديرها في بعض الأحيان موظّف في أقرب سفارة سوفياتيّة. الحرب الأهليّة الإسبانيّة كانت غير ما هي عليه الحرب السوريّة اليوم: لم يكن هناك ضبابيّة في المواقف وصعوبة في تشكيل موقف يساري شيوعي ممّا يجري. ليس هناك في الحرب السوريّة اليوم من طرف يستحق إضفاء طابع رومنسي ثوري عليه، وليس النظام الفاسد والقامع معقد أحلام اليسار. قد تكون حرب السنتين (فقط) بين 1975-1976 هي الاستثناء. كانت الخطوط الأخلاقيّة الثوريّة فارقة فيها: فريق طائفي يميني رجعي يحافظ على نظام متهالك ومتحالف مع العدوّ الإسرائيلي ودوائره، وفريق آخر يمثّل تلاحم الثورة اللبنانيّة الفتيّة مع الثورة الفلسطينيّة. هذه قصّة الحرب الإسبانيّة التي كان مصيرها يُحدّد في ذاته مصير أوروبا، والعالم — من دون مبالغة.
قتلت أميركا في أفغانستان أكثر بكثير مما قتل الاتحاد السوفياتي هناك

كيف اتفق أن بريقاً ثوريّاً جذب إليه الآلاف من كل انحاء العالم (ألمان وبولنديّون وبلقان وإيطاليّون وأميركيّون وبريطانيّون وكنديّون وإسكندنافيّون وهولنديّون وأسوج وسويسريّون وأستراليّون — وآخرون من 53 دولة حول العالم) لقتال الوحشيّة الفاشيّة التي لم تخفِ مراميها عن العالم أجمع. هذه قصّة «الألوية الأممية». كيف اتفق أن ثوّاراً حالمين — شيوعيوّن وفوضويّون وفرديّون عنيدون، مثل جورج أرويل — يتقاطرون لتلبية نداء واجب أممي (بولغ في عدد هؤلاء إما بسبب التبجّح السوفياتي أو بسبب الفاشيّين الإسبان الذين أرادوا نسب بطولات أعدائهم إلى جيش عرمرمي «خارجي»، لكن إم. جاكسون في مقالته «جيش الغرباء: ألوية الأممية في الحرب الأهليّة الإسبانيّة» في «المجلّة الأستراليّة للسياسة والتاريخ»، نيسان ١٩٨٦، يقدّره بنحو ٣٥٠٠٠، ليس أكثر، بينما تقدّره مصادر أخرى بأقل من ٣٠٠٠٠).
حتى الولايات المتحدة الأميركيّة التي قلّما نتطرّق في الحديث عنها إلى الثوريّة، شكّلت عندها حالة ثوريّة مميّزة. تشكّل «لواء لنكولن» من ثلاثة آلاف مقاتل من مختلف الولايات للقتال في الحرب الإسبانية. كان هؤلاء زبدة الشيوعيّين الأميركيّين، ولم يكونوا فتياناً. كانوا معدّل أعمارهم في العقد الرابع. أندريه مالرو قال عن أعمار المتطوّعين الإيطاليّين بأن «ستين في المئة منهم كانوا أكبر من سن الـ٤٥».
مقاتلون في منتصف أعمارهم، تركوا أعمالهم وأرزاقهم وعائلاتهم كي يقاتلوا ويموتوا ويُعذّبوا في أرض بعيدة جدّاً عن أوطانهم. الفاشي النزعة، الأميركي جي. إدغار هوفر، الذي أسّس مكتب التحقيقات الفيدرالي، لم يكن ليصدّق ان هناك مَن يلبّي دعاء الأمميّة الشيوعيّة صدقاً وطوعاً. قال إن هؤلاء كانوا مخدوعين من قبل الشيوعيّة العالميّة. لم يكونوا مخدوعين (والكتب الأميركيّة الأخيرة عنهم استقت في بعضها استنتاجاتها من محاضر لجان التحقيق في الشيوعيّة في الكونغرس). مات أفراد «لواء كلينتون» الواحد تلو الآخر عبر السنوات، ومات آخرهم في مدينة قريبة منّي قبل ايّام فقط عن عمر مئة سنة. لم يكن هؤلاء من طينة الشيوعيّين السابقين الذين (في أميركا وفي غيرها) قضوا أعمارهم في التنصّل من ماضيهم أو في الإخبار عن رفاق سابقين لهم. (كتب في رثائه السيناتور اليميني، جون ماكين لكنه لم يكتب عن التنكيل الذي تعرّض له مناضلو اللواء بعد عودتهم من إسبانيا).
وليس صحيحاً أن هؤلاء تجمّعوا تلبية لأوامر «الكومنترن». الكومنترن ركب موجة تشكّلت عفوياً. طبعاً، مثل كل قصّة جميلة، كانت هناك جوانب حزينة ويائسة للقصّة. استخدِم المقاتلون الأمميّون في الصفوف الأماميّة ونسبة كبيرة منهم ماتوا. هؤلاء الذين أتوا من دون خبرة او تدريب عسكري. بعضهم نجا من الموت لكنه احتضر في مخيّمات الاعتقال النازيّة أو الفاشيّة، والبعض الآخر لاقى حتفه في سجون ستالين. والقائد الشيوعي الفرنسي، أندر مارتي شغل نفسه في اصطياد التروتسكيّين والمترددين بين المتطوّعين: زها بإعدام ٥٠٠ لكن هذا الرقم مشكوك بصحته. لكن هؤلاء لاقوا الويلات. الفاشيون الإسبان ارتكبوا ما أسماه بول برستنب «الهولوكست الإسبانيّة» (في كتاب بالعنوان نفسه). روى قصّة الـ٢٠٠٠٠٠ من الرجال والنساء الذين واللواتي تمّ إعدامهم في سنوات الحرب. وهناك ٢٠٠٠٠ من أنصار الجمهوريّة الذين أعدموا بعد انتهاء الحرب. وهناك عشرات الآلاف من الذين ماتوا أو قُتلوا في معسكرات الاعتقال الفاشيّة والنازيّة.
القتال الأممي بات حكراً على الإسلاميّين الجهاديّين. يأتون من كل أنحاء العالم للقتال في قضيّة بعضها أرضي وبعضها سماوي، وبعضها في منزلة بين السقفيْن. لكن ليس هؤلاء من الأوائل في قضيّة التطوّع القتالي العربي. هناك سوابق لمتطوّعين قوميّين عرب في عالمنا العربي. حرب ١٩٤٨ كانت واحدة: روى هشام شرابي كيف ان المئات من طلاّب الجامعة الأميركيّة في بيروت كتبوا أسماءهم للتطوّع في القتال لحرب فلسطين لكن في اليوم التالي لم يحضر إلا «عدد ضئيل يُعدّ على أصابع اليد» («الجمر والرماد»، ص. ١٣). كتب الإخوان المسلمون لغواً عن جهادهم في حرب فلسطين، لكن كان لغوهم لا يختلف في المحصّلة عن رسالة محمد مرسي إلى صديقه شمعون بيريز. لو ان العرب والمسلمين تطوّعواً في حرب فلسطين (مبكّراً) لكانت نتيجة القتال مختلفة، كما تطوّع ويتطوّع يهود من كل انحاء العالم للدفاع عن الكيان الصهيوني الغاصب. كان يُفترض ان يكون «جيش الإنقاذ» هو جيش المتطوّعين العرب، لكن كان أداؤه رديئاً جدّاً وانتظرت الجامعة العربيّة حتى ١٩٤٧ كي تشكّله. وكان الغرض من إنشائه من قبل شكري القوتلي هو عزل الجيش السوري عن القتال، كما ان الحاكم الأردني رفض دعم الجيش لأنه خاف ان تنتقل بنادق الجيش ضد عرشه في حال الانتصار على العدوّ الإسرائيلي (الذي كان يمدّه بالمال).
لكن الثورة الفلسطينيّة في لبنان شكّلت حالة من القتال الأممي. لم يكن الأمر كما صوّره إعلام العدوّ الإسرائيلي والكتائبي (وكانا صنوين) عن «مرتزقة». المرتزقة الوحيدون في الحرب الأهليّة اللبنانيّة كانوا في صف الفريق الانعزالي اليميني (أتوا إليه من جنوب أفريقيا ومن فرق الموت في ميليشات موالية للإمبريالة الأميركيّة حول العالم)، كما ان صفة الارتزاق تنطبق على قادة التنظيمات في الحركة الوطنيّة الذين سخّروا قدرات أحزابهم القتاليّة للمشاركة في حرب الطاغية القذّافي في تشاد في الثمانينيات. الثورة الفلسطينيّة كانت تستقطب مقاتلين ومقاتلات من كل العالم، وكانت مكاتب الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين تعجّ بالثوّار الحالمين من كل انحاء العالم. لكن قيادة ياسر عرفات وإجهاض مشروع الثورة المسلّحة في لبنان «طفّش» كل هؤلاء، أو معظمهم بعد ١٩٧٦. بقي القليل منهم.
لكن التدخّل العسكري السوفياتي في أفغانستان كان يجب ان يجذب اهتمام الشيوعيّين العرب ويشحذ هممهم. لم يكن يعني فقط هؤلاء الأعضاء في تنظيمات ماركسيّة - لينينيّة جامدة تتلقّى الأوامر (على النسق البكداشي - الشاوي - الحاوي) من موسكو. كان يمكن أن يكون الردّ على الهجمة الإمبرياليّة الرجعيّة في أفغانستان فرصة يساريّة امميّة نادرة، كما الحرب الإسبانيّة، للنهوض بمشروع اليسار ولمحاربة أعتى قوى الرجعيّة الدينيّة الجهاديّة التي لم تتوقّف مذّاك على دفع العالم العربي والإسلامي إلى قرون خلت. هذه فرصة فاتت، ولن تعود. كان يمكن لها أن تضرب أعداء اليسار العالميّين وان تُنعش الحركة اليساريّة الأمميّة حول العالم.
لا، بدلاً من المؤازرة الأمميّة سجّل شيوعيّون واشتراكيّون وناصريّون سابقة مشينة في تأجير مقاتلين لصالح الطاغية القذّافي. كان ذلك بين سنوات ١٩٨٦ و١٩٨٩ وعندما وصلت الدفعة الأولى من المقاتلين اللبنانيّين الفلسطينيّين إلى ليبيا للمشاركة في الحرب ضد الجيش التشادي لحسين هبري (المدعوم من الاستعمار الفرنسي). نحو عشرة آلاف مقاتل لبناني وفلسطيني شاركوا في تلك الحرب الارتزاقيّة (لصالح قادة الأحزاب والمنظمّات، الذين قبضوا عن كل مقاتل مُشارك). وروى الزميل عفيف دياب في «الأخبار» كيف أن قادة الأحزاب لم تكن تدفع للمقاتلين ما كان يدفعه القذّافي عن كل مقاتل. وكان أوّل المستعجلين لإرسال الدفعة الأولى وليد جنبلاط، الذي أوفد مقاتلين من «جيش التحرير الشعبي - قّوات الشهيد كمال جنبلاط»، وتبعه آخرون من الحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث السوري والحزب السوري القومي الاجتماعي والاتحاد الاشتراكي العربي وحزب العمل الاشتراكي العربي- لبنان والجبهة الشعبيّة - القيادة العامّة وفتح-الانتفاضة والجبهة الديمقراطيّة والصاعقة. لكن الفارق كبير بين حروب أمميّة وحروب ارتزاق من قبل قادة تلك الأحزاب. (لا يتحمّل المقاتلون تلك المسؤوليّة فهؤلاء كانوا من فئة «المقاتلين المتفرّغين» الذين كانت القيادات تنقلهم من مكان إلى مكان مثل بيادق الشطرنج).
طبعاً، إن سرديّة التدخّل العسكري السوفياتي في أفغانستان تحوطها دعاية أميركيّة صفيقة. لم يكن التدخّل السوفياتي بدافع السيطرة على موارد اقتصاديّة أو لصالح شركات متعدّدة الجنسيّة. كان الدافع يومها الحفاظ على نظام شيوعي حليف، وفي ذلك طبعاً مصلحة استراتيجيّة للدولة السوفياتيّة. لكن هذا التدخّل كان ضد قوى موغلة في الرجعيّة الدينيّة وكانت تودّ ان تقاوم كل الإصلاحات والتقدّم الاجتماعي الذي طرأ على البلاد عبر السنوات والعقود. والتدخّل العسكري السوفياتي في أفغانستان كان أبعد من دعم الشيوعيّين في أفغانستان. كانت المسألة —كما اتضح اليوم— مسألة حياة الاتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي العالمي برمّته. كانت الدعاية السوفياتيّة آنذاك عن مؤامرة إمبرياليّة موجّهة ضد الاتحاد السوفياتي مُقلّة في تقديرها لحجم تلك المؤامرة. كانت الخطة الأميركيّة منذ عهد «المُسالِم» (بعُرْفِه هو) جيمي كارتر هو إغراق الجيش السوفياتي في المستنقع الأفغاني (وهذا ما كان أوباما يتمنّاه لروسيا في سوريا لكن الانسحاب الروسي الجزئي خيّب آماله).
أُنشئ «لواء لنكولن» من مختلف الولايات الأميركية للقتال في الحرب الإسبانية

كان التحالف العالمي (الغربي - الخليجي – العربي الرسمي - الإسلامي الرجعي) أقوى تحالف عالمي منذ الحرب العالميّة الثانية، وكان يهدف إلى تقوض دعائم الشيوعيّة واليسار والتقدميّة حول العالم. لم يكن الاتحاد السوفياتي وحده المُستهدف، بل كانت النظريّة والممارسة الحزبيّة الشيوعيّة واليسارية عامّة مُستهدفة. وكان المجاهدون الأفغان وأعوانهم من المُتزمّتين الجهاديّين العرب الإرهابيّين (يستحق هؤلاء صفة الإرهابيّين من دون مناقشة او تنظير) هم أدوات التحالف العالمي وكان برنامجهم معاد لكل الفكر التحرّري وللمرأة في أفغانستان. لكن الشيوعيّين العرب (وحول العالم) تجاهلوا الإنذارات والمؤشرات وتركوا الجيش الأحمر يغرق وحده في أفغانستان فيما كان شيوعيّون لبنانيّون وفلسطينيّون يُطوَعون من قبل قادتهم في حرب مدمّرة في شريط أوزو بين ليبيا وتشاد. أهمل الشيوعيّون العرب أهميّة المعركة الدائرة في أفغانستان، لا بل ان هناك من وقف محايداً فيها، أو مُعادياً لها بحجّة ان النظام الشيوعي في أفغانستان لم يكن ديمقراطيّاً (ومَن كان ديمقراطيّاً من حلفاء أميركا، يومها أو الآن؟).
والدعاية السياسيّة الأميركيّة عن الحرب في أفغانستان فعلت فعلها في نفوس الناس حول العالم. كانت التقارير تتوالى في صحف وشاشات الغرب عن وحشيّة الجيش السوفياتيّ فيما لم تكن خروقات ووحشيّة الجهاديّين «البن لادنيّين» على أنواعهم تقلق بال أحد في الغرب (ومن أفظع من ارتكب جرائم حرب في الجيش السوفياتي في حينه، عبد الرشيد دستم الذي تحوّل في حقبة لاحقة إلى أداة بيد جرائم الحرب الأميركيّة في أفغانستان). نعلم اليوم بالتحديد ان الجيش السوفياتي كان يقاتل أعتى قوى الرجعيّة الدينيّة (ورعاتها الغربيّين)، والتي كان الإرهاب هو جهادها العالمي. تُرك الشعب الأفغاني وقواه التقدميّة لوحدهم. أما عن وحشيّة الجيش السوفياتي فإن ذلك يقلّ بالمقارنة مع وحشيّة التجربة الأميركيّة في غزو واحتلال أفغانستان. قتلت أميركا في أفغانستان أكثر بكثير مما قتل الاتحاد السوفياتي هناك. وكل الأرقام عن عدد ضحايا الحرب (السوفياتيّة) في أفغانستان تسير على خطى الدعاية الأميركيّة الصفيقة: ١) يُحسب ضحايا الإرهاب الجهادي الأفغاني (وجهاد رعاة هؤلاء في الغرب والشرق) في خانة ضحايا التدخّل السوفياتي. ٢) ليس هناك من مصداقيّة للأرقام التي كانت ولا تزال الحكومات الغربيّة ووسائل الإعلام تروّج لها، فيما لا تزال الحكومة الأميركيّة تتستّر على عدد ضحايا غزواتها واحتلالها للعراق وأفغانستان.
صحيح ان هناك عتباً من اليسار العربي على الاتحاد السوفياتي، بمنظور المراجعة التاريخيّة. أخطأت حكومة موسكو في قبول قرار التقسيم في عام ١٩٤٧ ثم في الاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب بعد يوميْن فقط من الاعتراف الأميركي العاجل. كما ان التقييم السوفياتي لدولة العدوّ (من منظور التواؤم الاشتراكي الذي سوقّته حكومة العدوّ فيما كانت هي تسوّق التواؤم الرأسمالي مع الولايات المتحدة الأميركيّة) ساهم في تقليص حماسة الشيوعيّة السوفياتيّة لحركات مقاومة العدوّ ولمشاريع تحرير الأراضي العربيّة. كما ان الاتحاد السوفياتي لم يواز في مساعدته للعرب، خصوصاً عسكريّاً، في مستوى المساعدات العسكريّة الأميركيّة والفرنسيّة (حتى عام ١٩٦٧) والألمانيّة لدولة العدوّ. كان يمكن للاتحاد السوفياتي مثلاً ان يساهم في إمداد عبد الناصر بقنبلة نوويّة لردع سلاح العدوّ النووي. كان هناك سيناريوهات مختلفة لمواجهة الصلف الإسرائيلي لكن الاتحاد السوفياتي كان دوماً يحثّ العرب على «الاعتدال» وعلى تخفيض سقف مطالبهم وطموحاتهم السياسيّة. والاتحاد السوفياتي رفض كل الأفكار والحلول العربيّة التي لا تقبل بوجود الكيان الإسرائيلي الغاصب على أرض فلسطين. والنصيحة السوفياتيّة لعبد الناصر ساهمت في حجم الهزيمة في عام ١٩٦٧، كما ان الضغط السوفياتي على كل فصائل المقاومة الفلسطينيّة ساهم في تقبّل حلّ الدولتيْن، ونسف مشروع «جبهة الرفض» الواعدة في عام ١٩٧٤.
لكن لا يمكن عزو الهزائم العربيّة كلّها إلى الاتحاد السوفياتي، لكن يمكن بسهولة عزو الانتصارات العسكريّة الإسرائيليّة إلى الدعم الغربي اللا محدود واللا مشروط. كان يمكن للاتحاد السوفياتي التخفيف من وطأة الدعم الغربي لو انه حاول ان يوازن لكنه لم يفعل لأنه خاف من إمكانيّة تفجّر مواجهة بين الدولتيْن العظمييْن اكثر بكثير من الحكومة الأميركيّة التي قامرت بمصير العالم اجمع للحفاظ على تفوّقها وعلى تفوّق حليفتها إسرائيل. فاق الخوف السوفياتي من حرب نووية الخوف الأميركي المحدود. الأمن القومي للدولة الأميركيّة أهم من السلم العالمي. رفع الاتحاد السوفياتي شعار «السلم العالمي» وكان يعنيه، وكانت الحكومة الأميركيّة تحارب (كما نعلم اليوم من وثائق منشورة) كل التجمعات والجمعيّات والمنظمّات التي نشدت السلم العالمي.
إن إمكانيّة تشكيل ألوية أمميّة للحفاظ على الحكومة الشيوعيّة الفتيْة في أفغانستان وعلى الوجود السوفياتي (الحليف) كانت واردة ومُلحّة، لكن الملامة لا تقع فقط على شيوعيّي العالم (الذين كانوا متشرذمين بين ماويّين ولينيّين وسوفياتيّين وتروتسكيّين وليبراليّين غربيّين) بل هي تقع أيضاً على الاتحاد السوفياتي نفسه. إن موسكو عبر «الكومنترن» بادرت إلى تنظيم عمليّات الألوية الأمميّة في العقد الرابع من القرن الماضي بمجرّد ان شعرت أن هناك حماسة شيوعية ويسارية اممية لمؤازرة الثوّار الجمهوريّين في إسبانيا. لكن موسكو قلّلت من قوّة الخصم (الأفغاني ومَن وراءه من دول إسلاميّة وغربيّة) وظنّت ان إخماد نار الجهاد الأفغاني المقيت لن يستغرق وقتاً طويلاً. لم يكن الاتحاد السوفياتي يعلم آنذاك أنه يحارب من أجل بقائه، وليس فقط من أجل حكومة حليفة في أفغانستان. لو كان الاتحاد السوفياتي يعلم مدى عمق الاستثمار الأميركي في الحرب العدوانيّة ضده وفي احتضان أعتى قوى الرجعيّة الدينيّة الإسلاميّة لكان بادر إلى الاستنجاد بقوى الشيوعيّة العالميّة. لكنه لم يفعل، وقلّل من تأثير حجم الاستثمار الأميركي وقرّر ان يُقلل من خسائره ويرحل. وكانت خسارة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان هي الخطوة الأولى (أو الأخيرة) في سقوط الإمبراطوريّة السوفياتيّة.
رعى الاتحاد السوفياتي نظاماً شيوعيّاً عالميّاً، عبر دعم أنظمة وأحزاب في مختلف أنحاء العالم. عندما تقدّر حجم الدعم السوفياتي للحزب الشيوعي اللبناني (غير الكبير) تدرك مدى أهميّة الدعم السوفياتي الحيوي. كانت كوبا تتلقّى نحو ٣ مليارات دولار سنويّاً (أي بقيمة الدعم الأميركي لدولة العدوّ الإسرائيلي) من أجل أن تبقى حصرماً في عين الحكومات الأميركيّة المتعاقبة. وهذا الدعم لم يُقابل من قبل الأحزاب الشيوعيّة العالميّة بدرجة من التقدير التي كان يمكن ان تُترجم في تشكيل ألوية أمميّة لمواجهة تنظميات الظلاميّة الإسلاميّة في أفغانستان. وهذه الأمميّة الشيوعيّة العالميّة كان يمكن لها ان تُضعف من وطأة الإرهاب الجهادي المنتشر حول العالم — منذ أن انتشى بنصره المُصطنع في أفغانستان.
لكن التاريخ لا يعود القهقرى. سقط الاتحاد السوفياتي وسقطت معه الأحزاب الشيوعيّة التي يحاول بعضها الهرب من تاريخه. وإرهاب شراذم وبقايا مجموعات المجاهدين الأفغان لا تزال تروّع العرب، وظاهرة «الأفغان العرب»، تجثم على صدور المجتمعات العربيّة وتزيح مسار انتفاضات التغيير العربيّة عن مسارها الذي أرادته لها الشبيبة العربيّة. مرّت فرصة عظيمة لليسار الشيوعي والفوضوي العالمي للدفاع عن نظام القطبيْن الذي شكّل في حدّ ذاته عقبة امام الطموحات الأميركيّة للسيطرة العالميّة والكونيّة من دون منافسة. لكن تضعضع الهويّة الشيوعيّة الأمميّة حول العالم كان في جزء منه نتاج عقليّة ستالين وشعار «الاشتراكيّة في بلد واحد». شكّل التحالف الشيوعي الأممي خطراً على السيطرة السوفياتيّة وعلى مسار وعقائد الأحزاب الشيوعيّة حول العالم. ولم تكن «الكومنترن» إلا أداة. كانت الأحزاب الشيوعيّة تعقد اجتماعات دوريّة وتصدر فيها بيانات مُعلّبة تأتيها مُسبقاً من السفارات السوفياتيّة.
لكن سقوط الاتحاد السوفياتي على علاّته شكّل مقتلة لليسار العالمي وأتاح للولايات المتحدة إحكام سيطرتها العالميّة. وإطلاق العنان للإرهاب الإسلامي الجهادي كان من صنع تلك الفترة حيث تشكّل محور الرجعيّة الدينيّة الثلاثي: الأميركي - السعودي - الباكستاني. هذا المحور متزامناً مع صعود الحقبة الخمينيّة في إيران قضى على معظم أحلام اليسار. واليسار يتحمّل مسؤوليّة عمّا جره له، لكن المراجعة التاريخيّة تذكّر بقدرات عاتية أُهدِرت، وبأحلام طموحة تبدّدت، وبأمميّة غير قوميّة تبخّرت. لكن تبقى تجربة «ألوية الأمميّة» حلماً جميلاً، وإن لم يتجدّد في تلال وجبال أفغانستان في الثمانينيات.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)